يذهب كثير من الناس إلى أن جميع الأديان وثنية وسماوية قائمة على قواعد الخوارق فإذا تزلزلت هذه القواعد في دين انقضّ الجدار وخر السقف وذهب بناء الدين حتى لا يبقى له أثر. قول يقوله الملاحدة، ويوافقهم عليه رجال كل دين على حدة، فهو حجة الدين عند أهله، وهو الحجة عليه عند أعدائه، وتلك عضلة العقد، ومحك المنتقد، يقول كل ذي دين: إن الخوارق التي نعتقد بها قد ثبتت عندنا بالمشاهَدة بالنسبة إلى قوم، وبالنقل عن الثقات بالنسبة إلى آخرين وقد بلغ عدد الناقلين في بعضها مبلغ التواتر الحقيقي وفي بعضها الآخر مبلغ التواتر المعنوي أو الاستفاضة أو الشهرة بين الآحاد الثقات على الأقل. وأما ما يدعيه أهل الملل الأخرى فهو كذب وافتراء، أو شعوذة وسيمياء، ويقول الملحد - لا سيّما إذا دُعي إلى الدين -: إنه ليس من العدل، ولا من مقتضى العقل أن ينظر طالب الحقيقة في قول أحد المدعين، ويغفل أقوال الآخرين؛ بل الصواب أن ينظر في جملتها ليتسنى له الترجيح، وقد فعلنا ذلك فألفينا أن الآية الكبرى في كل دين هي دعوى الخوارق لزعماء الدين. وإننا لنعلم أن كل دين من هذه الأديان يحرم الكذب، ونعلم أن من أهل كل منها الأخيار والأشرار فلا وجه لترجيح أحدها على الآخر فلم يبق إلا تصديق الجميع أو تكذيب الجميع! والتصديق يستلزم التكذيب؛ إذ لو قلت: كل واحد من هؤلاء صادق لدخل في تصديق كل واحد تكذيب الآخرين؛ لأنه يدعيه وهو صادق فتكون النتيجة أن كل واحد صادق كاذب في حال واحد وهو محال فتعين إذن تكذيب الجميع. ثم إن هؤلاء المنكرين يقولون أيضًا: إن من ينشأ في دين يجوِّز وقوع الخوارق آنًا بعد آن من كبار المتمسكين يكون عقله دائمًا متقلقلاً أسير الأوهام والخرافات؛ بل يكون ألعوبة في أيدي الدجالين والمشعوذين، الذين يلبَسون ثياب الصالحين، أو الذين يتخذون الدين حرفة يعيشون بها في سوق الغرور والغفلة. ولذلك نرى هذه الخوارق التي يدعونها تكثر ويكثر مدعوها في البلاد التي خيَّمت فيها الجهالة، وعُرِفَ أهلُها بالغباوة والبلادة، وإننا نعرف كثيرًا من البلاد الأوربية كان أهلها يدعون كثيرًا من هذه العجائب ويزعمون أنهم يروون ما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويحسون في أنفسهم، ومن ذلك زعمهم أن القديسين والشهداء يخرجون من قبورهم في صورة نورانية فيطوفون في الأرض ويأتون بعض الأعمال، ثم لما تقشعت عنها سُحُب الجهل، وأشرقت عليها شمس العلم بطلت هذه الدعاوى، وانتقضت هاته القضايا، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت هاتيك العبارات، ومحيت آيات الليل بآية النهار، وصار النور بدلاً من الظلام شرطًا في الإبصار. ويقولون أيضًا: إن العلم قد كشف الستار عن أكثر هذه الخوارق للعادات، وعرف علة ما أدركه من هذه العجائب والكرامات، وقد حاكى العلماء بعض ما رأوه من مدهشات سحرة إفريقيَّة وكهنة الهنود وعرفوا علة بعض وإن لم يحاكوه فمنهم من توصل إلى الجلوس في الهواء بحيلة صناعية ومنهم من أظهر للملأ أنه أطاح رأس إنسان عن بدنه، ثم أعاده إليه. فتبين من استقراء هذه الأمور والبحث فيها أن منها ما له أسباب علمية صحيحة كان يعرفها بعض الناس فيكتمها عن الآخرين لما يكون له بها من السلطان عليهم. ومنها ما هو حيل وشعوذة يخيل المتمرنون عليها إلى الناس أنهم يوجدون أشياء وما هم بموجديها ولكنهم قوم يخدعون. وقد رأى هؤلاء الناس ما كتب كثير من القسيسين في إنكار نبوة نبينا - عليه الصلاة والسلام - واحتجاجهم بأنه لم يكن يحتج على نبوته إلا بما جاء به من العلم والهدى في الكتاب وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وزعمهم أن هذا لا يكفي في إثبات النبوة، وأنه لا بد من إظهار الخوارق الكونية، فضحكوا من احتجاجهم وزعمهم وقالوا: إن صح ما ذكرتموه فهو أقوى البراهين على صدقه وبراءته من الغش والتمويه الذي كان يتيسر له لو أراده لعلو فكره وقوة ذهنه. وقال بعض فلاسفة فرنسا منهم: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محتاجًا إلى عمل العجائب لمثل ما كان يحتاجها الأنبياء من جذب النفوس إلى الإيمان به فإنه كان يقرأ القرآن باسم الله في حال وَجْد ووَلَه روحاني ينتقل تأثيره من نفسه إلى نفوس من يسمعه فيكون ذلك جاذبًا لهم إلى الإيمان بجاذبَيْ الإذعان والوجدان إيمانًا يملك على النفس أمرها حتى لا يمكنها الانسلال منه، وإن قاست في سبيله من الأهوال ما يشيب النواصي، ويدك الصَّيَاصِي، فأين هذا الإيمان من إيمان قوم رأوا أعجوبة لا يدركون سرها فخضعوا لصاحبها وسلموا بما يقول، وإن لم تدرك فائدته العقول، حتى إذا ما غاب عنهم برهة من الزمان عبدوا ما يصوغون من الأوثان، فإذا كانت فائدة المعجزات جذب النفوس إلى الإيمان فلا شك أن هذه الفائدة أظهر في القرآن منها في سائر المعجزات؛ لذلك كان إيمان المسلمين أشد من إيمان جميع أتباع الأنبياء الآخرين. وقال أحد القسيسين العلماء: إننا نفضل الإنجيل بما فيه من كثرة الخوارق والعجائب المنسوبة إلى صاحبه على أن القرآن لم يسند إلى من جاء به عجيبة واحدة وإنما ذكرت فيه العجائب حكاية عن السابقين ويقول في جواب الذين طالبوا محمدًا بالآيات: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: ٥١) ، (قال) : ولكننا صرنا إلى عصر تعد فيه الخوارق من العقبات في طريق الإيمان، ويفضل فيها القرآن على الإنجيل بذلك! هذا مجمل اعتقاد خواص الناس في الأقطار الغربية في الخوارق والعجائب وهو اعتقاد أكثر الذين يتعلمون على طريقهم في البلاد المشرقية، وهذا الصنف المتعلم هو صاحب السلطة على غير المتعلم وإنَّا لنراه لا يوجد في بلاد إلا وينمو نموًّا مستمرًّا بطيئًا كان أو سريعًا ونرى أهله يتسللون من الدين لِوَاذًا ويمرقون منه زُرافات وأفذاذًا؛ ولهذا رسخ في أكثر الأذهان أن العلم والدين ضدان، وصار المستمسكون بالدين ينفرون من العلم؛ ولكن أهله يسودون عليهم تارة بالحرب وتارة بالسلم، ولهذا يظن الناظرون في سير الإنسان أن العلم يفتأ يفتك بالدين، حتى يمحوه من لوح الوجود ولو بعد حين، وما لهؤلاء الظانين من علم بأن في العالم دينًا حل جميع المشكلات، وأزال جميع الشبهات وهو دين العلم والعرفان إلى آخر الزمان. فعُلم - مما شرحناه - أن أهل الأديان يرون للخوارق التي تجري على أيدي رجال الدين فائدة عظيمة وهي تأييد الدين بها في أثنائه، كما قام بها في أول ظهوره؛ ولذلك قال بعض علمائنا: إن كرامات الأولياء شعبة من معجزات الأنبياء فيخشى على منكر الفرع أن ينكر الأصل , وقد شرحنا هذا أتم شرح في المقالة الأولى فلتراجع في المجلد الثاني، ويذكرون لها فائدة أخرى وهي انتفاع الناس بالكرامة فإنها إما أن تكون جلب منفعة لإنسان، أو دفع مضرة عنه، أو إيقاع سوء بمنكر أو فاسق ليرتدع غيره. وعُلِم أن من غوائل الاعتقاد بالخوارق ومضراتها تنفير خواصِّ أهل الدنيا من الدين وهذه غائلة تتبعها غوائل أشرنا إليها آنفًا وهي تتطرق إلى معجزات الأنبياء كما تقدم، ولم يكن ذلك من موضوعنا هنا وقد سبق لنا القول في إثبات آيات الأنبياء فليراجع في الأمالي الدينية من المجلد الرابع. ونزيد الآن أنها كانت في أزمنة تحقق فيها أن البشر كانوا في أشد الحاجة إليها، وثبت أنهم انتفعوا بها في عقولهم ونفوسهم وفي أعمالهم ومعايشهم؛ ذلك لأنهم كانوا لم يرتقوا إلى معرفة العقائد ببراهينها وكانوا ألاعيب في أيدي السحرة والدجالين يتصرفون في عقولهم ونفوسهم وأموالهم فأنقذهم الأنبياء بإذن الله تعالى وتأييده من ذلك كله، وعلموهم أن أولئك السحرة قوم مبطلون وأنه ليس لهم من الأمر - الذي يزعمونه - شيء وأن التصرف فيما وراء الأسباب التي يقدر على الوصول إليها الناس خاص بالله تعالى وحده وأن تلك الأعمال التي يظهر بادي الرأي أنها عن اقتدار إنما هي {كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: ٦٩) ، ولولا أن جاء كل نبي بمعجزة أو أكثر لما تسنَّى له جذب أولئك القوم الغلف القلوب، الغلاظ الرقاب، الضعاف الاستعداد. والدليل على أن المراد من بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطهير العقول من لوث الخرافات والأوهام وعتقها من أسر السحرة والدجالين وأن الآيات الكونية كانت هي الآلات الجاذبة لهم إلى الإيمان بالتوحيد الذي هو المطهر الأكبر للعقول، وأنه لو أمكن جذبهم بالآيات العلمية الأدبية لما خرق الله على أيديهم شيئًا من الأمور العادية هو بناء نبوة خاتم النبيين على الآية العلمية الكبرى. والهداية الأدبية العظمى وهي القرآن الحكيم، المنزل على النبي الأمي اليتيم، الذي علَّم به الأميين الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ومكَّن به لهم في الأرض وجعلهم أئمة وارثين، وبلّغ رسالة ربه الأممَ المجاورةَ وأَمرَ بأن يبلغ الشاهدُ الغائبَ. ومن أصول دينه أن زمن الوحي والمعجزات قد انتهى به فلن يعود، وأن لله في الخلق سننًا لن تتغير ولن تتبدل، وأن الأمور تُطلب بأسبابها، وأنه ليس وراء الأسباب شيء إلا معونة الله تعالى وتوفيقه، فليس لمؤمن أن ييئس إذا تقطَّعت به الأسباب من خير يتطلبه أو النجاة من سوء يترقَّبه، فثبت بهذا أن الدين القيم الذي يمكن أن يتفق مع العلم في كل زمان هو هذا الدين الذي يحكم بأن زمن المعجزات قد مضى ولا يُكَلَّف الآخذ به بأن يعتقد بخارقة على يد أحد الناس بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. أما البحث في آيات الأنبياء كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن روحانية خفية عن الجمهور خصَّهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟ فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين سموها سحرًا لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة، وفي شرح المواقف أن (المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة وإن لم يكن من الخوارق) . فعلم بهذا أن آيات الأنبياء - عليهم السلام - مصونة من إنكار المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يُخشى أن يضر الاعتقاد بها في الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يكن ضارًّا في الماضي، وإنما كان نافعًا. وبقي القول في كرامات الأولياء ومقتضى ما تقدم أن الاعتقاد بها يضر كما يضر الاعتقاد بالخوارق عند كهنة الوثنيين وقدّيسي المسيحيين. والمنفعة التي تدعيها كل الطوائف من الاحتجاج بهذه الخوارق على صحة الدين أو الاستعانة بها على تمكين اعتقاد المؤمنين، ممنوعة بأنها من المشترك الإلزام كما تقدم في الجزء الماضي. فإذا دعوت إنسانًا إلى دينك بحجة أن من قومك من يعمل العجائب وتظهر على يديه الخوارق يلزمك بأن في قومه أيضًا مَن له مثل ذلك أو ينازعك في دعوته داعٍ آخر يحتج بمثل هذا الاحتجاج. ووجه آخر للدفع وهو أن أهل العلم والبحث يرون دعوى الخوارق من الأدلة على بطلان الدين كما سبق آنفًا، وأما العوام فإنهم أسرى التقليد ولذلك يصدقون ما يسمعون من قومهم من الأخبار ويكذبون ما تدعيه لقومك، هذا وإن دعوة الإسلام قد انتشرت في الأرض انتشارًا لم يعرف ما يقاربه في دين آخر، وما ذاك إلا أن الدعاة إليه ما كانوا يعتمدون في الدعوة إلا على كون ما يدعون إليه صوابًا، عقائده معقولة، وأحكامه مقبولة، ولم يُعْرَف أنه كان للإسلام دعاة قد استحوذوا على النفوس بما أدهشوها بالكرامات والخوارق كما هو المنقول عن دعاة النصارى وغيرهم، نعم، إنه قد نقل عن بعض الأولياء من الكرامات أضعاف ما نقل عن المسيح وتلامذته وعن جميع الأنبياء والمرسلين؛ ولكن أولئك الأولياء لم يعرف في التاريخ الصحيح أنهم كانوا دعاة وأن الناس آمنوا بكراماتهم، اللهم إلا بعض الحكايات التي توجد في بعض كتب المناقب وقلما يوثق بشيء من رواياتها لا سيما إذا انفردت بها. ووجه آخر للدفع: وهو أن أمر الخوارق صار عند العامة من جميع الأمم كالصناعة المحترمة لشدة الحاجة إليها ولا ينظر فيها إلى الدلالة على صحة دين مَن ظهرت على يديه لا سيما بعد موته؛ ولذلك ترى كثيرًا من عامة النصارى يقصدون من اشتهر من أولياء المسلمين لقضاء الحاجات ببركاتهم وهم على نصرانيتهم. ولقد كان عم والدي (السيد الشيخ أحمد رحمه الله تعالى) مشهورًا بالصلاح والبركة فكان يرد عليه وفود الناس من المسلمين والنصارى يلتمسون بركته بالرُّقَى والتمائم ويأخذون منه البشارات. وقد كدت أكون خليفة له رغم أنفي لأمور اتفقت لي في سن الحداثة، من ذلك أن بعض الأعراب أخذوا مني ورقة فعلقوها على كبش في غنم موبوءة فزعموا أن الموت أدبر والصحة أقبلت منذ عُلِّقت الورقة على الكبش! ومن ذلك أن إنسانًا كان يُصْرع ويرى نفرًا من الجن يضربونه فدُعِيت إليه فأبيت مؤكدًا لهم أنه لا فائدة من زيارتي له ألبتَّة فألحوا وتوسلوا بالوالدة فعدت مريضهم فشفي. واتفق لي أمثال هذه الوقائع من كثير من المسلمين والنصارى فانتشر خبرها وكدت أكون مقصودًا بها كعم الوالد الذي كنت أنكر عليه (رحمه الله تعالى) لولا أن بادرت إلى محاربة هذه الاعتقادات وعدم إجابة القاصدين إلى ما يطلبون. وكذلك نرى كثيرًا من المسلمات والمسلمين يقصدون بعض الأديار وقبور القديسين بالزيارة، ويحملون إليها النذور كما يحملونها إلى قبور الأولياء متوسلين بهؤلاء وأولئك وطالبين منهم قضاء الحاجات! ومن ذلك دير مَار جرجس في مصر العتيقة، والمير تادرس بكنيسة القبط بحارة الروم، وغير ذلك مما لا يُحصَى. وكذلك يقصد بعض المسلمين والمسلمات بعض القسيسين الذين يشتهرون في قومهم بالعجائب وقضاء الحاجات. ولا يكاد يعتقد أحد من هؤلاء وأولئك بصحة دين غير دينه الذي نشأ عليه. وذلك أن الخوارق صارت عندهم من قبيل الصناعة والدين صار من قبيل الجنسية. وقد طال بنا المقال أكثر مما كنا نتوقع فنرجئ إتمام المبحث على الجزء الآتي وفيه نبين وجود التأويل ومناشئ القال والقيل. وما ينبغي اعتقاده في الكرامات التي أثبتناها في المقالات الأولى وقد سئلنا عن الثابت من معجزات نبينا غير القرآن وسنجيب عنها في الجزء الآتي أيضًا. ((يتبع بمقال تالٍ))