وقد ادعى المحجوب أن الأحاديث التي تدل على جواز دعاء غير الله تعالى - كما يفعله العوام - كثيرة مشاريعها، مفعمة تضيق المهارق عن استقصائها، ولم يأت منها بشيء قط، فإن أثر الاستسقاء ليس حديثًا مرفوعاً، وطلب الدعاء من أويس ليس محلاًّ للنزاع، فإن الدعاء يطلب من الأعلى للأدنى؛ إذ لا خلاف في فضل عمر على أويس، وكل ما ورد في الشفاعة خاص بالدار الآخرة، والوهابية يعترفون به كله ويفرقون بينه وبين الشفاعة التي أنكرها الله تعالى على المشركين، كما فرق ابن تيمية بينهما في كتبه المتداولة، وفد بينا ذلك في التفسير وغيره مرات. قال المحجوب: (وأما ما جنحت إليه من هدم ما يبنى على مشاهد الأولياء من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهيا، والبلية العظمى، من الظلم الذي أضلك الله فيه على علم) ثم إنه بعد سرد جمل وأسجاع من هذا السباب أوَّلَ الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر بقوله: (إن محل ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء على مقابر المسلمين المعدة لدفن عامتهم لا على التعيين؛ لما فيه من الحجر على بقية المستحقين، ونبش عظام السابقين) ثم جعل محل الإباحة كون البناء في ملك الباني وأنه لا حرج فيه، ثم ذكر أن المسألة محل خلاف بين النظار، وأن هذا المنكر ليس متفقًا عليه! ! أقول: ما أفسد الدين في أمة من الأمم إلا مثل هذا التحريف للنصوص ممن يلبسون على الجهل لباس العلماء، فتتبعهم العامة على تحريفهم فتضل عن دينها، ولمثل هذه الغاية الرديئة منعوا العلم بالكتاب والسنة زاعمين بجهلهم أنه لا يفهمهما أحد بعد قرن كذا. ألا يكفي لمن له أدنى إلمام بالعربية وإن كان عاميًّا أن يضرب بتأويل المحجوب وتحريفه عرض الحائط، إذا سمع الأحاديث الشريفة الواردة في ذلك، وقد ذكرناها ونشير هنا إلى بعضها. فمنها حديث أنس في الصحيحين وغيرهما، وحديث عائشة وابن عباس عند أحمد والشيخين وغيرهم، وحديث أسامة عند أحمد في لعن أهل الكتاب؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: (يُحذِّر ما صنعوا) أي: يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من مثل ذلك، وفي رواية لأحمد والشيخين والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا) الحديث. وفي رواية لابن سعد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك) والروايات في ذلك كثيرة، وهي تدل في جملتها وتفصيلها على أن مدار النهي والحظر تعظيم قبور الصالحين وجعلها في مواضع العبادة؛ كراهة أن يحدث ما حدث فينا حيث اتبع الجماهير منا سنن أولئك الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. فعظموا أصحاب القبور تعظيمًا وصل إلى حد العبادة، إذ صاروا يخشعون ويضرعون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات. أما إن العلماء لو كانوا يعظون الأمة بهذه الأحاديث لما بنت على قبور الصالحين القباب والمساجد وتعرضت للعنة الله ورسوله , ولكن قصَّرالكثيرون من المطلعين على هذه الأحاديث، ثم خلف من بعدهم خلف لا يعرفون الحديث ولا يفهمونه، فصاروا يحرفون ما يسمعون، ويؤولون للعوام والخواص ما يعملون، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه مع وجود الأحاديث بنصوصها وتفسير المحققين لها. أورد ابن حجر الفقيه جملة من هذه الأحاديث في بيان الكبيرة الـ (٩٣ -٩٨) من كتابه (الزواجر) وهي: (اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها) ثم قال: (عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث. ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا) أي: يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا. واتخاذ القبر مسجدًا معناه: الصلاة عليه أو إليه، وحينئذ فقوله - أي: قول ذلك الإمام الذي نقل ابن حجر قوله في كون هذه الأمور الستة من الكبائر - مكرر، إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم.. إنما يتجه هذا الأخذ إذا كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية (إذا كان فيهم الرجل الصالح) ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا، فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم، وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم للقبر؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به، والطواف به كذلك، وهو أخذ غير بعيد، سيما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على القبر سرجًا، فيحمل قول أصحابنا بكراهية ذلك على ماذا لم يقصد به تعظيمًا أو تبركًا بذي القبر [١] . (قال) وأما اتخاذها أوثانًا، فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي) أي: لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود أو نحوه [٢] ، فإن أراد ذلك الإمام بقوله: (واتخاذها أوثانا) هذا المعنى، اتجه ما قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بعد. نعم.. قال بعض الحنابلة: قصْد الرجل الصلاة عند القبر تبركًا بها عين المحادة لله ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها ثم إجماعًا، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، والقول بالكراهية محمول على غير ذلك؛ إذ لا يظن ظان بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره) . انتهى. (المنار) ذكرنا هنا ما قاله ابن حجر نقلاً وتفقهًا لا لأن ما جاء به أظهر من الأحاديث الشريفة، بل ليعلم من لم يطلع عليه وعلى أمثاله من أقوال العلماء المدققين أن التحريف الذي جاء به ذلك المحجوب تنبو عنه النصوص النبوية الشريفة، ويخالفه كلام العلماء المحققين في شرحها، وأن خصمه ما ضل في هذه المسألة - كما زعم - على علم. ولكنه هو ضل على تحريف وجهل، وهكذا كل كلامه منبئ بجهله أو تعمده التحريف. ولعل من طبع هذه الرسالة لو استشار كبار علماء تونس كالشيخ سالم أبي حاجب لأشاروا عليه بعدم طبعها؛ لأنهم يرون من العار نسبتها إلى واحد منهم. ثم ذكر المحجوب مسألة زيارة القبور، فجاء فيها بما هو مشهور على ألسنة العامة، وخصمه لا ينكر الرخصة في زيارة القبور , ولكنه ينكر أن تزار لغير ما صرح به في الحديث من سبب الزيارة، وهو العبرة وتذكر الآخرة، وما غلط به الغزالي من مسألة الاستمداد لا يقوم حجة عليه؛ لأنه لا يدخل في مفهوم الحديث بل يخالفه، على أن الغزالي لا يبيح تعظيم القبور ودعاء من دفن فيها، وغير ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حرَّف حديث (لا تشد الرحال) فألحق به قيد (نذر الصلاة فيها) ولو جاز لنا أن نقيد الآيات والأحاديث بما لا تدل عليه عبارتها لما سلم لنا من ديننا شيء، ومن جهله بالحديث أنه جعل غاية الاحتجاج وعمدة البراهين على زيارة قبر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) (كما في ص ١١) وأهون ما قال المحدثون في هذا الحديث: إنه ضعيف، كما ترى في الجامع الصغير للسيوطي، وكأن المحجوب قد حجب والعياذ بالله تعالى عن جميع كتب السنة حتى مثل الجامع الصغير. ثم احتج (في ص ١٢) ببناء سليمان لقبر الخليل عليهما السلام، وببعض روايات حديث المعراج: أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عند قبر جده إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيصلي ركعتين ففعل. وزعم أن هذا حديث صححه المحدثون الثقات وهو كاذب في ذلك، بل قال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص: إنه موضوع، ولم يكن لإبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم قبر مبني قبل الإسلام ولا في العصر الأول له. على أنه إذا صح لا يكون حجة على خلاف ما قلناه؛ لأنه لا يعارض الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ إذ لا يدل على أن القبر كان عليه مسجد، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم صلى إليه أو عليه معظمًا له، بل به تصدق كلمة (عنده) بالصلاة في مكان هناك، وإن بعد عن القبر. فإن فرضنا أنه هذا الحديث يعارضها والجمع بينه وبينها متعذر، وجب القول بنسخه دونها؛ لأن أحاديث المعراج كانت في أول الإسلام وأحاديث النهي عن القبور كانت قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه كان يقولها قبل الموت بخمس ليال ويقول: (اللهم إني بلغت) ثلاث مرات، ثم قال: (اللهم اشهد) ٣ مرات كما في حديث كعب بن مالك عند الطبراني , وأنى للمحجوب أن يطلع على هذا؟ وحرَّف أيضًا النهي عن وضع السرج على القبور، فقال (في ص ١٣) بحمله على تقدير صحته على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن انتفاع الزائرين، قال: (وأما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين، فهو جائز بلا مَيْن) وهذا من التحكم في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهوى، وقد علم مما مر عن ابن حجر فساد تحريفه. وبناؤه التحريف على فرض صحة الحديث من دلائل جهله بالرواية. وحرف أيضًا وأوَّل النذور والذبائح لأصحاب القبور، وزعم أن تلك النذور لا تفعل على أنها من باب الديانات. وبطلان هذا بديهي لكل مختبر، إلا أنه يجوز أن يكون لم يطلع على ما اطلع عليه من تلك البدع، فأطلق النفي كعادة أمثاله من الذين يكيلون جزافًا. وحرف أيضًا الأحاديث الواردة بطمس القبور وتسويتها؛ زاعمًا أن المراد طمس ما كان من ذلك للجاهلية، وأنه لا بأس باتباع المسلمين لسننهم، بل زعم أن المسلمين إنما يحفرون القبور تحت البناء وهذا لا دليل على منعه، والجاهلية يبنون على القبور (انظر: ص ١٥) ، وهذه سخافة لا يكاد يرضاها لنفسه عاقل، فإذا كانت الأحاديث صريحة في منع تعظيم القبور بالبناء عليها، فهل يعقل أن يكون هناك فرق بين تقدم بناء المسجد على لا قبر أو تأخره عنه؟ ؟ على أن المسلمين يفعلون الأمرين معًا كما هو مشاهد في مصر وغيرها. أما صاحب الذيل لتلك الرسالة (أحمد جمال الدين) فهو أجهل من المحجوب وأكثف حجابًا، فلا يستحق أن يقام له وزن فيرد عليه، وبماذا يخاطب من يرمي شيخ الإسلام ابن تيمية بالانحراف عن السنة وتحقير السلف، وهو الذي امتاز على جميع علماء الإسلام بنصر السنة وخذل البدعة والدعوة إلى اتباع السلف، وإظهار خطأ من خالفهم من المتكلمين والصوفية والفقهاء بالحجج والبينات النقلية والعقلية، ولولا هذا لما تكلم فيه أحد كما علم مما نشرناه من ترجمته في المجلد الماضي، وإن له رحمه الله كتابًا في المسألة التي يعبرون عنها بالتوسل، جمع فأوعى، سيطبع وينشر فنرى ما يقول عباد القبور فيه. أرسل إلينا هذا الكتاب لأجل طبعه، ونحن نكتب هذا الرد على المحجوب فاختصرنا فيه؛ لأن البيان المطول في مسألة التوسل التي هي أم هذه المسائل سيظهر في هذا الكتاب عن قريب، إن شاء الله تعالى.