ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
(٢) اجتماع القوى والمناصب وانتشارها لما كان المسلمون سائرين على هذا الناموس الإلهي - ناموس الاجتماع والائتلاف - كانوا في الذُّروة العليا من التقدم والرقي، ولما حادوا عن هذا السبيل القويم سقطوا وانحطوا، فحلَّ محل الاجتماع الانتشار؛ فتفرق جمعهم، وتمزق شملهم، وتبددت قواهم، فكانوا قومًا بُورًا، ولم تقتصر هذه البلية على جانب دون جانب، بل عمَّت، وأحاطت الأمة من جميع الجوانب، وهي لا تزال ضاربةً بأطنابها منذ ألف وثلاثمائة سنة، بل آخذة في الازدياد، وما يمر يوم إلا وتشتد وطأتها فيها. وقد لهج الناس كثيرًا في انحطاط المسلمين، فعلَّلوا له عِللاً، واخترعوا له أسبابًا، غير أن القرآن الحكيم، والسنة النبوية، والعقل الصحيح لا يقيم لهذا القيل والقال والثرثرة وزنًا، ويرى أن الفساد والانحطاط نتيجة الانتشار والتشتت فقط، وكل ما عدا هذا من العلل، والأسباب فمتفرعةٌ منه، وراجعةٌ إليه، فعلة سقوط المسلمين واحدةٌ لا اثنتان، وإن سُميت بأسماءٍ مختلفةٍ، وذُكرت بألفاظ عديدةٍ. نعم، قد عمَّت الفوضى جميع شؤون الأمة، غير أننا نذكر ههنا واحدًا منها فنقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مركزًا للأمة الإسلامية ترتكز عليه، ونقطةً لقواها تجتمع عليها؛ فلهذا لم يَخْلُ بوفاته محل نبيٍّ وحامل شريعةٍ فقط، بل قد خَلا محل مركز جامعة الأمة، ومصدر قواها ونفوذها وحكومتها إلى غير ذلك من الأوصاف والخصائص التي كانت مجتمعة في شخصه الشريف؛ إذ إنه لم يكن كالمسيح - عليه السلام - معلمًا وواعظًا، ولا كالملوك الذين فتحوا، وحكموا ودمروا، وخربوا، أو عمروا وشادوا، بل كان - صلى الله عليه وسلم - جامعًا لصفات ومزايا كثيرة في حينٍ واحدٍ، فكان نبي الله ورسوله، وهادي الخلق، وواعظهم، وواضع الشريعة، ومؤسس الأمة، وحاكم البلاد، وصاحب السلطة؛ فحينًا يقوم في المسجد على المنبر المسقف بجذوع النخل وجريده، يفسر الوحي الإلهي، ويكشف عن خفايا أسباب السعادة الإنسانية، فهو إذ ذاك معلم الأخلاق، وواعظ الخلق، وتارةً يقسم في صحن هذا المسجد نفسه خراج اليمن على الناس، ويسير الجيوش إلى ميادين الوغى، فهو حينئذٍ حاكم إداري وسياسي، ثم تراه يصلح نظام البيوت والعائلات، وينفذ قوانين الطلاق والنكاح، وبينما هو هكذا إذ تأتيه الأخبار بقدوم الأعداء، فيأخذ سيفه على عاتقه، ويهبّ إليهم، ويناضلهم في بدر، وأحد، وتبوك، ثم تراه داخلاً كفاتحٍ عظيمٍ في مكة، فيملكها ويكون له السلطان فيها، فيمُنّ على هامات قريشٍ، وسادات العرب بالعتق، ويقيم بأمر الله ميزان القسط، ولا غَروَ، فالنظام الإسلامي يوجب أن تجتمع قوى الأمة، ومناصبها في مركزٍ واحدٍ؛ إذ هذا الدين الحنيف الفطري لم يفرق بين الدنيا والآخرة، بل جمعها في سلكٍ واحدٍ، وجعل الشريعة والحكومة شيئًَا واحدًا، وأخبر أن الله سبحانه إنما يرضى عن الحكومة التي يقوم بناؤها على أساس الشريعة الإسلامية، لا على قوانين الأهواء البشرية؛ ولذا كان صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - مركزًا لقوات الأمة الكثيرة، ومرجعًا لشؤونها المختلفة. ولما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بربِّه، قام في مقامه خلفاؤه الراشدون، فكانوا خير الخلفاء لسلفهم ورسولهم، وكانوا بذلك جامعين لسائر شؤون الأمة الدينية والسياسية، وقابضين على جميع قواتها، ومشرفين على مناصبها كلها، فكانت خلافتهم كالنبوة قائمة على أساس اجتماع القوى والمناصب؛ ولذا سميت (بالخلافة الراشدة) ، و (الخلافة على منهاج النبوة) . وليعلم أن منصب النبوة يشتمل على وظائفَ كثيرةٍ، منها تلقّي الوحي الإلهي، وتشريع القوانين والأحكام الدينية والسياسية، وصاحب هذا المنصب معصوم وغير مسئولٍ لدى الخلق، ولقد ارتفع هذا المنصب بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكملت الشريعة، وتمت نعمة الله على الخلق، فلا نبوة بعد نبوته، ولا شريعةَ بعد شريعته، ولا حق في التشريع لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا بلغ منتهى الكمال لا ينسخه شيءٌ آخر؛ إذ هذا منافٍ لكماله، ومُظهِر لنقصه، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) . نعم، تمت هذه الوظائف النبوية الأساسية، ولكن بقيت لها وظائف أخرى فرعية، وستبقى على حالها ما بقي من الناس باقٍ، وقد عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعباراتٍ مختلفةٍ، فقال عن عمر - رضي الله عنه - إنه: (محدث هذه الأمة) ، وقال عن العلماء إنهم (ورثة الأنبياء) ، وقال: (الرؤيا الصادقة جزءٌ من أربعين جزءًا من النبوة) ، وإنه: (لم يبقَ إلا المبشرات) ، وحديث: (التجديد) أيضًا من هذا النوع. فخلفاؤه الراشدون كانوا خلفاءه في جميع وظائفه النبوية غير تلقي الوحي وحق التشريع؛ إذ هما خاصان به، لا يشاركه فيهما أحدٌ من الخلق [١] ، فكانوا مثله خلفاء الله في أرضه، وأصحاب السلطان، والنفوذ فيها، وسُوَّاس الأمم، وقُوَّاد الجيوش، وقضاة المحاكم، وأصحاب الاجتهاد والفتيا، ومنظّمي البلاد، وفاتحي الأقطار، وحكام الأمم والشعوب؛ وذلك لأن (الخلافة والإمامة) في ذاتها كالنبوة مشتملةٌ على الدين والدنيا، وخليفة المسلمين كنبيهم مجتهدٌ دينيٌّ، وحاكمٌ سياسيٌّ، فكنتَ ترى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مثلاً في دار شوراه بالمسجد النبوي، يفتي في المسائل الدينية مِن حيث إنه مجتهدٌ، وفقيهٌ، ويقضي ويحكم بين الناس من حيث إنه قاضٍ، وحاكمٌ، وينظم الجيوش، ويفرق عليهم الجراية مِن حيث إنه ناظر الحربية، ويضع الخطط الحربية مِن حيث إنه القائد العام، ويقابل سفراء الروم من حيث إنه ملِكٌ وسلطانٌ، ثم تراه في سواد الليل متفقدًا أحوال المدينة كأنه حارسٌ وخفيرٌ، وأبٌ رحيمٌ للمسلمين. بل الأمر أكبر مما ذُكِر؛ فقد ناب الخلفاء الراشدون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وظائفه النبوية التنفيذية المتعلقة بهداية البشر التي جعلها القرآن ثلاثة أقسامٍ بقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: ١٦٤) ، فوظائف النبوة التنفيذية: تلاوة الآيات وتزكية النفوس، وتعليم الكتاب والحكمة؛ فقاموا بهذه خير قيامٍ، ونابوا عنه فيها أحسن نيابةٍ، فكانوا أسوةً به يتلون على الناس الآيات الإلهية، ويزكُّون القلوب والأرواح، ويربون الأمة بتعليمها الكتاب وحكمة السنة، فكأنهم كانوا في آنٍ واحدٍ أبا حنيفة، والشافعي وجنيدًا والشبلي وحمادًا والنخعي، وابن معين وابن راهويه والبخاري، ولم يكن سلطانهم على الأجسام فقط، بل كانوا يحكمون على القلوب والأرواح أيضًا بسيرتهم القويمة، وروحانيتهم القوية؛ ولذا سميت خلافتهم (بالخلافة الراشدة) ، وجعلت أعمالهم تتمَّةً لأعمال النبوة، فقال - صلى الله عليه وسلم - من وصيةٍ له: (فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ) [٢] ، فذكر مع سنته سنتهم، وأوصى الأمة بأن تعَضَّ عليها بالنواجذ. ولكن واأسفاه! ، لم تبق الخلافة النبوية، والهيئة الاجتماعية الإسلامية على هذا المنوال طويلاً، بل انتهت بأمير المؤمنين علي - عليه السلام -، فعم الانتشار، والتشتت جميع شؤون الأمة، فتزلزلت بناية الأمة الاجتماعية، وسقطت جدرانها، فهي خاويةٌ على عروشها، وانتقض النظام الشرعي، وتبعثرت سائر القوى بعد أن كانت كتلةً واحدةً مجتمعةً على نقطةٍ واحدةٍ، وتفرقت المناصب، والوظائف على أناسٍ كثيرين، بعد أن كانت في يدٍ واحدةٍ؛ فمن ثَمَّ انفصلت الحكومة والسياسة عن الدين والشريعة، وأصبحت الخلافة عاريةً من خصائصها الروحية، ومجردة عن وظائفها المتشعبة عن نبع النبوة، فباتت ملكًا عَضوضًا طبقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم ملك) ، وقد تقدم، وأما وظائفها الدينية فانقسمت أيضًا، وقام بها أناس آخرون، فحمل القضاء والاجتهاد الفقهاء والمجتهدون، فأصبحوا فرقة، وحمل وظيفة الإرشاد وتربية الأرواح وتزكية النفوس الصوفية وصاروا فرقةً، مع أن هذه الوظائف كلها كانت في بدء الأمر بيد الخليفة الإسلامي، فكان قائمًا بها كلها خير قيام، وكانت بيعته تغني عن غيره، بَيْد أنه بعد الانتشار والتشتت أصبح ملكًا محضًا، نائيًا عن وظيفة الإفتاء والقضاء، بعيدًا عن التعليم الروحي، وتزكية النفوس، فهُرع الناس إلى أصحاب الطرق والمتصوفة وأخذوا يبايعونهم (بيعة التوبة والإرشاد) (على اصطلاحهم) ، فبعد أن كانت القوى والمناصب، والوظائف مجتمعة في شخص الخليفة، فكان ملكًا وفقيهًا وقاضيًا وقائدًا ومحتسبًا - تفرقت في دور الشتات، وأصبحت لا نظام لها ولا زمام، بل كلما امتد الزمان زاد الطين بلة، والخرق سعة، حتى بلغ السيل الزبى، وعمت البلوى، فتعارضت القوى، وتصادم بعضها ببعض أيما تصادم، هذه هي الداهية الدهياء التي دهت الأمة الإسلامية، فقضت عليها، لا ما يتخبط فيه الناس مِن اختراع الأسباب والعلل لسقوط المسلمين تقليدًا للإفرنج. والحاصل أن الخلافة التي تلت الخلافة الراشدة - سواء كانت قرشية أو غير قرشية - كانت حكومة دنيوية محضة، وملكًا عضوضًا بعيدةً عن النيابة النبوية في وظائفها إلا السياسية والحكم (اللهم إلا خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه) وهي لا تزال على هذه الطريقة إلى الآن إلا ما كان في عهد السلطان عبد الحميد من الانقلاب، وتأسيس الحكومة الدستورية [٣] فإنه مما لا ريب فيه عود محمود إلى الخلافة الراشدة قليلاً؛ لأن الشورى هي الشرط الأول، والميزة الكبرى للحكومة الإسلامية الحق، أما في غير هذا فلم تغير من أحوالها شيئًا. ((يتبع بمقال تالٍ))