للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عبر الحرب البلقانية
وخطر المسألة الشرقية [*]
(١)
(مقدمة وتمهيد)
من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول،
ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي، فهذا يفترض حوادث الزمن،
وذاك يرتقب سوانح النكت، ليحل كلامهما محل القبول، ويصيب مواقع
الاستحسان من القلوب، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم.
ومن الناس من يكتب لأجل النفع، بإزالة باطل أو إظهار حق، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يتخول الناس بالموعظة، ويتخونهم بالكشف
عن مكامن العبرة.
ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة.
تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت
نار الحرب في طرابلس الغرب وبرقة، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب،
وهي أدهى وأمرّ، وأنكى وأضر؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في
شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها، أي أنها فتح لباب المسألة
الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين
من هذه الدولة، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم،
واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم، ولم يرضوا أن تبقى
مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في
الكلام، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام، وكان من ضررهم ما كان، فكيف
بحال أمثالهم في عاصمة الدولة، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء.
إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع، وما اكتفيت في أيام هذه
الحرب بما كتبت في المنار، وأمسكت عن الكتاب [١] في الجرائد اليومية -
وأولاها بما أكتب في هذه الحال: المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا
تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال. وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ
لصوتهم كل صوت، وقصر عن قولهم كل قول، وتضاءل دون سعيهم كل
سعي، جزاهم الله أفضل الجزاء، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم
أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب
إلا بيان ما فيها من العبر، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات
من النتائج، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها، لئلا يقال: إنه
ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في
المنار.
أما وقد عقدت الهدنة، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح، وقد
ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا، وعلم الخاص والعام،
أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن
ينفع فيه القول، ويخشى أن يضر السكوت، وترجح المقتضي على المانع.
قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق
ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها
بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم، فقد كان زعماء الحزب الوطني
هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين
والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام
ثلاثا فأوجب على من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله،
أن يثلث فيقول: وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله. ولولا هذا
التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك. ومنه إلى لقب باشا، وما زالت
جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة
مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد؛ إذ كتب فيها يوم
الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به
هدم الدولة، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة.
فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون
في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس، وأفسدوا كثيرًا من ضباط
الجيش، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو
اسمها من لوح الوجود، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون
هؤلاء المتغلبين المخربين، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد،
وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم،
بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة
مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها
لشملهم، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق، وقلم يكتب وينشر، لم يخجلوا من
الاستمرار على التمويه والتضليل، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها
باقيًا، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد،
الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام
المضللة.
نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق
والمبطل، والصادق والكاذب، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله
أوجب النصح وبيان الحق، وحرم القنوط واليأس، وجعل العاقبة للمتقين.
مقدمات الخذلان في هذه الحروب
(جمعية الاتحاد والترقي)
إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري، وقد
بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة، رأيت من زعمائها وسمعت من
ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم، ما لا يتفق مثله إلا لقليل
من الناس، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما
علمته عنهم، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث، وأستخرج العبرة منه
ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها،
وما هو الخطر الذي ينذرها، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب
لحفظ سلطة الإسلام، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله.
أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي
يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم،
إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها؛ لأنه مقصد غريب في نفسه.
... ... ... ... أعمال الاتحاديين
التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب
(إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة)
أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال، بعد ما عنوا به من
جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة.
حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين
وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن
تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة، ثم تجرد جيشًا آخر أو
جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير، وعشائرهم وعشائر الدروز في
حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق، وتجمع السلاح من الجميع، وسأذكر ما قرر
في شأن طرابلس بعد، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع
السلاح منهم، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من
المسلمين، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع.
قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في
عواقبه، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من
القوة الذاتية، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها
من أوربة بالربا الفاحش، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة
وحفظ سلطانها، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن، وتفرق عناصر الدولة
وانحلال روابطها.
بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب
جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح
والسلم فلم يقبلوا، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا
إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة، ومن غرائب صنعهم أن
جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم، ولكنهم
أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم،
وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم
على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار
وغيرهم، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا.
ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير، وفي الكرك وحوران، فقد جردوا لقتال
المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية
أو أحسنها على الإطلاق، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما
كانت. ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في
مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد
اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر؛ لأن
الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم
لرجحت الدولة على البلقانيين بهم.
والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح
دولتها فيها، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها،
وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا
تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها،
ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول، بل يجب أن
تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها، ومن قبائل العرب
والعشائر الوطنية والمجاورة، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا
كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي؛ لأن قتالهم يكون
بالمطاولة لا بالمناجزة، فالخسارة فيه عظيمة، وإنما هؤلاء الأجانب تجار
يطلبون الربح من أقرب طرقه، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في
الاستعمار كإنكلترة وفرنسة.
ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب، بل أظن أن
البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر
بتخاذلنا وإهمالنا، وأنها لا تعود إلى مثله.
ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون، وظهر أنه كان
الواجب المحتم أن يعملوا ضده، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً
أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها، فهل يعتبر الناس بهذا
ويسعون للواجب من جميع الطرق، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه،
هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم؟
كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على
التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط، وإن ظهر أن ذلك
كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى،
وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين
فروا في هذه الأيام إلى أوربة:
كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة
يقول: إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو
رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر
المالية في أهم وزاراته، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار
الجيش العثماني وخذلانه في البلقان، فكان الجواب بعد مقدمة فيما ينقص
الجيش وفي معداته ما خلاصته:
(إننا كنا هيأنا كل شيء وأنفقنا على ذلك أربعين مليون ليرة في السنوات
الأربع الماضية، ولقد ظهر كل هذا في تجهيزنا الحملة على بلاد الأرنؤوط
ومحاربتنا لتلك البلاد، أما أسباب فشلنا العظيم فترجع إلى تنظيم رجال جدد لم
يطلعوا على الترتيبات) .
فليتأمل العقلاء كيف اعترف الزعيم الاتحادي الذي كان ناظرًا للمالية
بأنهم صرفوا على الجيش أربعين مليون ليرة، وكيف يتبجح بأن ثمرة تنظيمهم
للجيش وإنفاقهم عليه قد ظهرت في قتالهم لطائفة من رعية الدولة المخلصة لها،
أهذه هي غاية استعداد الدولة الحربي أيتها الجمعية الدستورية المصلحة؟
أتعدون منتهى شوطكم أن تأخذوا أبناء الأمة وأموالها وتحملوها الديون التي
تذلها للأجانب لأجل أن تقاتلوها به وتذلوها وتدمروا بلادها؟ ألا فليعتبر المعتبرون،
أو ليأتينهم العذاب وهم ينظرون.
(٢)
تهييج عصبية العناصر العثمانية
كان الناس يفهمون من اسم جمعية الاتحاد والترقي أنها جمعية غرضها
أن تجعل بين العناصر العثمانية وحدة سياسية اجتماعية بالمساواة بين الترك
وغيرهم في الحقوق الشخصية والحقوق العامة كمناصب الدولة ووظائفها، وأن
هذا هو المراد من كلمة الاتحاد الذي يتبعه الترقي في العمران، وما يتوصل به
إليه من العلوم والفنون. فلما صار النفوذ في هذه الجمعية لأمثال الدكتور ناظم
وطلعت وجاويد ورحمي وجاهد وأضرابهم، ظهر للباحثين، والمطلعين من
العثمانيين والأجانب أن مرادهم بالاتحاد أن تدغم العرب والأرنؤوط والكرد وغيرهم
في الترك، وتفنى لغاتهم وجنسياتهم فيهم فيكون جميع العثمانيين تركًا.
كنا في طليعة مَن كتب في هذه المسألة ببيان فوائدها وغوائلها ومقاصدها،
ووجوب تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ومن أوسع ما كتبناه في
ذلك بيانًا مقالة فلسفية اجتماعية عنوانها: الجنسيات العثمانية واللغات
التركية والعربية، نشرت في منار رجب سنة ١٣٢٧ أي بعد الدستور بسنة
واحدة، بينا فيها بالدلائل والحجج القيمة أن محو جنس من البشر بإدغامه في
جنس آخر قد صار في هذا العصر محالاً، وأن الدولة العثمانية لا تستطيع أن
تجعل غير الترك فيها تركًا، وأنها لو كانت تستطيعه لعذرتها عليه سياسة لا
دينًا، لأنني وأنا مسلم أرى أن الإسلام لا حياة له إلا بحياة اللغة العربية،
وإنما حياتها بجعلها لغة الخطاب والعلم عند أهلها، ولكن زعماء الجمعية
المغرورين الأغرار كانوا يرون أنفسهم قادرين على المحال.
لا عجب ولا غرابة في الأمر، فإن أولئك الزعماء إذا لم يسمعوا حجج تلك
المقالة ولم يشعروا بها فقد كان لهم على غرارتهم مانع من نشوة الغرور بخضوع
العثمانيين لهم، وتقديسهم لجمعيتهم، وإفاضتهم الدنانير والدراهم عليهم، ومن سكر
الإعجاب بثناء الجرائد الأوروبية على رجال الانقلاب العثماني، وإن كان المستحق
لهذا الثناء هو صادق بك والضباط الذين اتبعوه من دونهم، ولكن العجب والغرابة
في استمرار أكثر العثمانيين على الاغترار بهم بعد السنة الأولى للانقلاب، وأعجبه
وأغربه ما كان من العرب الذين لم يهتم بهم الاتحاديون بشيء اهتمامهم بمحو لغتهم
وإزالة جنسياتهم، أو إضعافها وإنهاك قواها ليستريحوا من إدلالهم بالكثرة والدين
الذي يخيفهم منه على السلطة التركية ما في كتب العقائد وكتب الحديث من كون
الخلافة في قريش والأئمة منهم، وإن لم ينازعهم العرب في جعل الخلافة فيهم.
وكل ما يوجد من هذا القبيل فيما نعلم أن بعض أصحاب الدسائس والمطامع
في مصر كانوا يستغلون وسواس السلطان عبد الحميد فيوهمونه أن للعرب
جميعة أو جمعيات تسعى للخلافة سعيها، فكان بعضهم يرسل التقارير السرية
إلى المابين في ذلك حتى تجرأ مصطفى كامل على الجهر بالإرجاف بهذه
الفتنة في لوائه، في أول العهد بإنشائه، وكبر الوهم فيها وعظمه بزعمه أن
بعض الأمراء يساعد هؤلاء الساعين على سعيهم.
وقد أنكرنا على اللواء الإرجاف بهذه الفتنة في المجلد الثاني من المنار
فكان إنكارنا هذا هو السبب الأول في طعن ذلك الرجل وأخلافه فينا (كما أنكر
المؤيد عليه ذلك مرارًا) .
فلما زالت سلطة عبد الحميد ودالت الدولة لفتيان الترك الأحرار الذين كنا
نسعى معهم سعيًا واحدًا إلى إزالة الاستبداد السابق ظننا أننا استرحنا من
الدسائس التي يروجها المفسدون في سوق الوساوس، ولكن رأينا زعماء
جمعية الاتحاد والترقي لم يدعوا سيئة من سيئات العهد الحميدي إلا وأعادوها
جذعةً، فهم بعد أن أرسلوا مفتشيهم وجواسيسهم إلى جميع البلاد العربية حتى
الحجاز فلم يروا من العرب إلا الإخلاص الكامل للدولة، ولم يشموا في بلادهم
أدنى رائحة لشيء يسمى الخلافة العربية، وبعد أن أغروا شريف مكة بابن
سعود، وإمام اليمن بالسيد الإدريسي، وليس عند العرب قوة حربية تذكر إلا
ما عند هؤلاء، وبعد أن رأوا جميع كتاب العرب في مصر وسورية والعراق
يثنون عليهم ويدافعون عنهم، وليس عند العرب قوة أدبية إلا ما عند هؤلاء،
بعد هذا كله رجحوا سعاية المفسدين من البراهين الحسية، وأصغوا إلى
المرجفين بالخلافة العربية، فتقرب شياطين العهد السابق وأخلافهم إليهم، إذ
رأوهم يحسبون كل صيحة عليهم، وعاد محمد بك فريد والشيخ عبد العزيز
شاويش إلى مثل إرجاف سلفهما مصطفى كامل بهذه المسألة فأعادوها في
جريدتهم (العلم) سيرتها الأولى في جريدته (اللواء) .
ولما كان الشيخ عبد العزيز شاويش أشد غلوًّا وتهافتًا من مصطفى كامل،
لم يكتفِ باتهام جماعة الدعوة والإرشاد بهذه التهمة، بل طعن في جميع مسلمي
العرب فكتب في جريدة (العلم) أن الدولة العلية لا يخشى عليها من البلغار ولا
من الروم ولا من الأرمن ولا من نصارى العرب، وإنما يخشى عليها من مسلمي
العرب خاصة.
ولأجل هذا الغلو قربته جمعية الاتحاد والترقي منها، وجعلته من دعاتها
وأعوانها، وأنشأت له مطبعة وجريدة يومية في الآستانة كانت تنفق عليها من
مال الحكومة زهاء ٣٥٠ جنيها عثمانيًّا في كل شهر.
ثم جاءت الحوادث تكذب هذا الإرجاف؛ فإن الحكومة الاتحادية حاربت
عرب اليمن، ونكلت بعرب حوران والكرك، وعَرَّضَتْ عرب طرابلس
الغرب لنيران إيطالية، ومع هذه كله لم يزدد العرب إلا تعلقًا بالدولة وإقدامًا
على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيلها. وما رأينا من الأمراء الذين أرجف بهم
اللواء أولاً والعلم ثانيًا والهلال العثماني ثالثًا ـ إلا النجدة العالية للدولة
والمساعدة التامة لها، وهي في أحرج مواقفها، وبعد هذا كله ترى كثيرًا من
الناس لا يفقهون ولا يعتبرون، ولا يميزون بين المصلحين والمفسدين.
نعم كان العرب قد ظلوا على إخلاصهم للدولة ولكنهم ليسوا حجارةً ولا
حديدًا فتمر عليهم هذه الكوارث ولا تؤثر في نفوسهم، إلا أنها أثرت شر تأثير،
وهو أن اليأس من الدولة قد دب دبيبه إلى قلوبهم وخصوصًا بعد حمل
الجمعية مولانا السلطان على حل مجلس المبعوثين الذي ضعفت فيه السلطة
الاتحادية، وتأليفهم مجلسًا جديدًا بقوة الحكومة بعد الضغط على الصحف وحرية
الاجتماع وغير ذلك.
يئسوا من عد الدولة إياهم عضوًا صحيحًا منها كإخوانهم الترك أولاً، ومن
إصلاح الدولة ثانيًا، ومن بقائها ثالثًا، إلا أن تزول منها مفاسد الاتحاديين وتنشأ خلقًا
جديدًا. ومن العجائب أن يئوسهم هذه لم تدفعهم إلى القيام بمشروع ما لحفظ وجودهم
وحفظ سلطة الإسلام في الأرض، بل ظل لسان حالهم يقول: إن بقيت الدولة نعيش
معها بعز أو ذل كيفما اتفق لنا، وإن ماتت نموت معها، ولا خير لنا في الحياة
بعدها.
وإنني أذكر من شواهد اليأس الأول من هذه اليئوس ما سمعته من أحد
أفراد حزب الاتحاد والترقي من العرب بعد استعراض الجيش العثماني في
روابي الآستانة أمام ملك البلغار سنة ١٣٢٨ وكنت حضرت هذا الاستعراض
في خيمة المبعوثين، فلما انتهى وأردنا الذهاب قال لي ذلك المبعوث
العربي الاتحادي: متى يكون لنا جيش منظم مثل هذا؟ فكانت هذه الكلمة كجذوة
نار وقعت في قلبي؛ إذ علمت أن هذا المبعوث الذي كنا نعد وجود مثله في
الاتحاديين سببًا لحسن الظن بهم، قد أداه اختباره الصحيح لهم إلى الاعتقاد بأن
جيش الدولة ليس جيشًا لنا، وإنما هو الغالب علينا.
هنا يخطر ببال كل قارئ هذا السؤال: إذا كان هذا هو اعتقاد هذا
المبعوث في الجمعية فلم بقي فيها؟ وعندي جواب هذا السؤال؛ فإني كنت ألقيته
عليه قبل تلك السنة التي قال فيها كلمتة النارية، فقال: اسكت إنني علمت أن
زعماء هذه الجمعية إذا أحسوا بأن أمر الدولة أشرف على التفلت من أيديهم
فإنهم يعرضونها للزوال دون ذلك، ولهذا أرى أن بقاءنا معهم خير من تركنا
إياهم.
هذا بعض تأثير تهييج الاتحاديين للعصبية الجنسية ومحاولتهم تتريك
العناصر حتى العرب الذين هم أخلص المخلصين للدولة، وقد ظهر صدق
إخلاصهم لها بالبرهان والعيان.
وناهيك بكفاحهم في طرابلس الغرب وبلائهم في هذه الحرب، وهل يخفى
على بصير ما لليأس من الغوائل وسوء العواقب. وأما تأثيره في نصارى أوروبة
العثمانيين من البلغاريين واليونانيين والمصريين، فهو الذي أوقد نار هذه
الحرب، وكان أكبر شرها وويلها على الترك والمستتركين الذين هضم الاتحاديون
حقوق جميع العناصر وقصدوا إذلالها بجهلهم، وما كان أغناهم عن ذلك.
كان المفتونون بخداع الاتحاديين من مسلمي العرب يخطئون أهل
البصيرة من إخوانهم إذا طالبوا الدولة بالعناية بتعليم اللغة العربية في مدارسها،
وجعل القضاة والحكام في الولايات العربية من العارفين بلغة أهلها، وما
كان من حجتهم إلا أن قالوا: إنكم إذا طلبتم هذا فتحتم الباب لنصارى مقدونية
لطلب مثله لأنفسهم، ظانين أن رضانا بهضم حقوقنا يكون سببًا لرضاء أولئك
بمثل ما نرضى به وبدونه، جاهلين أنهم لا يرضون بمثل تلك الحقوق التي
يحملوننا على السكوت عن طلبها، وإن كان صلاحنا وصلاح دولتنا لا يكونان
إلا بها، وإنما وجهتهم انفصال ولاياتهم من الدولة ألبتة، واتصال كل شعب
منها بالدولة التي هو من جنسها.
بل جهل هؤلاء المفتونون بخداع الاتحاديين أنه لولا نصارى الولايات العثمانية
الأوروبية لما خطر في بال أحد من رجال دولتنا وإخواننا الترك فكرة الحكومة
النيابية.
ولا حاجة إلى شرح هذه المسألة الآن، وإنما موضع العبرة الذي اقتضت
الحال بيانه هو أن جمعية الاتحاد والترقي جعلت الدستور خدعةً لهؤلاء الناس
وللدول التي تنتصر لهم.
وأما مسلمو العثمانيين من العرب والأرنؤوط والأكراد فلا قيمة لهم
عندها؛ لأنها تعتقد أنها تدبر أمرهم بالقوة القاهرة، فكان غرورها هذا مهيجًا
لهؤلاء النصارى وحاملاً إياهم على الحرب الحاضرة بعد أن رأوا الجمعية
نفرت جميع العثمانيين من الدولة وأضعفت ثقتهم بها، وأحدثت مفاسد أخرى
أضعفت قوتيها: المادية والمعنوية، وهو ما بينا بعضه في المقالة الأولى،
وسنبين بقية المهم منه في المقالات الأخرى.
((يتبع بمقال تالٍ))