يود كل مسلم عثماني أو محكوم من دولة غير إسلامية لو تكون الدولة العلية في أعلى درج العزة وأقصى غايات القوة , فيعود للإسلام مجده على يديها , ويشتد أزره بساعديها ويكون الترك والعرب وسائر العناصر الإسلامية في هذا المجد سواء, وما كان أقرب هذه الأمنية لو استن من جاء بعد السلطان سليم ياوز (عليه الرحمة) من الملوك بسننه السياسية , فعمموا اللغة العربية وجعلوها اللغة الرسمية , ووجهوا عنايتهم إلى ضم سائر الممالك الإسلامية إليهم , ولكن لم يصل عقل أحد منهم إلى ما وصل إليه ذلك العقل الكبير , بل ظلوا مفتونين بالبلاد الأوربية التي أنفقوا على فتوحها خزائن قوتهم , وما زالت تتربص بهم الدوائر حتى أمكنها بمساعدة الدول القوية أن تستقل دونهم مملكة مملكة وولاية بعد ولاية. وما انفصلت ولاية من تلك الولايات من جسم الدولة إلا وأحدثت فيه من الضعف مثلما يضعف الجسم الحي الذي تقطع أعضاؤه واحدًا بعد واحد لفسادها أو خروجها عن ما يقتضيه مزاج مجموع الجسم. كلنا نعلم أن أوربا متحاملة على الدولة العلية , وأنه لا يُنجي الدولة من الخطر الذي يتهددها منها إلا قوة الأمة قوة شاملة لجميع عناصرها الحقيقية , ونعلم أن العرب وهم العنصر الأكبر متأخرون عن الترك , وينذرهم من الخطر ما لا ينذر الترك. والعرب عز الإسلام وبيضته , وبلادهم منبع حكمته ومنبعث أشعته , فيها أُسِّس بنيانه , وفيها تقام أركانه , فإذا غلب الأجانب العرب على أمرهم وأنشبوا براثنهم في أحشاء بلادهم , فذلك هو الموت الأحمر والبلاء الأسود الذي يسلب من المسلمين أسآر الرجاء , ويذهب بما بقي لهم من الذماء (بقايا النفس) والعياذ بالله تعالى. ومهما سلمت الأمة العربية وبلادها فإن النفوس تظل مطمئنة راجية أن يعتز الإسلام بها يومًا من الأيام. إن أنواع القوى للأمم ثلاث: العلم والثروة والاستعداد الحربي , فأما العلم فإن الدولة قد خصصت جزءًا من مالها للمعارف إلا أنها كادت تجعل ذلك محصورًا في البلاد التركية، فليس لها في البلاد المقدسة مدرسة ولا مكتب. ولا نقول كما يقول سيئو الظن أنها تتحرى بقاء العرب على جهالتهم وضعفهم لئلا يسترجعوا الخلافة منها , بل نقول ما يقتضيه حسن الظن والتأليف بين العنصرين , وهو أن الدولة عاجزة عن تعميم المعارف , ومن السياسة تقديم عاصمة السلطنة وما أطاف بها على سائر البلاد. وإذا كانت عاجزة فالواجب على العرب خاصة - والمسلمين عامة - أن ينوبوا عنها بإحياء البلاد العربية بالعلوم والفنون , ويعرفوا أهلها ما يتوعدهم من نوائب الدهر وغوائله , وكيف يمكنهم حفظ معهد الدين وكعبة الإسلام. فنحض كل مسلم على أن يجيب داعيهم ويمد إليهم ساعد المساعدة. وأخص بالذكر الذين يسعون في إنشاء (دار علوم) في مكة المكرمة وهذا سعي في مقدمات الوحدة العربية يرضي الدولة العلية , ولا يهيج علينا دول أوربا فهو على ما اشترطنا في مقالة (إعادة مجد الإسلام) وأما الثروة فهي في هذا العصر تابعة للعلوم والفنون والسلطة , فلا غرو حينئذ أن يكون الترك فيها أحسن حالاً من العرب. وأما القوة الحربية , فقد وجهت الدولة العلية عنايتها لتعليم فنونها للأتراك أيضًا , فلا يكاد يوجد عندها قائد عسكري من العرب , وما كانت الدولة مقصرة بهم أكثر من تقصيرهم بأنفسهم، فإنهم لعموم الجهالة يرغبون عن الخدمة العسكرية ولا يرغبون فيها , وحيث كان التكلان في حماية البلاد على الدولة نفسها , فلا فرق بين بلاد العرب وغيرها إذ الجميع بلادها , فهي تحميها على السواء ما دامت قادرة - وستدوم إن شاء الله تعالى - وأما إذا كان من المخبوء لها في مطاوي الغيب أن سيجيء يوم تحتاج فيه هذه البلاد إلى المدافعة عن نفسها بنفسها حيث يكون قواد الترك مشغولين بأنفسهم وحفظ بلادهم عن غيرها , فذلك يوم تحتاج فيه إلى قواد مهرة في الفنون العسكرية من أهل البلاد أنفسهم , فإذا وُجدوا - وما وجود السلاح الجديد إلا أيسر من وجودهم - فحينئذ يُرجى بشجاعة العرب وبسالتهم أن يظلل الأمن تلك البلاد المقدسة من لفحات هجير ذلك اليوم العصيب. ولهذا اقترح المنار غير مرة على مولانا السلطان الأعظم أيده الله بنصره وتوفيقه أن يعمم التعليم العسكري في جميع المملكة لأجل أن يكون كل قطر قادرًا على الدفاع عن نفسه إذا وقعت الواقعة , وانكسر الباب الذي نسمع أوربا آنًا بعد آن تنادي أنه (مفتوح) فادخلوه عسى أن تنالوا شيئًا , ثم يسكت المنادي معتبرًا أن (الباب المفتوح) قد أغلق إلى أجل مسمى. فإذا وفقت الدولة العلية لهذا ينال سائر البلاد العربية منه ما نال طرابلس الغرب ويجب على أبناء العرب المشتغلين بالفن العسكري علمًا وعملاً أن تسمو أنفسهم إلى إحراز الغاية من هذا الفن الجليل استعدادًا لذلك الأمر الجلل , وهذا نوع من الاستعداد لحفظ الأمة العربية وسلامة وحدتها، لا يخل بسيادة الدولة العلية على بلادها , ولا مجال لأوروبا لمعارضتنا فيه , بل يحصل ولا تشعر به لأنه عمل نفسي محض , فمن لي بمن ينفثه في روع كل فرد من أهله. ووراء هذا النوع نوع آخر يعرفه أهل الرأي الصائب والعقل النافذ لا يسطر في الكتب والجرائد؛ لأنه مخالف لما شرطناه للكلام في الوحدة العربية. وخلاصة القول: إن جميع العناصر الإسلامية أمست مهددة من أوربا , وأن الخطر الأكبر على من كان أضعف في القوى الثلاث التي ذكرناها في هذه المقالة , وأن الخطر الذي يلحق بالإسلام من استيلاء الأجانب على العرب أشد من كل خطر يصيبه من استيلائهم على غيرهم من العناصر الإسلامية المستقلة كالترك والفرس والأفغان , وأن كل عنصر من هذه العناصر أكثر استعدادًا من العرب لحفظ وحدته, وأنه لا يفيد الإسلام قوة واحد منها كما يفيده قوة العنصر العربي , فيجب إذن على الأمة العربية أن تسعى في تقوية نفسها وجمع كلمتها وحفظ وحدتها , ويجب على جميع المسلمين أن يساعدوها على ذلك؛ لأنها روح الجامعة الإٍسلامية التي توجهت إليها أفكار عقلائهم بعد ما كاد الضغط يسحقهم سحقًا. أما كفاكم أيها المسلمون ما جناه عليكم اختلاف العناصر وتفرق الأجناس؟ أما آن لكم أن تعلموا أن أمتكم هذه أمة واحدة؟ اعلموا واعملوا , وعلى الله المتكل في نجاح العمل.