للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة
(١)

مدعو الصحبة كذبًا
كان وضع الأحاديث أوسع أبواب الفتنة في الإسلام وأفسح مجال للعائثين فيه ,
وقد فتك أعداء هذا الدين فيه بهذه الضلالة فتكًا ذريعًا , وكان لهم من التفنن فيه
غرائب وعجائب أبعدها عن الحق وأدناها إلى ظهور البهتان دعوى الصحبة كذبًا.
وأعجب من ذلك أنه لم يدع أحد شيئًا إلا ووجد من يصدقه , ولم ينعق ناعق بدعوة
إلا ووجد من يجيبه مهما كان كذب الدعوى ظاهرًا وبطلان الدعوة واضحًا.
فَنَّدْنَا في الجزء الماضي زعم من ادعى الصحبة لأبي سعيد الحبشي (١)
صاحب حديث المصافحة ونذكر ههنا بقية ممن وقفنا على أسمائهم من أهل هذه
الدعوى (٢) فمنهم (رتن الهندي) قال الحافظ الذهبي: وما أدراك ما رتن شيخ
دجّال بلا ريب ظهر بعد الستمائة وادعى الصحبة وقيل: إنه مات سنة اثنتين
وثلاثين وستمائة , وقد كذب وكذبوا عليه , (٣) ومنهم مكلبة بن ملكان
الخوارزمي زعم أن له صحبة وأنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا
وعشرين غزوةً، وكان في حدود أربعين ومائة. قال الحافظان الذهبي وابن حجر
وغيرهما: إنه شخص كذاب أو لا وجود له. وقال الحافظ ابن كثير: (أعجوبة
من العجائب مكلبة بن ملكان أمير خوارزم بعد الثلاثمائة بقليل ادعى الصحبة ... )
إلى أن قال: ولم يرو عنه إلا المظفر بن عاصم العجلي ولست أعرفه , والغالب أنه
نكرة لا يعرف , (٤) ومنهم جعفر بن نسطور ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم
دعا له بطول العمر وعاش ٣٤٠ سنة , قال في الذيل: هو أحد الكذابين الذين
ادعوا الصحبة بعد المائتين , (٥) ومنهم سرمالك ملك الهند في بلد قنوج قال: إن
له سبعمائة سنة , وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ إليه حذيفة وأسامة
وصيصبا وغيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب الدعوة وأسلم , قال الحافظ الذهبي:
هذا كذب واضح وزعم أيضًا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بمكة
ومرة بالمدينة ومات سنة ٣٣٣ وهو ابن ٨٩٤ سنة. وهؤلاء من الأعاجم وفيهم من
لقب بالأمير والملك وأصحاب هذه الألقاب أقدر على ترويج الفتن ممن عداهم.
ولم يسلم ضلال العرب من هذه الفتنة بعدما كان للرواية والرواة ما كان لهم
من نباهة الشأن فممن ادعى الصحبة (٦) منهم جبر بن الحرث قال الحافظ (ابن
حجر) في اللسان عن الأمير عبد الكريم بن نصر: قال: كنت مع الإمام الناصر
في بعض منتزهاته للصيد فلقينا في أرض قفر بعض العرب فاستقبلنا مشايخهم ,
وقالوا: يا أمير المؤمنين عندنا تحفة هي أننا كلنا أبناء رجل واحد وهو حي يرزق ,
وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وحضر معه الخندق واسمه جبر بن الحرث
فمشوا إليه فإذا هو في عمود الخيمة معلق مثل هيئة الطفل فكشف شيخ العرب عن
وجهه وتقرب إلى أذنه , وقال: يا أبتاه , ففتح عينيه فقال: هذا الخليفة جاء
يزورك فحدثهم , فقال: حضرت مع النبي صلى الله عليه وسلم الخندق فقال:
(احضر يا جبير جبرك الله ومتع بك وأوصاني) وكانت هذه الواقعة في جمادي
الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة , (٧) ومنهم جابر بن عبد الله اليماني وهو
كذاب جاهل , (٨) ومنهم قيس بن تميم الطائي الكيلاني حدث في مدينة كيلان عن
النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع عشرة وخمسمائة وسمع منه جماعة أكثر من
أربعين حديثًا قال ابن حجر: هو من نمط شيخ العرب ورتن الهندي , (٩) ومنهم
عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المعروف بابن ابي الدنيا الأشبح , قال الذهبي
في الميزان: ظهر على أهل بغداد وحدث بعد الثلاثمائة عن علي بن أبي طالب
فافتضح وكذبه النقاد ومات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. (١٠) ومنهم علي بن
عثمان بن خطاب قال الحافظ: حدث سنة إحدى عشرة وثلاثمائة بالقيروان عن
علي بن أبي طالب وزعم أنه رأى الخلفاء الأربعة.
وأنت ترى من تاريخ هؤلاء الكذابين الوضاعين الذين تجرءوا على ادعاء
الصحبة أن باب الوضع فُتِحَ وإفساد الدين ابتدأ مع الاشتغال برواية الحديث لا سيما
في القرن الثالث والرابع والخامس فيجب أن لا يثق الإنسان بحديث يراه في كتاب
أو يسمعه من أي إنسان حتى يكون على بينة من صحته رواية ودراية , وسنوضح
هذا في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))