للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب الأوربية
والدولة العثمانية

كان أخوف ما نخاف على دولتنا قبل هذه الحرب اتفاق الدول الكبرى على
تقسيم بلادها إلى مناطق نفوذ اقتصادي، يتبعه النفوذ السياسي، فتمهد كل منهن
السبل في منطقتها للاستيلاء التام عليها، وتنتظر الفرص لإعلان امتلاكها، وكنا
قد رأينا بوادر هذا الاتفاق، ومنها الاتفاق مع فرنسا على منافعها في سوريا ومع
إنكلترا على العراق، بإزاء ما لألمانيا من الحقوق بامتياز سكة الحديد بين الآستانة
وبغداد.
أما وقد وقع بين تلك الدول ما كانت تتمخض به حوادث الأعصار وتشخص
لرؤية أهواله الأبصار، فقد سنحت لها فرصة للم شعثها، وتوفير ثورتها، وجمع
كلمة شعوبها، وإعداد وسائل الدفاع الوطني في بلادها، وإزالة ما للأجانب من
النفوذ والامتياز فيها، مع حفظ حقوقهم وتأمينهم على أنفسهم وأموالهم، بحيث
تكون مستقلة في داخليتها حق الاستقلال، ولا تكون دون الجبل الأسود والبلغار
واليونان، وما شرعت فيه من الاستعداد العسكري وتعبئة الجيش المنظم يجب أن
تراعي فيه الاقتصاد. وتجعله وسيلة للاستفادة من الحياد، ولا شك أن الأمة كلها
تشد أزرها في ذلك (وعند الشدائد تذهب الأحقاد) .
هذا ما نراه وما يراه كل مَن نعرف من العقلاء الذين ذكرناهم في هذه المسألة
من عرب وترك وغيرهما، وإنا لنعلم مع ذلك أن بين الحكومة الاتحادية والدولة
الألمانية اتفاقًا سريًّا قبل الحرب، والظاهر أن الثانية جعلته ذريعة لاستخدام جيش
الأولى في قتال أعدائها.
الدولة قريبة العهد بحرب لم تبق في خزائنها مالاً، ولا في مسالحها سلاحًا،
وقد أبيد بها مئات الألوف من خير جندها، والأمة فقيرة لا تستطيع أن تمد الدولة
عن سعة بما تستطيع أن تحارب به دولة كبيرة كالروسية وحدها، فكيف تحاربها
ومعها إنكلترا وفرنسا واليابان، وبعض حكومات البلقان؟ وهذه الحرب قد تستمر
عدة أعوام، كم تَسُوق من الجند إلى روسيا وكم تُبْقي لحماية بلادها الواسعة،
وثغورها غير محصنة؟ وإذا غلب جيش لها في رجاء من الأرجاء، أو احتاج إلى
الميرة والذخيرة والسلاح، فكيف السبيل إلى إمداده من الأرجاء الأخرى والبحار
محرمة عليها، ولا سكك حديدية تصل بين أقطارها؟