ويقال (سادس عشر) كل طائفة منكم - معاشرَ المقلدين - قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا مَن قلَّدتموه في مكان مَنْ لا يعتد بقوله، ولا ينظر في فتواه، ولا يشتغل بها، ولا يعتد بها، لا وجه للنظر فيها إلا للتمحُّل وإعمال الفكر وكده في الرد عليهم، إذا خالف قولهم قول متبوعه وهذا هو المسوِّغ للرد عليهم عندهم فإذا خالف قول متبوعهم نصًا من الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحايل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم، فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بإعلامه ويذب عنه، فمَن أسوأُ ثناءً على الصحابة والتابعين، وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافًا بحقوقهم، وأقل رعايةً لواجبها، وأعظم استهانةً بهم ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله. ويقال (سابع عشر) من أعجب أمركم - أيها المقلدون - أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله مع سهولته وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض والاختلاف عليه، فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق، وبيَّن لعباده ما يتقون، فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أوْلى بالتقليد من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه، وهلم جرّا. وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم؛ فعجبًا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق ولم يهتدِ إليها واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله على ذلك دليلاً واحدًا. ويقال (ثامن عشر) أعجب من هذا كله من شأنكم - معاشر المقلدين - أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها، والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها وتطلَّبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء - إذا وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله أخذتم به وقلتم لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كيت وكيت، وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل أكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولوا لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا. وإذا وجدتم مرسلاً قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك، وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل. ويقال (تاسع عشر) أعجب من هذا أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلاً كان أو مسندًا لموافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم وهو حديث واحد وكأنَّ الحديث حجة فيما وافق رأي مَن قلدتموه وليس بحجة فيما خالف رأيه، ولنذكر من هذا طرفًا فإنه من عجيب أمرهم: (١) فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائها هو فضل وضوئها، وخالفوا نفس الحديث فجوَّزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر وهو المقصود بالحديث؛ فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر فخالفوا نفس الحديث الذي احتجّوا به وحملوا الحديث على غير محمله؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فَضُلَ منه ليس هو الماء المتوضّأ به فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء فاحتجوا به فيما لم يرد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به. (٢) ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا: لو بال في الماء الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين. (٣) واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا) ثم قالوا: لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ولا يجب عليه غسلها وإن شاء أن يغمسها قبل الغسل فعل. (٤) واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا: لا يجب حفرها؛ بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت. (٥) واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس) يعني الزكاة. ثم قالوا: لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب. (لعل الصواب بني المطلب) . (٦) واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه يُنَجَّسُ الماء؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ، ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا: لا يحل ما مات في البحر من السمك ولا يحل شيء ما فيه أصلاً غير السمك. (٧) واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات..) ثم قالوا: لا يجب غسله سبعًا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثًا. (٨) واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديثٍ لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه: (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم. (٩) واحتجوا بحديث علي بن أبي أطالب - كرم الله وجهه في الجنة -[١] : في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه. ثم (١٠) احتجوا بحديث عمرو بن حزم أن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعًا [٢] . (١١) واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصرّاة وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارًا له ولا يقولون به فإن كان حقًّا وجب اتِّباعه، وإن لم يكن صحيحًا لم يجُز الاحتجاج به في تقدير الثلث مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي احتجّوا عليه به لم يدل عليه. (١٢) واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حبَّان بن مُنْقِذ الذي كان يغبن في البيع فجعل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيار ثلاثة أيام، وخالفوا الخبر كله فلم يُثْبِتُوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه وسواء قال المشتري: لا خلابة، أو لم يقل وسواء غبن قليلاً أو كثيرًا لا خيار له في ذلك كله. (١٣) واحتجّوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلاً أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفِّر ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا إن استفّ دقيقًا أو بلع عجينًا أو أهليلجًا أو طيبًا أفطر ولا كفارة عليه. (١٤) واحتجّوا على وجوب القضاء على مَن تعمد القيء بحديث أبي هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ بأقل من ملء فيه فلا قضاء عليه. (١٥) واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم) ، وهذا مع أنه لا دليل فيه ألبتة على ما ادَّعَوْه فقد خالفوه نفسه فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم! (١٦) واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وَقَصَتْه ناقتُه وهو مُحَرِم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تخمِّروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة مُلبِّيًا) وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه. (١٧) واحتجوا على إيجاب الجزاء على مَن قتل صيدًا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه آله وسلم ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: لا يحل أكلها. (١٨) واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ثلثي ابنة لبون فساوى ابنة مخاض أو حمارًا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه: (مَن وجبت عليه ابنة مخاض ليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهمًا) . وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك ويستدلّون على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به. (١٩) واحتجّوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو. وفي لفظٍ: في السفر) ولم يقولوا بالحديث فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك. (٢٠) واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل فقالوا: لا يجب أن يُطعَم منها جارٌ ولا سائلٌ. (٢١) واحتجّوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دُعي إلى طعام مع رهط من أصحابه فلما أخذ لقمة قال: (إني أجد لحم شاة أُخذت بغير حق) فقالت المرأة: يا رسول الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تطعم الأسارى) وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال ولم يحرم على المسلمين. (٢٢) واحتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (جرح العجماء جبار) في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما دلّ عليه وأريد به فقالوا: مَن ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لما عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها. (٢٣) واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البرء بالحديث المشهور أن رجلاً طعن آخر في ركبته بقرن فطلب القَوَد فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حتى يبرأ) فأبى فأقاده قبل أن يبرأ.. الحديث. وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا: لا يقتص منها. (٢٤) واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأَمَة ابنه أو أم ولده بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وخالفوه فيما دل عليه فقالوا: ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة ولم يبيحوا له من مال ابنه عُود أراك فما فوقه وأوجبوا حبسه في دَينه وضمان ما أتلفه عليه. (٢٥) واحتجوا على أن الإمام يكبّر إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة، بحديث بلال أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبقني بآمين، وبقول أبي هريرة لمروان: أن لا تسبقني بآمين، ثم خالفوا الخبر جهارًا فقالوا: لا يؤمّن الإمام ولا المأموم. (٢٦) واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المُغِيرة بن شُعبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته وعمامته ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا: لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليها ألبتة فإن الفرض سقط بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))