للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

القبر روضة أو حفرة، وتناسخ الأرواح
(س٣٣ و ٣٤) من صاحب الإمضاء في جهة المحلة مديرية الغربية بمصر.
حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد الشيخ محمد رشيد رضا، بعد تقديم فروض
الاحترام نرجو أن تتكرم بالرد على السؤالين أدناه بمجلتكم المنار الغراء:
١- هل (القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) حديث
متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب،
فهل الحكم في هذه الحالة للروح أو للجسد، مع ملاحظة أنه إن كان للروح فإنها لا
تسكن القبور، وإذا كان للجسد فما الحكم لمن يبتلعه الحوت أو اليم أو الوحوش
الكاسرة؟ وإذا كان بالسلب فما الفرق بين العاصي والطائع وما الفائدة من سؤال
منكر ونكير وهل ننكره؟
٢- هل تتقلص الروح من جسم إلى آخر، أو لكل جسم روح خاصة؟ لا
زلت للإسلام المرشد الرشيد الذي يضيء النهج والليل قاتم، وتنازلوا بقبول وافر
احتراماتي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صالح

(ج) أما حديث: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)
فقد رواه الترمذي والطبراني وسنده ضعيف، فلا هو متواتر ولا صحيح؛ ولكن
عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة وأنه يكون عقب الدفن، وإضافته إلى القبر
مبنية على أن الغالب في الموتى أنهم يدفنون في القبور لا على أنه خاص بمن يدفن،
وللأرواح مأوى في البرزخ بحسب درجاتها لا في القبور، والأجسام تفنى وهي
باقية، وكل ما ورد في القرآن والأحاديث من أخبار عالم الغيب ومنه كل ما يكون
بعد الموت فهو على غير المعروف لنا في عالم الشهادة، وليس لنا أن نبحث عن
صفته وكنهه، ونحن نجهل حالة الأرواح بعد انفصالها من هذه الأجسام، وإليها يوجه
السؤال في حالي الاتصال والانفصال، ومهما تكن حالتها فالفرق بين المؤمنين
والمتقين والكافرين المجرمين مما لا ينكره عاقل، والوارد في سبب سؤال الملكين
لمن يموت أنه امتحان له يعرف به بعض مستقبل أمره في الآخرة ومتى صح الخبر
عن عالم الغيب فالواجب الإيمان به وإن لم ندرك سره.
وأما مسألة تقلص الأرواح وانتقال الروح الواحد من جسد إلى آخر فهو مذهب
قديم باطل مشهور بمذهب التناسخ، والثابت عندنا أن لكل إنسان روحًا ينفخها فيه
مَلك يُرسله الله عندما يتم خلق جسده.
***
أسئلة مختلفة
(س٣٥ - ٤٩) من صاحب الإمضاء في منوف (مديرية المنوفية بمصر)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الرب القدير والصلاة والسلام على البشير
النذير، وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهداه فكان من الفائزين.
من مصطفى حافظ عيسى إلى صاحب المقام العالي السيد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) كيف أقدر لكم مجهوداتكم
المدهشة وبلاغتكم النادرة، ومحاوراتكم اللطيفة، وردودكم الملجمة لأفواه الملحدين،
الذين حملوا على المسلمين حملة شعواء فكنتم أنتم في مقدمة المجاهدين الذين
بددوا ظلماتهم بأنواركم الساطعة، وبراهينكم القاطعة، لقد جعلتم العالم الإسلامي
يقوم من مرقده بعد نوم عميق فصفق لكم العالم إجلالاً، لقد أبنتم بمناركم الرشد من
الغي، والظلام من النور، والبدعة من السنة، فإلى الأمام، أطال الله عمركم حتى
تنتفع بعلومكم الأنام، ومهَّد لكم الطريق حتى تتمكنوا من القضاء المبرم على هؤلاء
الأشرار.
يا صاحب الفضيلة: لما كان صدركم رحبًا في الإجابة عن الأسئلة التي توجه
إليكم وخصوصًا، صارت مجلتكم المنار موضع نظر العالم الإسلامي؛ لذلك أرجو
نشر الأسئلة المسطرة في هذا الخطاب حتى تسفروا عن حقائق الشريعة الغراء ولكم
من الله الجزاء الأوفى.
س١ ما قولكم في صلاة الجمعة في البيت جماعة هل هي صحيحة أم باطلة؟
وهل يشترط في الجمعة المسجد؟ نرجو الإبانة عن ذلك بالدليل من السنة؟
س٢ ما حكم الصلاة والسلام بعد الأذان بصوت مرتفع؟
س٣ ما هي البدعة وما أقسامها وما المراد من قول الرسول صلى الله عليه
وسلم: (كل بدعة ضلالة؟) وما المراد من قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: (نعمت البدعة هذه؟) وما حكم الصلاة خلف المبتدع؟
س٤ ما حكم شرب الدخان هل هو حرام أم لا؟ وما رأي الأطباء فيه هل هو
مضر أم لا؟ وما رأيكم في الحديث الذي معناه (صرف المال فيما لا يضر ولا
ينفع حرام) نرجو الإفادة بإسهاب على هذا السؤال خاصة.
س٥ ما حكم أكل الفسيخ والسردين المعروفين بمصر، وهل أكله مضر وما
رأي الأطباء في أكله من حيث الضرر وعدمه؟ وهل فيه ميكروب؟
س٦ ما حكم بيع الفسيخ والسردين والدخان؟
س٧ ما الغرض من الحديث الذي معناه (لعن الله الواصلة والمستوصلة)
وهل المراد وصل الشعر بالشعر أو وصل خيوط من القطن تسمى عند العامة
(بالضفاير) ؟
س٨ هل العمامة الخضراء والحمراء والصفراء ثبت لبسها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ وما حكم لبسها إذا لم يرد عن رسول الله أنه لبسها؟ أو كان
يريد بها التقرب من الله أو الافتخار أو إظهار النسب؟
س٩ ما حكم الذكر في المسجد بصوت مرتفع جماعة أو فرادى؟ وهل هذا
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
س١٠ يشرب الناس الشاي في هذه الأيام شربًا كثيرًا حتى صار عادة عند
الناس لا يمكن الاستغناء عنه، ولا يمكن القيام بالأعمال المعيشية إلا بعد تناوله
ويشرب بالكيفية الآتية:
مرًّا جدًّا لا يمكن استساغته إلا مع التضجر من شدة المرارة وقلة السكر، تعاد
الكرة ثلاث مرات، في مواعيد مخصوصة، يكون للشاي رئيس مخصوص ينفذ
قوانينه، يدار الشاي على الجميع كما تدار الخمر على محتسيها إلى غير ذلك؟
س١١ هل ورد عن الرسول أنه قال فيما معناه (كل محروق حرام) وإذا
كان قال ذلك فهل البن المستعمل في شرب القهوة محروق فيكون حرامًا؟ وما حكم
الشارع فيه إذا أضيف عليه شيء من السكر؟
س١٢ ما حكم الحجب والتمائم والرقى؟ وهل ورد عن الرسول فعل ذلك أو
إقراره؟
س١٣ ما حكم المحراب المستعمل الآن في المساجد؟ وهل ورد عن الرسول
صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما معناه: (لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في
مساجدهم مذابح كمذابح النصارى) وقال في موضع آخر: (اتقوا هذه المذابح)
وهل المذابح هي المحاريب وما المراد من قوله الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا
زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} (آل عمران: ٣٧) وقوله: {فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ} (مريم: ١١) وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ} (آل عمران: ٣٩) ؟
س١٤ ما حكم السلام بين المراحيض هل هو جائز أم لا؟
س١٥ و ١٦ ما عطر الرجل وما عطر المرأة؟ وإذا قلتم إن عطر الرجال
ما ظهر ريحه وخفي لونه فما عطر المرأة؟ وإن قلتم ما خفي ريحه وظهر لونه فما
هو إذًا؟ وهل استعمال الطلاء المستعمل لتلوين الوجه من عطر المرأة الذي خفي
ريحه وظهر لونه؟
أرجو من فضيلة الأستاذ إجابتي عن هذه الأسئلة الخمسة عشر، إما في
المجلة على مرار تباعًا، إما كتابيًّا ثم نشرها في المجلة، ولكم من الله جزيل
الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى حافظ عيسى

(ج ٣٥) صلاة الجمعة في البيوت:
صلاة الجمعة عبادة اجتماعية من شعائر الإسلام العلنية التي يقيمها بالمسلمين
إمامهم الأعظم أو نائبه إن وجد، ويخطب فيهم بما تقتضيه الحال من مصالحهم
وإرشادهم ويجب على جميع المكلفين في البلد الاجتماع لها في مسجد واحد إن أمكن؛
ولكن لا يشترط أن يكون المسجد موقوفًا، بل مسجدهم حيث يصلون، وأما صلاة
الأفراد لها في بيوتهم جماعات صغيرة فهذا شيء لا نعرفه عن سلف المسلمين ولا
خلفهم؛ ولكن بعض الظاهرية جوزوا إقامتها في أي مكان لعدم وجود نص في
الكتاب والسنة في العدد ولا في صفة المكان، وقد نقلنا هذا عنهم في فتوى سابقة
ولم نعلق عليه وقتئذ؛ ولكن يجب أن يعلم أن شعائر الإسلام الظاهرة من مناسك
الحج والجمعة والجماعة والعيدين والأذان التي ثبتت بالتواتر العملي المجمع عليه
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه - فالواجب فيها الاتباع ولا يجوز فيها
تغيير بزيادة ولا نقصان، ولا صفة من الصفات بناء على عدم دليل يمنع ذلك، بل
الأدلة الفقهية الظنية لا يُعتد بها في معارضة الشعائر المنقولة بالتواتر، وأما إذا
وُجد جماعة في قرية ليس فيها مسجد موقوف تقام فيه الجمعة والجماعة وأقاموها في
بيت من بيوتهم؛ فإنهم لا يكونون مخالفين للمأثور، على قول الجمهور بصلاتها
في القرى وعدم اشتراط المصر الذي تقام به الأحكام الشرعية، وهذا مذهب الحنفية.
* * *
(ج ٣٦) زيادة الصلوات والسلام في الأذان:
الأذان من شعائر الإسلام المنقولة بالتواتر من عهد الرسول صلى الله عليه
وسلم، وكلماته معدودة في كتب السنة وكتب الفقه مجمع عليها بين أئمة المسلمين
من أهل السنة والجماعة، والشيعة يقولون فيه (حي على خير العمل) ولهذا
أصل في بعض الروايات، وهو أنه وجد في أول الإسلام، ثم ترك ونسخ على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما زيادة الصلوات والتسليمات في آخره فهي من بدع المؤذنين المتأخرين
وقد توسع فيها بعضهم فصاروا ينادون فيها البدوي وغيره من الأموات الذين
يدعوهم هؤلاء المبتدعة من دون الله، فقد دهشت سنة قدومي إلى مصر إذ سمعت
أول مؤذن طرق سمعي صوته في أذان الفجر ينادي في آخر الأذان: يا شيخ
العرب.
وإنما فشت هذه البدعة وأمثالها في أمصار المسلمين بسبب جهل المعممين
أدعياء العلم بالسنة، وما ترتب عليه من عدم إنكارهم على منتحلي البدع، وفتح
لهم باب الاحتجاج على تأييد البدع قول بعض فقهاء القرون الوسطى بأن البدعة
قسمان: حسنة وسيئة، فصاروا يتبعون أهواءهم في الاستحسان وعدمه، وإننا
لنعجب أشد العجب إذ نرى بعض كبار علماء الأزهر يفتون الناس ببدعة الزيادة في
الأذان ويزعمون أنها حسنة؛ لأنها ذكر مشروع في جنسه وحسن، وقد قلنا ولا
نزال نقول في تفنيد جهلهم هذا: إذا جاز للناس في العبادة المأثورة أن يزيدوا فيها
غير المأثور في نفسه، وإن كان مأثورًا في نفسه فلهم أن يزيدوا في أول الأذان
وفي وسطه كما يزيدون الآن في آخره، وأن يكون من هذه الزيادة تلاوة بعض
آيات القرآن فإنه لا أحسن منه، ولهم أيضًا أن يزيدوا في الصلاة ركعات أو
سجدات أخرى، وأن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التلاوة في كل
ركعة.
وهل يوجد دليل على امتناع هذا كله غير كونه مخالفًا للمأثور؟ وما الفرق إذًا
بين الأذان وغيره؟ أما إنه لو فعل هذا كثير من العوام، لأفتاهم باستحسانه مفتي
مجلة نور الإسلام.
* * *
(ج ٣٧) تعريف البدعة وأقسامها:
البدعة في اللغة: الفعلة أو الحالة المبتدعة المستحدثة، فإن كانت في الدين
فهي شرع لم يأذن به الله وافتراه على الله، وهي ما لم يكن في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم وجماعة المسلمين في عهده من العبادات، كما قال الإمام مالك: كل ما
لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دينًا فلا يكون بعده دينًا، وأما غير
الدينية المحضة فهذه منها حسن وهو النافع الذي لا مفسدة فيه، ومنها سيئ وهو
الضار وما يترتب عليه فساد مثلاً، وكل منهما درجات فتعتريها الأحكام الخمسة،
ودليله حديث مسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) إلخ، وقوله (في الإسلام) معناه في عهد الإسلام المقابل لعهد الجاهلية.
وتسمية عمر رضي الله عنه جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح
بدعة تسمية لغوية؛ فإن صلاة قيام رمضان جماعة مشروع في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليه لئلا يظن وجوبه، وصار
الناس بعده يصلونها جماعات متفرقة، فجمعهم عمر على إمام واحد لكراهة التفرق
شرعًا.
وأما البدعة الدينية المحضة فهي لا تكون إلا قبيحة وضلالة، ودليل الكلية ما
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول على المنبر: (أما بعد فإن
أصدق الحديث كتاب الله وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) الحديث. رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
وعرَّف الشاطبي البدعة في كتابه الاعتصام بقوله: (إنها طريقة في الدين
مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى، أو
يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، وقسمها إلى حقيقية وإضافية،
فيُراجَع.
وروى بعض الجاهلين بالسنة أحاديث في عبادات مخصوصة بصفة
مخصوصة كصلاة رجب التي سموها صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان، وقد
عمل بها الناس في بعض البلاد وأجازها بعض الفقهاء لجهلهم بأن الحديث فيها
موضوع، فتصدى لهم الفقهاء المحدِّثون وبيَّنوا خطأهم حتى قال الإمام النووي في
المنهاج: وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان، وأنكر الفقهاء صلاة
ركعتين بين الصفا والمروة قياسًا على سنة ركعتي الطواف؛ لأن العبادة إنما تثبت
بالنص دون القياس، وقد فصلنا هذا الموضوع في مواضع من مجلدات المنار
محررًا تحريرًا.
* * *
(ج ٣٨) شرب الدخان:
بيَّنا مرارًا أنه لا يقوم دليل على تحريم التدخين تحريمًا عامًّا إلا إذا ثبت أنه
ضار ضررًا شديدًا بكل من يستعمله، وهذا لم يثبت؛ ولكن الأطباء متفقون على
أن فيه مادة سامة يسمونها (نيكوتين) وأن استعماله يضر بعض الناس وينفع بعضًا
في الجملة، وأن أكثر الذين يتعودونه بالتدريج لا يضرهم ضررًا ظاهرًا، وعلى
هذا يختلف حكمه باختلاف مستعمليه، فمن ثبت عنده أنه يضره بالتجربة أو بقول
طبيبه فعليه أن يتركه؛ لأنه يكون محرمًا عليه. وقد اختلفت فيه أقوال فقهاء المذاهب
فكان أكثرهم يحرِّمه عقب ظهوره كعادتهم في كل شيء جديد، وبعد أن فشا واعتيد
صار أكثرهم يبيحه وبعضهم يكرهه كعادتهم في مثل ذلك، وقد أفتى شيخ الأزهر
أبو الفضل الجيزاوي ومفتي الديار المصرية بأن ثالث أقوال العلماء فيه وهو
الكراهة هو الوسط الراجح.
وأما حديث (صرف المال فيما لا يضر ولا ينفع حرام) فلم أره في شيء من
كتب الحديث، ولعله لا يوجد في الدنيا شيء يصرف فيه المال لا ينفع ولا يضر
مطلقًا، والتحريم في أصول الشرع هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا،
وكان علماء السلف يشترطون في هذا الخطاب الإلهي أن يكون قطعي الرواية
والدلالة معًا، وقد صرَّح به أئمة الحنفية وهو الحق، فالحديث المزعوم معارض
بهذا الأصل الشرعي وبأصل الإباحة في الأشياء المأخوذ من قوله تعالى: {هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) .
* * *
(ج ٣٩) أكل الفسيخ والسردين:
كان ينبغي للسائل الرجوع في هذا السؤال إلى الأطباء، وأنا لم أسمع منهم ولا
عنهم أن أكل الفسيخ والسردين ضار، والفسيخ لا يؤكل في بيتي لأننا نستقذره ولم
نتعوده ولا نحب أن نتعوده، وأما السردين فمنه نوع جيد كالفسيخ لا نأكله ونوع
كالمطبوخ شكلاً وطعمًا ربما نأكله قليلاً، وقد تمر السنون الكثيرة ولا يأكله أحد منا.
* * *
(ج ٤٠) بيع الفسيخ والدخان:
حكم بيع الفسيخ والدخان تابع لحكم استعماله الذي علم مما تقدم.
* * *
(ج ٤١) حديث (لعن الله الواصلة والمستوصلة) :
أما الحديث فهو متفق عليه رواه الجماعة كلهم، وأما معناه فهو وصل شعر
المرأة بشعر مستعار من غيرها، فالمستوصلة طالبة الوصل، والواصلة هي التي
تفعله لها، وأما سببه فهو أنه زينة مزورة قد تستعمل للغش في الزواج وغيره، كما
في حديث معاوية في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور.
ولا يدخل فيه الضفائر التي كانت تسمى بالقرامل، وهي تكون من الصوف أو
القطن أو الحرير. روى أبو داود عن سعيد بن جبير قال: لا بأس بالقرامل. وبه قال
الإمام أحمد وكثير من العلماء، ومنعه الإمام مالك وآخرون، وقال الشافعية: إذا
وصلت المرأة شعرها بشعر طاهر من غير الآدمي بإذن الزوج أو السيد جاز وإلا
حرم.
* * *
(ج ٤٢) العمائم الخضراء والحمراء والصفراء:
هذه العمائم التي يلبسها مشايخ الطرق المنسوبة إلى الصوفية لم يثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم منها شيء إلا العمامة السوداء، فقد ورد أنه دخل مكة عام
الفتح وعليه عمامة سوداء، وهو لم يلبسها تشريعًا بل اتفق له ذلك، وقد سئل السيد
محمد الزغبي الجيلاني شيخ الطريقة القادرية في طرابلس الشام عن سبب اختلاف
أهل الطرائق في ألوان عمائمهم وأعلامهم وغير ذلك مع قولهم: إن غايتها واحدة
هي عبادة الله ومعرفته، فأجاب السائلَ وهو من مريديه: تغيير شكل، لأجل الأكل!!
أخبرني بهذا ابنه الأستاذ الكبير السيد عبد الفتاح نقيب الأشراف وشيخ الطريقة
لهذا العهد.
وأما حكم لبسها لذاته فهو الإباحة، إلا إذا كان لأجل شهرة باطلة، ومنها
العمامة الخضراء لغير الأشراف في البلاد التي تعدها شعارًا لهم، أو إيهام الناس
بالصلاح أو الولاية رياء أو استدرارًا للمنافع المادية أو طلبًا للشهرة فيكون محظورًا
بقدر حظر هذه المفاسد وما يترتب عليها من الباطل، وشر من هذا كله أن تُلبس
بدعوى أنها مطلوبة شرعًا، وأنها من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا
من الكذب على الله ورسوله.
* * *
(ج ٤٣) الذكر برفع الصوت في المسجد:
إن رفع الصوت الشديد بالذكر والدعاء المشروعين مكروه منهي عنه، وأما
هذا الذي يفعله أهل الطريق في بعض المساجد والزوايا وفي الطرقات أحيانًا فهو
من بدعهم المنكرة من كل ناحية، لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن
السلف الصالح، وفعله في المساجد شر من فعله في غيرها؛ لأنه يشغل المصلين
وقد يمنعهم من الصلاة التي بنيت المساجد لأجلها ومن الذكر والتفكر والتدبر من
العبادات المشروعة، بل اتفق العلماء على أن تلاوة القرآن إذا كان رفع الصوت
بها في المسجد يشغل المصلين ويهوش عليهم فإنه يمنع، وقد فصَّلنا هذا في
مواضع من المنار، وللإمام الشاطبي في الاعتصام بحث طويل في الإنكار على
أذكار الصوفية البدعية، فراجعه فيه وراجع كتاب المدخل أيضًا.
* * *
(ج ٤٤) شرب الشاي كالخمر:
شرب الشاي مباح كالقهوة لمن لا يمسه ضرر منه، وهذه الصفة التي ذكرها
السائل لم نرها ولم نسمع خبرها عن أحد من قبله، وهي تَشَبُّه بالسكارى في شربهم
للخمر، أقل ما يقال فيها: إنها مكروهة كراهة شديدة، وقالَ بعض كبار الفقهاء بأن
مثل هذا التشبه حرام، ذكر الغزالي في الكلام على إباحة السماع لذاته، وتحريمه
لبعض العوارض أن من تلك العوارض التشبه بأهل البدع وأهل الفسق الذي يلحق
المتشبه بمن يتشبه بهم كما ورد (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود من حديث
ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا وحسنوه، ثم قال ما نصه:
وبهذه العلة نقول: لو اجتمع جماعة وزيَّنوا مجلسًا، وأحضروا آلات الشرب
وأقداحه وصبوا فيها السكنجبين [١] ، ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم فيأخذون
من الساقي ويشربون، ويحيي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم - حرم ذلك
عليهم، وإن كان المشروب مباحًا في نفسه؛ لأن هذا تشبه بأهل الفساد ... إلخ.
* * *
(ج ٤٥) حديث كل محروق حرام:
هذه الجملة لم أرها في كتاب ولم أسمعها إلا من بعض العوام، والمحروق
يطلق في اللغة على الذي زالت حارقته وهي رأس الفخذ أو الذي زال وركه،
وعلى السَّفُّود وهو - بوزن التَّنُّور - الحديدة التي يشوى عليها اللحم، وللخبز أو اللحم
الذي تحرقه النار أسماء في اللغة الفصحى أشهرها المحاش، ويقال: محشته النار
وأمحشته، واللغة الفصحى في فعل النار الإحراق والتحريق وهو المستعمل في
القرآن والحديث، والحرق بالتحريك اسم النار، وأما قولهم: حرق الثوب ونحوه،
فقد قال الراغب: إن معناه إيقاع حرارة فيه من غير لهيب، وحرق الأسنان
والأضراس سحق بعضها على بعض، وهن من بابي نصر وضرب.
* * *
(ج ٤٦) الحجب والتمائم والرقى:
هذه الأمور من أعمال الجاهلية وسائر الشعوب الهمجية التي استحوذت عليها
الخرافات والأوهام، وقد أبطلها الإسلام، وورد في حظرها أحاديث شديدة منها
قوله صلى الله عليه وسلم: (من علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم من
حديث عقبة بن عامر، وقوله: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو
داود وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن مسعود، وقوله: (ثلاث من السحر:
الرقى والتولة والتمائم) رواه الحاكم من حديثه أيضًا.
ولما كان بعض المرضى ولا سيما أصحاب الأمزجة العصبية منهم ينتفعون
بالأوهام، أَذِن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية وقال: (من استطاع منكم أن ينفع
أخاه فلينفعه) رواه أحمد ومسلم من حديث جابر، وأجاز الذين رقوا سيد الحي
المشرك من اللدغة بفاتحة الكتاب كما في الصحيحين وأجاز لهم أخذ الجعل عليها،
واشترطوا في الرقية المباحة أن لا يكون فيها شرك كرقى الجاهلية كما في حديث
عوف بن مالك عند مسلم وأبي داود، وروى البخاري في التاريخ وابن سعد
والبغوي والطبراني وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لُدغ مرة فغشي عليه
فرقاه ناس فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم) وذلك أنهم كانوا كأمثالهم
في كل زمان ينسبون نفع ذلك إلى الجن وما شاكل ذلك من الخرافات، فأبطل ذلك
بضده وهو دعاء الله تعالى فكان صلى الله عليه وسلم يقول في رقيته للمريض:
(اللهم رب الناس مذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر
سقمًا) وفي رواية (أذهب الباس) وهو في الصحيح من حديث أنس وعائشة،
وقال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون
ولا يتطيرون) الحديث، وهو في الصحيحين وغيرهما.
وقد فصَّلنا هذه المسألة في مواضع من المنار أذكر منها الآن ص٣٩٠ م ٧.
* * *
(ج ٤٧) المحراب في المساجد والمذبح في الكنائس:
المحراب يُطلق في اللغة على مقدم المجلس وصدر المجلس والمحل المشرف
العالي منه، وعلى غرفة في مقدمة الدار، ومنه يُسمى مكان الإمام من المسجد
محرابًا؛ وإنما جُعل له تجويف في جدار القبلة حتى لا يُعطل الإمام منه صفًّا كاملاً؛
لأن المصلين يكونون وراءه، وكان لهياكل العبادة عند الوثنيين ثم عند أهل
الكتاب محاريب هي الموضع المقدس عندهم من الهيكل أو المعبد ومنه محراب
زكريا ومريم عليهما السلام، وما يُسمى عند النصارى بالمذبح الآن، وأصل
المذبح في الأديان القديمة موضع ذبح القرابين الدينية، ففي سفر التكوين (٨: ٢٠
وبنى نوح مذبحًا للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح)
وفي آخر سفر الخروج أن الرب أمر موسى أن يصنع له مذبحًا من تراب يذبح
عليه محرقاته وذبائح سلامته قال: (وإذا صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنه منها
منحوته) أي لأنها تشبه التماثيل، ويراجع في هذا السفر مذبح المحرقات أو المذبح
النحاسي ومذبح البخور أو المذبح الذهبي، ومحاريب مساجدنا لا تشبه هذه المذابح
ولا محاريب الكنائس في صورتها ولا في أحكامها، وما ذكرتم من الأحاديث فيها
فهو ما لا نعرف له رواية، فإن كنتم رأيتموه في كتاب فأخبرونا به أو انقلوا لنا
عبارته إن كان غير مشهور، ولا يجوز لأحد أن يعزو إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم حديثًا إلا إذا رآه مرويًّا في كتاب من الكتب الموثوق بها، أو سمعه من
عالم مؤتمن على السنة الطاهرة؛ وإننا نرى بعض كبار علماء الأزهر يذكرون في
مجلته المسماة بنور الإسلام أحاديث موضوعة ويدعون صحتها، وإذا نقل لهم
معترض حكم بعض الحفاظ بوضعها ماروا وجادلوا وحرَّفوا وتأولوا، مصرين على
تصحيح الموضوع كما ترونه في باب التقريظ من هذا الجزء، فما رأيكم في
غيرهم؟ أما نحن فنقول فيما نثبته على بينة، ونقول فيما لا نعرفه: إننا لا نعرفه،
ومن قال لا أدرى فقد أفتى.
* * *
(ج ٤٨) السلام بين المراحيض:
قال صاحب كتاب الآداب الشرعية (ص ٣٧٨ ج ٢) ويُكره السلام على من
يقضي حاجته، وَرَدُّه منه. نص عليه أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد
على الذي سلم عليه وهو يبول. رواه مسلم وغيره، وقدم في الرعاية الكبرى أن الرد
لا يُكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد، كذا رواه الشافعي من رواية إبراهيم بن
أبي يحيى، وإبراهيم ضعيف عند الأكثرين.
* * *
(ج ٤٩) طيب الرجال والنساء:
في حديث أبي هريرة المرفوع (طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه،
وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه) رواه الترمذي والنسائي، وفي معناه
حديث عمران بن حصين (ألا وطيب الرجال ريح لا لون له وطيب النساء لون لا
ريح له) قال بعض الرواة: هذا إذا خرجت المرأة، وأما إذا كانت عند زوجها
فلتطيب بما شاءت. ومستنده حديث أبي هريرة في الصحيح (أيما امرأة أصابت
بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وحديث
التفرقة بين طيب الرجال وطيب المرأة، غير صحيح وإن صححه الحاكم.