للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر [*]

تربية الذكور مع الإناث وتعليمهما معاً
الشذرة الثالثة من جريدة أراسم
إني لا أخشى مغبة إفراطي وإفراط هيلانه في مَيْلنا إلى تلك الصبية التي
ألقتها العاصفة بين أيدينا لجواز أن يطلبها بعض ذويها يومًا ما، وكيفما كانت
نتيجة هذا الميل فلا بد له هنا من إثبات أمر يتعلق بعلم تركيب الإنسان ووظائف
أعضائه فأقول: كانت دولوريس لما التقطناها وآوينها إلى بيتنا محلاًّ لجميع العيوب
التي توجد في نظائرها اللاتي من قبيلها وبلادها فإنها كانت مع ظرافتها مكسالاً وأناة
قليلة العناية بشأنها، وإن كان لا بد من التصريح، قلت: إنها كانت كثيرة الوساخة،
وكان هذا الإغفال منها لنفسها مع مقدار عظيم من التغنج والتدلل من موجبات تكدر
هيلانه وحزنها، ولم ينجع في الكسر من زهوها والمطامنة من صلفها ما اتخذته
لذلك من العظات وضروب التوبيخ وأنواع الإيلام الخفيفة ولِمَا كان فيها من حدة
المزاج والتهيج عند مخالفتها فيما تريد كانت لا تبدي أدنى إشهاء للتعليم. أفرغت
هيلانه جهدها في إيقاظ عقل هذه الحسناء ناعسة الغابة [١] من سباته، فأخفق
مسعاها وبطل أثر ما استعملته من التعاويذ والطلاسم لرد هذا السحر الذي لا يدرى
أي جنية خبيثة من جنيات البيرو رمتها به على ما يظهر وإن أردت أن تعلم من
الذي أبطل هذا السحر فاعلم أنه (أميل) .
ذلك لأن مَيْلَ (لولا) إلى أن تعجبه وأن تتحامى ضروب سخريته بها وأنواع
زرايته عليها كان أشد تأثيرًا في إرادتها من جميع عظاتنا ونصائحنا.
كان هذا أول سلطان (لأميل) على قلبها وهي لا خطر فيه في سنهما.
من ذلك الحين وقع التنافس بينهما أما من جهته فلشدة زهوه وفخره بما له من
التقدم عليها في علومه القليلة وأما من جهتها فلغيرتها ورغبتها في منازعة ذلك التقدم،
والمرجو من هذا التنافس أن يعود دائمًا بفائدة على كليهما فإن درسهما مجتمعين
أحسن وأتقن منه منفردين؛ لأنه إذا اعتبر (أميل) نفسه أعلم من (لولا) اجتهدت
في التبريز عليه في ميدان المطالعة.
أرى أن هذه الصحبة تفيدها في أخلاقها أيضًا فائدة كبرى فإن الأطفال على
علم تام بما يشتركون فيه من العيوب، ولا يبقي بعضهم على بعض في تشهيرها
وتعييره إياها لذلك نرى (أميل) قلما يوقر (لولا) فيما يراه فيها من النقائص،
وهي أيضًا لا تقصر في أن تكيل له الصاع بمثله بدون أن يكون في هذه المشاغبات
الخفيفة ما يكدر صفو مودتهما الشريفة في شيء، وكأني بقائل يقول: إن هذه
المزايا بعينها توجد في معاشرة الأخ لأخته ووجودهما معًا! فأجيبه بأني في شك من
ذلك لعدم تمام الشبه في الجهتين.
زرت فيما مضى مدرسة للصم البكم كانت تنقسم في أول نشأتها إلى قسمين:
أحدهما للذكور والآخر للإناث فلم تلبث التجربة أن كشفت عيوب هذا التقسيم فإن
الصبايا اللاتي كن مقصورات في قسمهن كان يبدو عليهن التأخر عن الغلمان سنة
أو سنتين ولم يكن الغلمان أنفسهم بارعين في التقدم والنجاح فخطر في بال القائمين
على المدرسة أن يجمعوا الفريقين في غرف واحدة فكانت نتيجة هذا التغيير محمودة
فإنه لم يمضِ إلا يسير من الزمن حتى زال تأخر أحد الفريقين وانحطاطه عن الآخر
وتقدم الآخر تقدمًا لا نزاع فيه، ذلك لأن العُجب الذي هو خلق فطري في الذكر
والأنثى والطمع الذي هاجه في نفوس الغلمان وجود منافسات زاهيات بأنفسهن بينهم
واهتمامهم بأن يظهروا في أعينهن ممتازين عنهن كل ذلك ساعد من الجهتين على
ازدياد درجة معارفهم في دروسهم مع أنهم كانوا هم التلامذة الأولين لم يتغيروا وإنما
ظهر أن قواهم تضاعفت. لماذا لا يصح في حق الناطقين والناطقات ما صح في
حق الصم والبكم.
إنما يعارض القائمون على تربية الناشئين في الجمع بين الذكور والإناث
بحجة المحافظة على الأخلاق والآداب، ولو كانت هذه المعارضة مبنية على سبب
صحيح لكانت وجيهة سديدة ولكن لا بد أن نجيب هؤلاء المعارضين بأنه لم يفكر أحد
مطلقًا في جمع هذين الصنفين في قاعات النوم العامة، ولا شك أن تقسيم محالّ
المدرسة وأفنيتها والرياضيات المدرسية بالحكمة والتدبير يجنب كثيرًا من المضار
التي يخشى منها على الآداب والأخلاق.
على أن العمل العقلي إنما جعل لتذليل الغرائز والشهوات الخبيثة وقمعها لا
تنبيهها وتقويتها وإني خلافًا لأولئك المعارضين أرى أن في التفريق الكلي بين
الصنفين خطرًا على الفضيلة فإن فرط الاحتراس والاحتياط الصادر عن الرياء
والنفاق لا يكون منه إلا دعوة الفساد إلى الاحتيال للتطرق إلى الأخلاق من سبيل
الشر فلا يلبث أن يظهر فيها، وإن كثرة بث روح الحذر في أطهر المعاملات
وأعفها توقظ في اليافعين ما هو نائم من شهواتهم، وتظهر ما يكون كامنًا من
أشواقهم؛ فينبغي أن تزال هذه الحدود المادية ويعتاض منها بحدود الله التي فطرهم
عليها وجعلها في نفوسهم سياجًا لما فرضه عليهم.
لا أريد مما تقدم أن الذكر والأنثى في التربية سيان يصلح لأحدهما كل ما
يصلح للآخر، كلا بل إن كلاًّ منهما يقتضي تربية خاصة لاختلافها في المواهب
والفروض والغرض المخلوقَيْن من أجله، على أننا نرى النابغين والنابغات من
الصنفين يتكافئون ويتناسبون في بعض ذرى العلوم والفنون الجميلة والشعر،
فالأجدر بنا أن نفكر بإعداد الازدواج بين ما أوتيته الأنثى من رقة الوجدان وما
أوتيه الذكر من حصافة الجنان، فإن في ذلك لذة حياة الصنفين. وإن تربية شطري
النوع الإنساني منعزلين كأنهما لا يشتركان في شيء مما خلقا لأجله تعجيلاً بقطع
الصلة الاجتماعية، وأما تقديم الصبية إلى الصبي وتفهيمه أنها ستكون له في
المستقبل رفيقة في العمل والكدح في سبيل الخير والعدل والحق فهو أكثر انطباقًا
على مقتضى الفطرة وعلم الأخلاق.
وعلى كل حال ستتعلم (لولا) و (أميل) معًا إلى أن يقضي الحال التفريق.
إني لأرجو لكل منهما خيرًا كثيرًا من وراء هذا الاقتران العقلي.اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))