للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المحاورة الثالثة عشرة بين المصلح والمقلد

التقليد والوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء
نهى الإمام أحمد وأتباعه عن التقليد، ترك التقليد ليس غمطًا للأمة والعلماء،
أحكام الشرع قسمان: روحاني لا تقليد فيه ودنيوي يُتبع فيه أولو الأمر
المجتهدون، الوحدة الإسلامية في المعاملات السياسية والقضائية، المشاورة
والإجماع، تفويض الشارع أمر الأحكام لأولي الأمر المجتهدين، تقديم الحكم
بالمصلحة الموافقة للقواعد العامة، نكاح المتعة، الحكم بالاستحسان عند الحنفية،
حكم القاضي بعلمه، أسباب الحكم ليست تعبدية، حكم القضاء على الظاهر وحكم
الدين على الباطن، العدل هو ما يوصل إلى الحق، اقتراح على أهل الحل والعقد أن
يؤلفوا كتابًا في السياسة والقضاء يوافق المصلحة الإسلامية في هذا العصر.
اجتمع الشيخ المقلد والشاب المصلح لإتمام المحاورة والمناظرة بعد فترة
طويلة، وابتدأ الشاب الكلام فقال:
المصلح: الأولى لنا أن نورد شيئًا مما يؤثر عن ناصر السنة الإمام أحمد بن
حنبل رحمه الله تعالى في النهي عن التقليد؛ ليعلم الذين ركنوا إلى تقليد هؤلاء
الأئمة الأربعة أنهم ليسوا على هديهم في هذا التقليد، وقد كان هذا الإمام الجليل
متأخرًا قليلاً عن الثلاثة، وإن أدرك بعضهم وصحب أحدهم، وكان قد رأى بوادر
التزام تقليد الذين تكلموا في الأحكام وكتبوا فيها وعلم أن الإمام مالكًا رحمه الله تعالى
قد ندم قبل موته أن نقلت أقواله وفتاويه؛ ولذلك لم يدون مذهبًا، واقتصر على
كتابة الحديث؛ ولكن أصحابه جمعوا من أقواله وأجوبته وأعماله ما كان مجموعه
مذهبًا كما قال العلامة ابن القيم، وسأله أبو داود عن الأوزاعي ومالك أيهما أتبع،
فقال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
فخذ به، وذكر أن الرجل مخير في التابعين.
المقلد: إذا كان خَيَّرَ في اتِّبَاع التابعين فتلك رخصةٌ بتقليدهم.
المصلح: إنه كان يفرق بين الاتباع والتقليد، قال أبو داود: سمعته يقول:
الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم هو من
بعد في التابعين مخير، وقال أيضًا: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا
الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا، فالتقليد هو الأخذ بقول أحد من غير
معرفة دليله، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن إلا بعد العلم بسنته، فاتحد
الدليل والمدلول، وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد اختلف الأئمة في الأخذ
بالموقوف عليهم، فمنهم من يقول به كأحمد ومنهم من يقول هم رجال ونحن رجال
ومنهم من فصَّل وليس هذا من غرضنا الآن؛ ولكننا نفهم من عبارة الإمام أحمد
أن مراده الاهتداء بعمل الصحابة وسيرتهم لا تقليد واحد منهم بعينه في كل ما يقول
وإنما خير في التابعين؛ لأن المختار من لا يتبع الهوى في اختياره؛ وإنما يسترشد
بمن يراه أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً.
المقلد: أليس هؤلاء الأئمة الأربعة خيرًا من كثير من التابعين، فلماذا لا
تختار اتباعهم، ونكون آخذين برخصة الإمام أحمد في ذلك بالأولى؟
المصلح: إن الأئمة الأربعة أولى بأن يتبعوا في سيرتهم العلمية والعملية من
كثير من التابعين، وقد اتبع أحمد الشافعي في طرق الفهم والاستنباط، وفضَّله في
حداثة سنه على الشيوخ الذين كان يُرحل إليهم؛ ولكنه لم يقلده تقليدًا، روى الحاكم
بسنده إلى الفضل بن زياد العطار أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (ما مس
أحد محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة) ولولا أن المتأخر من العلماء يهتدي
بهدي المتقدم لما ارتقى علم في الدنيا، ولو أن المتأخر يأخذ بكل ما يقوله المتقدم لما
ارتقى علم في الدنيا.
المقلد: إذا كان الإمام قد نهى نهيًا صريحًا عن تقليده، فلماذا دوَّن أصحابه له
مذهبًا مستقلاًّ، وحملوا الناس على العمل به؟
المصلح: هذا السؤال يرد على سائر المقلدين؛ فإن الأئمة الثلاثة نهوا عن
التقليد أيضًا، كما قلنا في مجالسنا السابقة، وقد كان أتباع الإمام أحمد أبعدهم عن
التقليد المحض، وأقربهم إلى ما كان يسميه إمامهم اتباعًا واهتداء، وذلك أنه لا
يزال مذهبهم الحديث، والفروع الفقهية عندهم مدللة باتباع السنة في الغالب؛ ولذلك
كان أكثر الحفاظ والمحدثين من أتباعه وليس فيهم من يترك الحديث لقوله كما يفعل
سائر فقهاء المذاهب الأخرى وهم أكثر الناس نعيًا على التقليد والمقلدين.
قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتاب (تلبيس إبليس) : اعلم أن المقلد
على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه خلق للتأمل والتدبر،
وقبيح ممن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أن
عموم اصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم، فيتبعون قوله
وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن عبد
الله الأعور بن الحوطي وقد قال له أتظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟
فقال له: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق
تعرف أهله) .
وقال ابن القيم العلامة المحدث المشهور بعد كلام في النفس الأمارة، ثم
النفس المطمئنة: (فإذا جاءت هذه بتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم
جاءت تلك (أي الأمّارة) بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم، فأتت بالشبهة المضلة بما
يمنع من كمال المتابعة، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق، والله يعلم أنها
كاذبة وما مرادها إلا التفلت من سجن المتابعة إلى فضاء إرادتها وحظوظها وتريه
(أى تري صاحبها) تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على
الآراء في صورة تنقص للعلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن بهم،
وأنهم قد فاتهم الصواب، فكيف لنا قوة بأن نرد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم
وتقاسمه بالله إن أردت إلا إحسانًا وتوفيقًا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: ٦٣) والفرق
بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقواله وإلغائها، أن تجرد المتابعة أن لا يُقَدِّم
على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قول أحد ولا رأيه كائنًا من كان، بل ينظر
في صحة الحديث أولاً، فإذا صح نظر في معناه ثانيًا، فإذا تبين له لم يعدل عنه ولو
خالفه من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا
صلى الله عليه وسلم، بل لابد أن يكون في الأمة من قال به ولو خفي عليك فلا تجعل
جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في تركه، بل اذهب
إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا؛ ولكن لم يصل إليك علمه.
هذا، مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم
في حفظ الدين وضبطه، فهم رضي الله عنهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة؛
ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك
، فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقًا، فمن
عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر
أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك، بل مخالفتهم في ذلك
أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على
أقوالهم، ومن هذا تبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال، وبين الاستعانة
بفهمه، والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله
من الكتاب والسنة، والمستعين بأفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل الأول، فإذا وصل
استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله
معنى إذا شاهدها، قال الشافعي: (من استبانت له سنة رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد) .
(ومن هذا تبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول
الذي غايته أن يكون جائز الاتباع، بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله
صلى الله عليه وسلم متلوًّا أو غير متلو، إذا صح وسلم من المعارضة، وهو حكمه
الذي ارتضاه لعباده ولا حكم له سواه، وأن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا
يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها؛ فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله
ورسوله قطعًا وحاشاهم عن قول ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم النهي عنه في قوله (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تجعل لهم
ذمة الله وذمة رسوله فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة
أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم
على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري
أتصيب حكم الله أم لا) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من
حديث بريدة، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، ولم يلزم
أحد منهم بقول الأئمة، قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاء بخير منه قبلته، ولو كان
هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك قال
مالك لما استشاره هارون الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك،
وقال: قد نفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند
كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين، وهذا الشافعي نهى أصحابه عن تقليده،
وكان يوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد أنكر على
من كتب فتاويه ودوَّنها، وكان يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا فلانًا وفلانًا وخذوا
من حيث أخذوا) اهـ.
قال المصلح بعد إيراد هذه الجملة الصالحة من كلام ابن القيم: إنني سقت هذا
الكلام بطوله لأذكرك بخلاصة ما مر من النقول والدلائل، وقد رأيت هذا الكلام
اليوم وأعجبني جدًّا.
المقلد: حاصل ما فهمته منك أن مذهبك مذهب المحدثين؛ ولكن ماذا تفعل
بالحديث إذا خالف مذاهب أهل السنة كلهم، كحديث أحمد ومسلم الذي ورد في آخر
كلام ابن القيم الذي يثبت الحكم لغير الله تعالى في قوله (أنزلهم على حكمك) وأهل
السنة يقولون: لا حكم إلا لله وحكمت المعتزلة بالعقل.
المصلح: إنما سمي أهل السنة بهذا الاسم؛ لأنهم يتبعون السنة إذا صحت،
وهذا الحديث صحيح عند أئمتهم في الحديث والفقه، فمن خالفه منهم فقد خرج عن
السنة في هذه المسألة، وإذا أخذ به المعتزلة فهم على السنة فيها، وكأني بك لا
تزال مصرًّا على أن مذاهبكم هي الأصل الذي يعرض عليه الكتاب والسنة، فإن
وافقاه قبلا، وإلا ردا بضروب من التأويل، ومن اعتقد هذا فهو بعيد عن السنة،
بل وهو بعيد عن الإسلام، وأنا أقول: معاذ الله أن تكون مذاهب أهل السنة مخالفة
لهذا الحديث ولكن عليك بالفهم ولا تؤاخذني بهذه الكلمة فقد آلمني قولك هذا بعد كل
ما تقدم.
أما أحكام الدين فهي لله كما قال أهل السنة والجماعة أخذًا من قوله تعالى: {إِنِ
الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: ٤٠) ولكن أحكام الله تعالى على قسمين قسم لا يستقل العقل بمعرفة أصوله
ولا فروعه وهو الروحاني المحض الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وإنما يفهم العقل
فائدته ومنفعته الدنيوية في جملته، ويفوض الأمر في منفعته الأخروية إلى الله
تعالى كالإيمان بالغيب من أمور الآخرة وما يتعلق بها، وكالعبادات ومواقيتها
ومقاديرها فهذا القسم يؤخذ عن الشارع ولا يتصرف العقل فيه بزيادة ولا نقص، وقد
تقدم الكلام عليه في بحث الوحدة الإسلامية في العبادات وما في معناها، وقسم
يستطيع العقل أن يعرف وجه المصلحة فيه بالتأمل والنظر والاختبار والقياس؛
ولكنه يكون عرضة للخطأ والضلال في بعض مسائله لضعفه تارة، ولميله مع
الهوى تارة أخرى، فوضع له الشرع قواعد عامة ليبني أحكامه الجزئية عليها
ويرجعها إليها، وهذا قسم المعاملات الدنيوية المبنية على أساس دفع المضار وجلب
المنافع وارتكاب أخف الضررين عند تعارضهما وتحتم وقوع أحدهما، وهذه المسألة
لازمة لما قبلها وكلاهما مجمع عليه، وهذا القسم هو الذي يجب تقليد العامة فيه لأولي
الأمر الذين يجب أن يكونوا مجتهدين في علوم الدين والدنيا؛ ولذلك سمَّاهم الشرع
أئمة.
المقلد: أذكر أن الوحدة الإسلامية التي ذكرت من قبل في شأن القسم
الروحاني من الدين، هي أن يكون ما أجمع عليه المسلمون الذين يُعْتَدُّ بإسلامهم هو
الذي يدعى إليه، وهو الذي يلقن للجماهير بحيث يعرفه ويفهمه كل من يدخل في
الإسلام، وتكون المسائل الخلافية الدينية كالمسائل العلمية لا تنافي الأخوة الإسلامية
في شيء يتبع العالم فيها ما صح عنده من غير أن يعيب مخالفه فيها، وإذا عرضت
للعامي يسأل من يثق بدينه وعلمه عن حكم الله فيها، فإن كان عنده شيء من
الكتاب والسنة ذكره له، وإلا توقف كما كان أئمة السلف وعامتهم يفعلون، إذا
تحققت الوحدة الإسلامية في هذا القسم بما ذكرت فكيف يمكن أن تتحقق في القسم
الثاني الذي جعلت مدار جزئياته على اجتهاد أولي الأمر، وهم لا بد أن يختلفوا كما
عُرف بالاختبار، وهل من دليل على تفويض الأحكام إليهم من السنة غير حديث
أحمد ومسلم الذي تقدم.
المصلح: أما جمع الكلمة وتحقق الوحدة الإسلامية بذلك، فبوجوب طاعة
أولي الأمر إذا حكموا بأمر أو قرروه وأمروا به، أي مما يتعلق بالمصلحة في
المعاملات؛ فإننا استثنينا الأمور الدنيوية المحضة لأن الله تعالى أكملها أصولاً
وفروعًا كما تقدم شرحه، ولما كانت هذه وظيفة أولي الأمر اُشترط فيهم أن يكونوا
من العلم في مرتبة الاجتهاد المطلق، وفرضت عليهم المشاورة وجعل إجماعهم
حجة شرعية بالنسبة إلى الجمهور المكلف بقبول أحكامهم، لئلا تنشق العصا
وتستباح البيضة بالخلاف والتفريق، وأما الأدلة على تفويض الأمر إليهم غير ما
تضمنته الآية والحديث السابق فأحاديث منها ما رواه أحمد والبخاري في تاريخه
والدورقي وغيرهم عن علي كرم الله وجهه قال: قلت: يا رسول الله إذا بعثتني في
شيء أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال: (بل الشاهد
يرى ما لا يرى الغائب) يدل الحديث على أن مراعاة المصلحة هو الأصل فيمن
عهد إليه بشيء من أمر الناس لا الأخذ بظاهر قول الشارع في الجزئيات، وإن
فرض عدم انطباقه على المصلحة، ويصلح الحديث حجة للحنفية على تقديم
الاستحسان على القياس الجلي المقدم على خبر الواحد إن أريد بالاستحسان ما نفهمه
من أنه ما يوافق المصلحة العامة من الأحكام؛ فإن ذلك هو الذي يوافق القواعد
الأصلية الثابتة بالنصوص القطعية، وهذا ظاهر في الأحكام الدنيوية والمعاملات
المعاشية؛ لأنها ليست تعبدية ولذلك تسري على المؤمن والكافر، ويحكم فيها
العرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وهذا الاستقلال الذي يدل عليه
الحديث لا ينافي وجوب المشاورة في الأمر الثابتة بنص القرآن، كما لا ينافي اتباع
سائر القواعد الشرعية التي هي أصول الاستنباط والاجتهاد، بل يستلزمها بدليل
آخر.
المقلد: إن قولك هذا يناقض ما أطلت به وأوردت عليه نصوص الأئمة من
أنه لا يجوز لأحد أن يرغب عن السنة إذا صحت عنده.
المصلح: إن هذه المعارضة هي أقوى شيء راجعتني فيه منذ تكلمنا في هذا
الأمر، والجواب عنها أنها مسلَّمة في الأمور الدينية المحضة، وهي التي لم نجعل
فيها رأيًا لإمام ولا حاكم، وأما الأمور السياسية والقضائية فهي محل الشبهة،
والجواب عنها أنه يجب العمل بالحديث الصحيح فيها إذا لم يناف المصلحة والمنفعة
فإن فُرض أنه وُجد حديث لا ينطبق على المصلحة؛ فإننا نعتبر هذا الحديث
معارضًا للأصول العامة القطعية المؤيَّدة بالكتاب والسنة العملية والقولية أيضًا
كحديث (لا ضرر ولا ضرار) ونحوه، ولا شك أن هذه الأصول مرجحة على
ذلك الحديث الذي فرضنا وجوده؛ لأنه لا يكون إلا من أحاديث الآحاد التي لا تفيد
إلا الظن، فلا يقال حينئذ إننا تركنا السنة بتركه أو رغبنا عنها؛ وإنما رجحنا منها
ما هو أولى بالترجيح، على أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قضى في مسائل كثيرة بخلاف ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كمسألة
الطلاق الثلاث التي تكلمنا عنها بالتفصيل في شرح المقدمة الحادية عشرة من
المحاورة السابعة، ومنها مسألة المتعة أخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال كنا
نستمتع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر حتى نهانا عنها عمر في شأن حديث عمرو بن
حريث، وروى عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان يراها حلالاً ويقرأ {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} (النساء: ٢٤) قال وقال ابن عباس في حرف أُبي بن كعب:
(إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) قال: وكان يقول: يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة
رحم الله بها عباده ولولا نهي عمر لما احتيج إلى الزنا أبدًا، وهو صريح بأن عمر
نهى عنها اجتهادًا منه.
المقلد: إن نكاح المتعة محرم بإجماع أهل السنة، ولولا خلاف الشيعة فيها
لكان فاعلها كافرًا، ويروون أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رجع عن إباحتها،
وورد في الأحاديث الصحيحة التي النهي عنها.
المصلح: مهلاً إن كان هناك اتفاق من المتأخرين فسببه امتثال المسلمين لقول
عمر، وهو إقرار له على الحكم بتحريم شيء كان أُحل للضرورة فخاف عاقبة
توسع الناس فيه، ورأى المصلحة في إبطاله، وهو مأمور أن يحكم بمقتضى
المصلحة، فهو بذلك ممتثل أمر الله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما فوض إليه
وعهد إلى أمانته، فلا يقال إنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من تعارض
عنده قولان فعمل بأرجحهما لا يقال إنه غير متبع، وأما الصحابة فقد نُقل عنهم
الخلاف في المسألة، فروى ابن حزم تحليلها عن جماعة منهم ابن عباس وابن
مسعود وجابر بن عبد الله ومعاوية وعمرو بن حريث وأبو سعيد وسلمة ابنا أمية
ابن خلف، ومنهم أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وروي عن
جابر أنه قال بعدما ذكر أن عمر نهى عنها في آخر خلافته: (إنه إنما أنكرها إذا لم
يشهد عليها عدلان فقط) قال ابن حزم: وقال بها من التابعين طاوس وعطاء
وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة، وما ورد من الأحاديث في النهي عنها، ثم الإذن
فيها، ثم النهي عنها، فبعضه ضعيف وبعضه صحيح، وصرح بعضهم بأن الإذن
محمول على حال الضرورة بنحو سفر وعزبة، والمنع محمول على حال الإقامة،
ولو كان النهي قطعيًّا عامًّا مؤبدًا لما جهله الصحابة الذين استمروا على استباحة
المتعة طول حياته عليه السلام ومدة خلافة أبي بكر ومعظم خلافة عمر حتى نهاهم
عنها.
المقلد: لقد شهدت لك أيها الشاب الفاضل بسعة الاطلاع وطول الباع، ولو
لم يكن من مضرة التقليد إلا عكوفنا على كتب أصحاب مذهبنا وإهمالنا النظر في
كتب السنة لكفى، وإنني - والحق أحق أن يتبع - لا أدري ماذا أقول لك، وإن كان
في نفسي حرج من بعض ما تقول، وأخشى أن تكون مخادعي بقوة عارضتك، فبينا
أنت تقيم البرهان على أنه لا يجوز العمل بقول أحد غير المعصوم إذا بك تنهض
بالحجة على ترك الحديث لاجتهاد المجتهدين، نعم إنك جعلت لكلٍّ محلاًّ بحيث لا
يعترض عليك، ولا سيما وقد وافقت في كل قول إمامًا من الأئمة؛ فإن الإمام أبا
حنيفة وأصحابه يقدِّمون الاستحسان على القياس، وعلى خبر الواحد، وقد انشرح
صدري لتفسيرك الاستحسان؛ ولكنني أعني بالمخادعة أن من يسمع منك أحد
الكلامين لا يخطر له على بال أنك تقدر على الاحتجاج للثاني، وقد كان وقع لكلامك
شيء في نفسي من الاستحسان والقياس.
المصلح: أحسنت فيما ذكرت من مضرة التقليد؛ فإنه الحجاب الأعظم دون
العلم والفهم، ولو شئت لزدتك من ذكر الأحكام التي حكم فيها عمر رضي الله عنه
بمثل ما حكم في الطلاق الثلاث ونكاح المتعة؛ ولكن الوقت قد ضاق، فإن أحببت
الاستزادة فشرفني مرة أخرى أزدك إن شاء الله تعالى، وأريد الآن أن أقرأ عليك
جملة نفيسة قالها الإمام الشوكاني في بحث خلاف العلماء في قضاء القاضي بعلمه
وهي:
(والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أنه يقال: إن كانت الأمور التي جعلها
الشارع أسبابًا للحكم كالبينة واليمين ونحوهما أمورًا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم
إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا الوقوف عندها
والتقيد بها وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان، وإن كانت أسبابًا يتوصل
بها الحاكم إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ غير مقصودة
لذاتها، بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن، وأنها أقل
ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر
، فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن شهادة الشاهدين والشهود
لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة، أو ما يجري مجراها فإن الحاكم
بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين، ولهذا يقول المصطفى صلى
الله عليه وآله وسلم (فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه إنما أقطع له
قطعة من النار) فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابًا وتجويز كونه خطأ،
فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم اليقين؟ ولا يخفى رجحان
هذا وقوته؛ لأن الحاكم قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى) اهـ
المراد منه على أن له فضل بيان.
المقلد: إن أحكام المعاملات عندنا من الدين ونحن متعبدون بها.
المصلح: نعم إنها من الدين بمعنى أن الدين أرشدنا إلى اتباع الحق وإقامة
العدل فيها، وهي أحكام يتحرى فيها الحاكم ذلك، فإن أصابه فقد أصاب حكم الله
كما ورد (حيثما وجد فهناك حكم الله) ولذلك يقول الفقهاء: فله كذا والحكم كذا
قضاء لا ديانة أو ديانة لا قضاء، الأصل في هذا حديث (إنما أنا بشر وإنكم
تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما
أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار)
رواه أحمد والستة عن أم سلمة (الألحن بالحجة هو الأفصح بها والأظهر احتجاجًا)
فالحق ثابت في نفسه لا يتغير أخطأه الحاكم أم أصابه، وكذلك العدل لأنه إصابة
الحق.
المقلد: العدل هو ما وافق الحكم الشرعي والجور والظلم ما خالفه لقوله تعالى:
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: ٤٥) .
المصلح: إن الظالمين الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الذين لا يحكمون
بالعدل؛ لأن الذي أنزله الله تعالى وجعله آلة الحكم بين الناس هو العدل، قال
تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) وقال عز
وجل: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: ١٧) فالله تعالى لم
ينزل آيات قرآنية بعدد الوقائع التي تحدث للناس، وقال احكموا بها فإنها العدل،
وإنما أعطانا ميزانًا نعرف به الحق الراجح من المرجوح، وهو ما أرشدنا إليه من
القواعد العامة التي يكون بها الترجيح وأشرنا إلى بعضها في كلامنا السابق، أرأيت
أن العرب عندما كانوا يسمعون الأمر بالحكم بالعدل يفهمون منه أن العدل هو أحكام
فرعية منصوصة يجب العمل بها؟ أرأيت ذلك الرجل الذي قال يا (محمد اعدل)
يريد احكم بالفروع التي جئت بها، وجواب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
له (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) يريد به
ذلك؟
والحديث رواه أحمد ومسلم عن جابر وسببه أنه عليه السلام كان يعطي الناس
شيئًا من الفضة عند منصرفه من حنين، نعم إن ما ورد في الكتاب وصح في السنة
من الأحكام فكله عدل وقسط؛ ولكن الأحكام الاجتهادية التي استنبطها الفقهاء منها
ومنها، ولذلك وقع فيها الاختلاف والحق في نفسه واحد سواء أكان الذي أخطأه
مجتهدًا معذورًا، أم مقصرًا مأزورًا، والعدل هو ما يحفظ الحق أو يوصل إليه من
غير ميل مع إحدى الريحين، إلى جانب أحد الخصمين، وهو المقصود بالذات،
وإن تعددت الطرق والدلالات، واختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والحالات،
أرأيت إذا وضع القاضي متهمين في بيت ووضع عندهما حافظة الصوت
فونوغراف، فتكلما في كيفية ارتكابهما الذنب وائتمرا في كيفية الإنكار، فنطقت
بذلك الآلة أمام القاضي ألا يكون موقنًا بذنبهما، وهل يأتي مثل هذا اليقين في شهادة
الشاهدين؟
وحاصل ما أريد بالوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء أن يجتمع أهل الحل
والعقد من العلماء والفضلاء، ويضعوا كتابًا في الأحكام مبنيًّا على قواعد الشرع
الراسخة، موافقًا لحال الزمان، سهل المأخذ لا خلاف فيه، ويأمر الإمام الأعظم
حكام المسلمين بالعمل به، وهذه هي وظيفته فإن لم يقم بها؛ لأنه ليس أهلاً لها،
فعلى العلماء أن يقوموا بها ويطالبوه بتنفيذها، فإن لم يفعلوا فيجب على كل مسلم
أن يعرف أن الأمراء والعلماء هم الذين أضاعوا الدين، وفرَّقوا كلمة المسلمين،
وليستعدوا لتقويمهم إن كانوا مؤمنين اهـ.