ثلاث خطب ارتجالية في الاحتفال به بطرابلس الشام [*] (خلاصة الخطبة الأولى في ميدان التل) أيتها الأمة العثمانية الكريمة: أهنئك بهذا اليوم السعيد الذي تحتفلين فيه بافتتاح مجلس المبعوثين، وإنني لأهنئك بأمر عظيم، أهنئك بأنك صرت بهذا اليوم أمة، وما أحلى هذا القول في فمي، وأحبه إلى قلبي؛ نعم في هذا اليوم صار يصح إطلاق لفظ الأمة عليك، ولم تكوني من قبله إلا عبارة عن أفراد متفرقين لا يصدق عليهم هذا اللفظ على وجه الحقيقة. يطلق لفظ الأمة في عرف علماء الاجتماع والسياسة على الجمع العظيم الذي يتألف من شعوب متعددة، ويرتبط بعض أفراده ببعض بقوانين ومصالح مشتركة. فالاجتماع هو الأصل الذي يتحقق به معنى الأمة المؤلفة من جمعيات بعضها أكبر من بعض، أدناها الأسرة، وهي أول اجتماع بشري وأقدمه، وأعلاها الأمة التي هي منتهى ما يصل إليه الاجتماع. هل يسوغ لنا أن ندعي أننا كنا أمة في طور الاستبداد الماضي الذي قضينا عليه القضاء المبرم في هذا اليوم؟ كيف وقد كنا ممنوعين من كل معنى من معاني الاجتماع، حتى في الأسرة، فقد صار الأب يهرب من ابنه، والابن ينفر من أبيه، والأخ يفر من أخيه، خوفًا من تجسس بعضهم على بعض، وحتى صار الاجتماع في الأعراس والمآتم مخوفًا ومهددًا في دار السلطنة! ! منع الاستبداد الماضي أن يجتمع الناس للشكوى من الظلم بأنفسهم أو بكتابة (المحاضر) ، وفرض عليهم أن يشكوا منفردين، وإن كان ما يشكون منه مشتركًا، بل منع شهادة التواتر الشرعية؛ لأنها لا تحصل إلا من جمع كثير. فالأفراد الذين يمنعون من أصغر أنواع الاجتماع ويهددون بالعقاب عليه كيف يسوغ لهم أن يدّعوا أرقى أنواعه وأعلاها؟ اليوم قد تحقق زوال ذلك الاستبداد المفرق، فاجتمع المبعوثان الذين اختارتهم الشعوب العثمانية؛ لينوبوا عنها في القيام بمصالحها العامة، كوضع القوانين والمراقبة على الحكام العاملين، فبهذا الاجتماع تحقق تكوّن الأمة. فهذا اليوم هو العيد الوطني الأكبر العام لجميع العثمانيين، فإن ما عداه من الأعياد الدينية وغير الدينية خاصّ ببعض الشعوب والأجناس، أو بعض الأديان والمذاهب، وفي هذا اليوم يحتفل بهذا العيد المسلم والنصراني واليهودي وغيرهم، يحتفل به التركي والعربي والألباني والرومي والكردي والأرمني، يحتفل به العثمانيون في البلاد العثمانية، وحيثما كانوا من البلاد الأجنبية، يحتفلون به مجتمعين ممتزجًا بعضهم ببعض، لأنه عيد الجميع. هذا الجمع الذي نحن فيه يمثل لنا احتفالاً من تلك الاحتفالات الكثيرة. أَمَا ترون فيه الحاكم السياسي والإداري والقاضي الشرعي وأمراء العسكرية وغيرهم من رجال الحكومة ممتزجين بعلماء الدين الإسلامي وقسوس النصرانية، وسائر أصناف الأمة من الزراع والصناع والتجار والعمال وتلاميذ المدارس [٢] والبشر يتدفق من وجوه الجميع؛ لأن العيد هو عيد الجميع. ثم إنني أهنئ الأمة في هذا العيد السعيد بمعنى آخر، وهو أنها قد صارت في هذا اليوم حاكمةً لنفسها بنفسها، فإن المبعوثين الذين اجتمعوا في هذا الوقت المبارك في دار السلطنة؛ لينظروا في قوانين البلاد، وكيفية تنفيذها، فيقروا ما يشاءون، ويغيروا ما يشاءون، لم يكن السلطان هو الذي اختارهم وولاهم هذا العمل، ولا غيره من رجال الحكومة، وليس له ولا للحكومة أن يختاروا غيرهم عند انتهاء مدتهم، أو يعيدوا انتخابهم، وإنما كان هذا من الأمة، فهي التي أنابتهم عنها للنظر في شئونها؛ لأن هذا الحق هو لها دون غيرها، فهي إذن الحاكم الأعلى، وجميع الحكام من أعلاهم إلى أدناهم مستأجرون لها بما لها؛ لأجل أن يقوموا بما لا بُدَّ لها منه، ولا غناء عنه من المصالح العمومية، ملتزمين في ذلك شريعتها وقوانينها التي ارتضتها لنفسها. في هذا اليوم نالت الأمة هذا الشرف العظيم بالفعل، وكانت من قبل مستعبدة للحاكم المستبد يتصرف في أموالها وأرواحها وحقوقها كما يشاء، ولا يسمح لها أن تقول، ولا أن تفعل إلا ما يدل على السمع والطاعة والخضوع للعبودية. بقي أن تعلموا أيها الإخوان أنَّ حكم الأمة لنفسها محصور فيما ذكرنا من اختيارها، وانتخابها لمن ترى فيهم الكفاءة والاستعداد لوضع القوانين العادلة لها، والمراقبة لتنفيذها والنظر في مصالحها العامة، كعلاقة الدولة مع الدول الأجنبية، وليس منه ما رأيناه من تجمهر بعض الأفراد واجتماعهم في دار الحكومة لإلزام بعض الحكام بما يرونه ويرغبون فيه، فإن هذا هو عين الفوضى والخلل، لا تصلح معه حال، ولا يستقر نظام، ونسأل الله أن يتم علينا هذه النعمة، ويوفق نوابنا إلى ما فيه خير الملة والأمة. * * * (خلاصة الخطبة الثانية في نادي الجامعة العثمانية) أحب أن أقول كلمة وجيزة في معنى الثقة بنجاح مجلس الأمة، ودوام الدستور: سمعت كثيرًا من الناس يدعون الله تعالى بمثل قولهم: (الله يتمم بالخير) ، فكان يسرني هذا الدعاء من جهة، ويسوءني من جهة أخرى. يسرني لأنه صادر عن غيرة وحرص على نعمة الدستور، وخوف على مجلس المبعوثين الذي يكفله أن يفشل أو يصيبه كيد الكائدين، ويظفر بمراده حزب المستبدين المتقهقرين. ويسوءني بما يظهر من فحوى القول ولحن الدعاء، من ضعف الثقة وتغليب الخوف على الرجاء، فإن هذا الخوف يكاد يقرأ على الوجوه، ويسيل من الألسنة متدفقًا عن القلوب. إنني أدعو مع الداعين بأنْ يتم الله عملنا بالخير، ويجعل النهاية خيرًا من البداية، فإننا لا نستغني عن الدعاء، في السراء ولا في الضراء، ولكنني أدعو وأنا ممتلئ القلب بالأمل والرجاء، ولست أرى للخوف محلاًّ بفضل الله وكرمه، فإن حالنا اليوم لا تقاس على حالنا من مدة ثلث قرن كامل، أيامَ عقد مجلس الأمة الأول، ثم حله الاستبداد، فلم يلق في حله مقاومة ولا ملامًا، بل كان بردًا وسلامًا. الفرق بين مجلسنا اليوم ومجلسنا في ذلك الوقت بعيد جدًّا، إن ذلك المجلس لم يكن بسعي الأمة ولا برأيها، ولم تكن عالمة به ولا مستعدة له، وإنما هو من صنع مدحت باشا، أبي الحرية، وبعض إخوانه الوزراء والكبراء، فهم الذين وضعوا القانون الأساسي، وبسعيهم ألزموا السلطان بقبوله، فأظهر القَبُول وأمرت الوزارة بانتخاب المبعوثين فانتخبوا واجتمعوا، ولما تفرق شمل هذه الوزارة حل السلطان ما كان منعقدًا، وفرق ما كان مجتمعًا، فكان إبطال (مجلس المبعوثان) أسهل عليه من إبطال نابليون لمجلس النواب؛ إذ لم يكن له من الأمة عضد يؤيده، ولا من الجيش نصير يحفظه ويعضده، أطلقوا على ذلك المجلس لقب (أوت أفندم) [١] ؛ إذ قالوا: إن الأعضاء كانوا يصادقون على كل شيء تلقيه إليهم الحكومة بكلمة (أوت أفندم) فلما أراد السلطان فض المجلس قال لهم مندوبه: اخرجوا واذهبوا إلى بلادكم، فوضعوا أيديهم على جباههم (إشارةَ الطاعةِ) قائلين: (أوت أفندم) ، وولوا منصرفين (فما كان لهم من فئة ينصرونهم وما كانوا منتصرين) . ماذا كان من أمر القوة العسكرية، كالشرطة وغيرها؟ إنها هددت المبعوثين ذوي الجرأة، وأنذرتهم البطش بهم إذا لم يسرعوا بالسفر من الآستانة، فذهبوا مسرعين، ذلك بأن الاستبداد خاف من بقائهم أن يحدثوا هنالك تأليبًا للناس ويحملوهم على المطالبة ببقاء مجلس الأمة والمحافظة على القانون الأساسي، على أن الأمة نفسها لم تكن تحفل بذلك ولا تعرف قيمته، ولذلك لم يظهر منها أدنى اهتمام في مكان ما. أما الآن فقد تغيرت الحال، واستبدل الله أقوامًا بأقوام، فقد نلنا الدستور، وأعدنا القانون الأساسي بسعي أحرار الأمة النابغين، ومساعدة الجند وضباطه المستنيرين، لا بسعي أفراد من الوزراء يمكن أن يصيبهم ما أصاب مدحت باشا وإخوانه من نفي واغتيال، فيذهب الدستور ومجلس الأمة ويموتان بموتهم. كلا، إن من ورائهما ذلك الجند الباسل الذي ساعد أحرار الأمة على نيل هذه الرغيبة، ولولاه لم نصل إلى هذه النعمة، من غير خطر على الدولة والأمة، ومن ورائهما أحرارنا المنبثون في جميع الولايات العثمانية ينفخون روح الدستور فيها. تشهد أمم أوربا كلها بأن الجيش العثماني أشجع جيوش العالم وأشدها بأسًا وثباتًا في ميادين الجلاد، حتى قال الجنرال مولتك، القائد الألماني الشهير، الذي نكل ذلك التنكيل بالفرنسيس: أعطوني مائة ألف جندي عثماني أفتح بهم أوربا كلها. ولكنهم كانوا يقولون: إن هذا الجيش الباسل ينقصه الضباط والقواد العارفون الصادقون. والآن يوجد عندنا عدد عظيم من هؤلاء الضباط الذين تعلموا أحسن التعليم، وتربوا أعلى التربية، وهم الذين كانت تطاردهم السلطة المستبدة الماضية؛ خوفًا أن يقضوا على استبدادها حتى شَتَّتَتْ شمل الكثير منهم، فكان منهم المسجونون، ومنهم المنفيون، ومنهم الهاربون، وقد بقي في الجيش العامل منهم مَنْ قلب تلك السلطة، وأراح الله البلاد العثمانية من شرها، فهل نخاف اليوم على مجلس الأمة، وقد عاد أولئك الضباط الكثيرون من سجونهم ومنفاهم، وانضموا إلى إخوانهم العاملين في الجيش، وكل منهم يفدي الدستور ومجلس الأمة بروحه ويبذل دونهما آخر نقطة من دمه؟ كلا، إن العارف بحال الدولة والجيش، وبما أتته جمعية الاتحاد والترقي من الاحتياط والتدبير للمحافظة على الدستور وحماية مجلس الأمة، لا يخالج صدره أدنى خوف على المجلس في هذا اليوم، وإنما كنا نخاف على الدولة في دور الانقلاب من الخارج، كنا نخاف أن تقوم في وجهنا أوربا، فتفسد علينا عملنا، وتضطرنا إلى الدخول في حرب لا تؤمن عاقبتها، أما وقد لقينا من الدول الأجنبية ميلاً وانعطافًا عظيمين إلا ما كان من ضم النمسا ولايتي البوسنه والهرسك إلى أملاكها، ومن إعلان البلغار الاستقلال، ولم يكن في ذلك خطر على حكومتنا الجديدة ولله الحمد والمنة، بل رأت النمسا من الحرب الاقتصادية التي ناجزتها بها الأمة العثمانية ما جعلها تندم على ما فعلت وتود إرضاء الدولة العلية. أما المَشاغب الداخلية التي يحركها في بعض الولايات أنصار الاستبداد من حزب التقهقر كالعراق والشام والحجاز، فلا خوف منها ولا خطر، فإذا قام مثل طالب الرفاعي يثير حزبه من أكلة الأفاعي؛ ليفسدوا في الأرض، ويؤلبوا الأشقياء في ولاية البصرة على الدولة، فإن قيامه هذا لا تأثير له، ولا يعجز الحكومة الحرة استئصاله، فإن لديها من الرجال من يأكلون أكلة الأفاعي، فلا يعجزهم التنكيل بهذا الرفاعي، كما نكلوا قبله بذلك الشقي الكردي، فسيحبط عمل المفسدين، ويستقر الأمن في جميع الولايات العثمانية عن قريب إن شاء الله تعالى. ومن الناس من يخاف أن يفشل مجلس الأمة، ويعجز المبعوثون عن القيام بما نيط بهم وعهد إليهم من مصالح الدولة والأمة، وإنني أصيح بأعلى صوتي، إن هذا الخوف في غير محله أيضًا. إن المجلس السابق على ما كان عليه من الضعف، وما قيل من أن جميع أعضائه أرادوا أن يكونوا من حزب الحكومة حتى لقبوا بكلمة (أوت أفندم) ؛ لخضوعهم لما يُرَادُ منهم - على هذا كله قد ظهر من بعضهم أفكار وآراء حسنة، واستقلال يرجى خيره لو دام؛ فكيف يكون مجلسنا اليوم وقد ارتقت الأمة بالنسبة إلى زمن المجلس الأول في الاستعداد والمعارف والأفكار بالرغم من اضطهاد الحكومة الاستبدادية للعلم والحرية حتى إنها بنبوغ الكثيرين مِن رجالها قد انتصرت على الاستبداد وهو - كما قال الأستاذ الإمام - في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس عبيد له أي عبيد. نعم، إن مجلسنا الذي نحتفل بافتتاحه اليوم مؤلف من طائفة من الأحرار المتطرفين، وطائفة من المحافظين الجامدين، وفيه عدد غير قليل من المعتدلين، وكثير من رجال العلم والدين، وإنني أرجو - كما يرجو كثير من محبي الاعتدال - أن يكون تأليفه من هذه الطبقات المختلفة التي تمثل الأمة كلها أقرب إلى النفع، وأبعد عن الخطر، فإنني أعرف كثيرًا من أحرارنا المتطرفين يميلون إلى العجلة في الإصلاح، وقد يكون من المستحيل الزلل، ومن تأنّى نال ما تمنى، والعجلة في طور الانتقال من حال إلى حال لا تخلو من خطر أو ضرر، فإن خاب الأمل - لا سمح الله - وضعف المجلس عن الإصلاح المطلوب الآن، فإن جمعية الاتحاد والترقي المباركة التي أخذت على نفسها كفالة الدستور تسعى عند الانتخاب الثاني، أو تجتهد في جعل جميع الأعضاء أو أكثرهم من نابغي الأمة، ونحمد الله أن في أمتنا من النابغين، من يشهد لهم بالفضل والعرفان ساسة الأوربيين، ناهيكم بأولئك الكرام الذين أحدثوا هذا الانقلاب العظيم الذي أدهش عالم المدنية بما دل عليه من الحكمة والاعتدال. من الخطأ العظيم أن نطالب المجلس بأن يصلح حال الدولة، ويرقي الأمة في زمن قريب، فإن التدريج سُنَّة إِلَهِيَّة في الارتقاء، والطفرة محال لا يطلبها العقلاء، وإننا واثقون - مع الاتكال على معونة الله وتوفيقه - بأن يكون لمجلسنا من الخدمة النافعة، ما تقتضيه مصلحة الأمة في حالها الحاضرة، آمين. * * * (خلاصة الخطبة الثالثة في نادي جمعية الاتحاد) إننا منذ أعلن الدستور، في فرح وسرور، إلى أن أتم الله سرورنا في هذا اليوم السعيد، الذي هو للأمة العثمانية أكبر عيد. كانت أسباب سرورنا في الأشهر الماضية سلبية، وسبب سرورنا اليوم إيجابي وجودي، سررنا منذ أعلن الدستور بأننا صرنا آمنين على أنفسنا، أي لا نخاف أن نؤخذ بتهمة جاسوس ولا وشاية واشٍ، آمنين على بُيُوتِنَا، أي لا تستطيع الحكومة أن تدمر علينا فيها ليلاً أو نهارًا للبحث عن كتب العلم، وصحف السياسة التي كانت تسمى في عرفها بالأوراق الضارة أو (المظرة) ، سررنا بأننا صرنا أحرارًا لا يمنعنا أحد مما نريد من التعليم والتربية ولا من إظهار استعدادنا في أي عمل من الأعمال، سررنا بأننا صرنا آمنين على أموالنا، لا يستطيع أحد أن يضرب علينا ضرائب ولا أن يأخذ منا أموالاً لا يفرضها علينا الشرع الذي نعتقده، أو القوانين التي يضعها لنا نوابنا الذين انتخبناهم للنظر في مصالحنا - كل هذه الفوائد التي استفدناها من الدستور مُذ أُعْلِنَ إلى اليوم معناها سلبي تفسر بلا لا لا. في هذا اليوم تبتدئ المنافع الإيجابية؛ فقد اجتمع وكلاء الأمة الذين أنابتهم عنها للقيام بما يعزز دولتها ويرقي شئونها، وإننا ننتظر من وراء ذلك من الفوائد ما ينمي ويَزِيد مع الأيام والسنين إلى آخر الدهر، إننا نهنئ أنفسنا بأن الأمة قد صارت مذ اليوم حاكمة لنفسها وأمرها في يدها، فما الذي يجب عليها لتكون محسنة في هذه السلطة وقادرة على استدامتها وحفظها؟ يجب أن تُعْنَى بأن تكون أمة دستورية بالطبع، مستقلةً بالذات، متحلية بالمعارف والأخلاق التي تعتز بها الأمم، بأن تحاول أن يصير كل فرد من أفرادها أهلاً لأَنْ يختار نواب الأمة عن بصيرة، أو يختار هو بالاستحقاق. أول ما يجب علينا أن نفكر فيه ونتوجه إليه هو أن نتولى نحن بأنفسنا إصلاح أمورنا، ولا نتكل على الحكومة في عمل من الأعمال التي لا يفرضها القانون على رجال الحكومة. فحسبنا من هؤلاء أن يقوموا بما عهد إليهم بالصدق والاستقامة، ويجب أن يكون لهم منا عون ومُساعِد على ذلك، وأن نتولى نحن سائر الأمور التي تحتاج إليها الأمة كتربية الأولاد، وما يتعلق بالثروة والاقتصاد. قد تعودنا أن ننتظر كل إصلاح من الحكومة؛ ولذلك أصابنا ذلك الفساد الكبير بفسادها، ولا يزال كثير منا ينتظرون أن تصلح لهم الحكومة ماء البلد، وتمهد لهم الطرق، وتمد لهم خطوط الحديد، وإن اتكال الأمة على الحكومة في كل الأمور العامة صار مذ اليوم من التناقض، أو مما يستلزم التناقض؛ فبينا هي تفتخر بأنها صارت حاكمة لنفسها متولية لأمورها، إذا هي تتبرأ من كل عمل لها وتلزُّه بالحكومة لزًّا، وتلصقه بها إلصاقًا، وإن لم يكن مما يعمل مثله الحكام. فالحكومة على المعنى الأول أفراد من الأمة - في الغالب - تستأجرهم بما لها للقيام بأعمال مخصوصة، لا تستغني الهيئة الاجتماعية عنها، على الوجه الذي تحدده شريعتها (أي الأمة) ، وقوانينها التي يضعها نوابها الذين اختارتهم لذلك، وهي على المعنى الثاني عبارة عن رعاة، والأمة رعية لهم، ليس لها من أمرها شيء، فهم يسوسونها كما يسوس الراعي غنمه، أو سادة يتصرفون في ملكهم وعبيدهم، فما هذا البَوْن العظيم بين الأمرين! ! ! إنما فشل مجلس المبعوثين السابق؛ لأنه لم يكن من جانب الأمة، ولا كانت الأمة كافلةً له ولا عارفة قيمته، ولم يكن المرحوم مدحت باشا وإخوانه الذين وضعوا القانون الأساسي، وأسسوا مجلس المبعوثين يجهلون أن الإصلاح الحقيقي الذي يثبت ويدوم إنما يكون بتربية الأمة وتعليمها، حتى تصير أمة دستورية بالطبع، لا تقبل الحكم الشخصي بحال من الأحوال، ولكنهم رأوا هذا الطريق طويلاً يحتاج إلى عشرات من السنين، ورأوا الأخطار مهطعة إلى الدولة، وأعناق الدول الطامعة ممتدة إليها، وبراثنها ناشبة بأطراف جسمها، فعزموا على سلوك الطريق القريب، وهو جعل الإصلاح من جانب الحكومة، فعملوا ما عملوا وألزموا السلطان بإعلان القانون الأساسي. ولا يشك عاقل في كون الإصلاح إذا جاء من جانب الحكومة، يكون أسرعَ من مجيئه من جانب الأمة، إذا هو ثبت ودام؛ ولكن ثباته ودوامه عزيز المنال، بل هو مع جهل الأمة من قبيل المحال. إن الإصلاح في الأمم لا يأتي إلا بالتدريج، وهو إنما يكون أولاً بنبوغ بعض الرجال فيها، ثم لا يزال يَزِيد النابغون حتى تكون بهم الأمة من الأمم الحية العزيزة القوية، فيكون مثلهم فيها كمثل الشجرة المثمرة التي يبدو صلاح ثمراتها طائفة بعد طائفة، وإن من الشجر ما تكون بواكر ثمره غير جيدة، ويجيء الجيد بعد ذلك، كشجرة التين، فإن أول ثمرها الذي نسميه (الدافور) لا يجدي ولا يفيد، ولكنه يكون مبشرًا بما وراءه. ولقد كان شهيد الحرية والدستور مدحت باشا وإخوانه من قبيل (الدافور) من شجرة التين، مِن حَيْثُ إِنَّهُمْ كانوا مقدمةً لصيرورة الأمة العثمانية دستورية؛ إذ تحقق ذلك من بعدهم، ولم يتم في عهدهم. إن أول شيء يجب أن نوجه همتنا وعنايتنا إليه، ونعوّل في حفظ شجرة الأمة عليه، هو التربية والتعليم، اللذان يُكْثِرَان فينا عدد النابغين، فإن الأحرار الذين قلبوا لنا الحال، ونلنا بسعيهم هذه النعمة، كلهم من ذوي التربية العالية، الواقفين على العلوم العصرية التي عليها مدار العمران وارتقاء الممالك. وإن جمعية الاتحاد والترقي التي نشيد بذكر فضلها، قد تأسست أولاً في المدرسة الطبية العسكرية في الآستانة، ثم كان لها تأسيس آخر منذ عهد قريب. أخبرني بعض من تخرج في هذه المدرسة أن الشعور بسوء حال الدولة، وبما ينذرها من الخطر قد بلغ من نفوس التلاميذ فيها مبلغًا عظيمًا حتى إن الصائح بكلمة الدعاء للسلطان في الوقت المعتاد صاح مرة (بادشاهم جوقي يشا) ، ففتح التلاميذ أفواههم، ولكن لم يخرج منها ذلك الصوت المعتاد الذي كان يملأ جَوَّها، وما ذلك إلا أن العلم بسوء الإدارة، وما كان يجب أن تكون عليه قد حرك في نفوسهم ذلك الشعور المحزن فعقد ألسنتهم أن تنطق بذلك الدعاء التقليدي المعتاد. فإذا لم نجتهد في تعميم التعليم الذي يمنح صاحبه هذا الشعور، بحيث ينمي ويكثر فينا أمثال هؤلاء الرجال، فإننا نخاف أن لا يكون لهم خلف وما الموجودون منهم بخالدين، فإذا لم ينتحبوا ويجئ بعدهم من هم مثلهم، وخير منهم فلا حياة في الأمة، فإن النتاج والنماء هما ثمرة الحياة والمقصد منها. يوجد في أكثر الولايات بل البلاد العثمانية أفراد من الأحرار الذين استنارت عقولهم بالأفكار العصرية، ومعرفة طرق ترقِّي الأمم والغيرة على المصلحة العامة، فيجب على الأمة أن تقدرهم قدرهم، وأن تستعين بهم على ما ينبغي لها في هذا الطور الجديد. لست أعني باعتماد الأمة على نفسها دون الحكومة في التربية والتعليم أن لا تبالي بمدارس الحكومة. كلاّ، إن الغرض الأول للحكومات من مدارسها هو تعليم طائفة من الأمة ما يقدرون به على القيام بأعمالها على وجه السداد، وليس في وسع الحكومة أن تعلم جميع أفراد الأمة جميعَ ما يحتاجون إليه، وإنما تقوم بذلك الأمة نفسها. كيف تقوم الأمة بذلك؟ هل يُعَلِّم كل واحد نفسه؟ هل يقول كل متعلم لمن يراه غير متعلم هلم أعلمك؟ لا لا، وإنما تقوم بذلك الجمعيات الخيرية، فهذا الزمن زمن الجمعيات، ولم ترتق أمة بغير الجمعيات، وحسبكم أن بعض الجمعيات عندنا قد أسقطت الحكومة الاستبدادية، وأدالت منها حكومة دستورية، فأي برهان أقيمه لكم على قوة الجمعيات أوضح من هذا الذي أنتم فيه ترون أثره بأعينكم، وتلهجون بذكره بألسنتكم. لا ينتشر العلم في هذا العصر إلا بالجمعيات، ولا يرتقي نوع من أنواع العلوم إلا بالجمعيات، ولا يقوم أمر من الأمور العامة إلا بالجمعيات، فعلينا أن نبدأ قبل كل شيء بتأسيس الجمعيات الخيرية التي تنشئ لنا المدارس والكتاتيب، وأن نعضدها بأموالنا على قدر استطاعتنا، فبذلك نكون أهلاً لترقية أنفسنا، وترقية زراعتنا، وترقية تجارتنا وسائر موارد الثروة التي تعتز بها الأمة. إن في بلادنا خيرات كثيرةً مَنَعَنا من الاستفادة منها: الجهلُ والاستبداد الذي كان يضطهد العلم ويؤيد الجهل، فبالعلم صارت جزيرة زيلنده أكثر فائدة، وأنمى زراعة من مصر المشهورة بالخصب والزكاء، وإن في بلادنا ما هو أخصب من أرض مصر تربةً كأراضي الجزيرة بين النهرين (دجلة والفرات) التي قال هيرودس أبو التاريخ: إنها كانت تؤتي غلتها من مائة ضعف إلى مائتي ضعف، أي إن الشنبل (كالإردب) من القمح كان يغل لصاحبه مائتي شنبل. أيجوز أن تبقى هذه الأرض التي لا نظير لها خرابًا لا ينتفع منها بشيء [٣] . حسبنا من نعمة الدستور أننا صرنا أحرارًا، لا يمنعنا مانع من الاستعداد، ولا من العمل الذي نستغل به أرضنا، ونستفيد من مواهبها الطبيعية، وقد سمعتم من بعض الخطباء كلامًا في الحرية، فعَنّ لي في هذا المقام أن أَزِيدَ شيئًا وجيزًا على ما قالوا، فإن المجال ذو سَعَة. الحرية تقابل الرق والعبودية، فمعنى كوننا صرنا أحرارًا أننا كنا مِنْ قَبْلُ مستعبدين للحاكم المستبد، وأننا الآن قد خرجنا من هذا الرق والعبودية، كان الحاكم قادرًا على أن يمنعنا من التصرف في أنفسنا وأموالنا كما نشاء، فأصبح عاجزًا عن ذلك. كان يمنعنا بالفعل أن نظهر استعدادنا الفطري للارتقاء في العلوم والأعمال، فزال هذا المنع، وصار يمكننا أن نخرج من المضيق الحيوي الذي حبسنا فيه، ليسهل عليه أن يجعلنا رعية، ويكون لنا كالراعي للبهائم، صار يمكننا أن نكون أناسِيَّ وبشرًا يتمتعون بمزايا البشر. يقول العارفون بعلم النفس وعلم الاجتماع البشري: إن استعداد الإنسان لا يُعْرَفُ له حدٌّ يقف عنده، فإذا عاش البشر ملايين من السنين، فإنه يمكن أن يكون ارتقاؤهم فيها متصلاً ومستمرًّا، ويعرِف هذا مَن قارَنَ وقابَلَ بين أولئك الذين يعيشون حُفَاةً عراةً في صحاري إفريقية وجبالها، وفي بعض جزائر المحيط، وبين هؤلاء الذين يخاطب بعضهم بعضًا بالقول والكتابة بواسطة الأسلاك الكهربائية، وبغير واسطتها مع بُعْدِ المسافات بينهم، ويتمتعون بغير ذلك من ثمرات العلوم ونتائج المدنية الغربية. ما وصل أهل المدنية العالية في هذا العصر إلى ما وصلوا إليه من العزة والكرامة إلا بإطلاق العنان لجياد العقول، في ميادين العلوم والفنون، ومساعدة الاستعداد البشري على الرقي في معارج الكمال الاجتماعي اللائق به في ظل الحرية الظليل وحماية الدستور العادل. ولسنا نحن الشرقيين دون الغربيين استعدادًا للعلوم والأعمال؛ ولكن عبودية الاستبداد هي التي كانت تطفئ نور فطرتنا، وتحجر على استعدادنا، فلا تسمح لنا أن نظهر أسرار صنع الله وحكمه في خلقه، ولا أن نتمتع بما سمح لنا الخالق الرحيم بأن نتمتع به، كما قال في كتابه الحكيم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة: ٢٩) , وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (الجاثية: ١٣) . كان العالم منا إذا أراد أن يؤلف كتابًا نافعًا، قال له نذير الاستبداد إياك أن تفعل، فإن مولانا لا يريد ذلك، وإذا حدثت مُحِبَّ الفلسفة نفسُهُ بأن يحل إشكالاً ناجاه مناجي الاستبداد في سِرِّهِ: إياك أن تفعل؛ فإن مولانا لا يحب ذلك، وإذا خطر في بال أحد أن يبحث في أسرار الخليقة ليخترع شيئًا ينفع الأمة، أسر له رسول الاستبداد: إياك أن تفعل، فإن مولانا لا يروق له ذلك، كان لا يتجرأ أحد على إظهار أثر علمي أو عملي يرقي الأمة في عقولها ونفوسها، في دينها أو دنياها، إلا وجد الاستبداد له بالمرصاد، وناله منه ما تعلمون من الاضطهاد. فالحرية! هي تحرير البشر من هذه العبودية، الحرية هي التي يكون بها البشر بشرًا، لا غنمًا ولا بقرًا، فالانتفاع من الحرية يجب أن يكون بتوجيه الاستعداد الإنساني إلى العلوم والأعمال التي ترتقي بها الأمة والأخذ بها بلا شرط ولا قيد، لا باتباع الشهوات، وإتيان الفواحش والمنكرات، ولهذا كان الحكماء ومحبو الإنسانية يَنْشُدُونَ الحريةَ، ويبذلون في الجهاد في سبيلها أموالهم وأنفسهم، ولا غروَ، فهم العالمون بالأسرار الإلهية، المودعة في الغرائز البشرية، وبكونها لا تظهر إلا في دائرة الحرية. ومن فوائد الدستور المساواة، وقد خاض في بيانها الخطباء فأحب أن أَزِيدَ عليهم كلِمَةً في إزالة شبهة للناس فيها: يظن بعض الناس أن الدستور جعل الناس كلهم في مرتبة واحدة من كل وجه. وهذا من المحال الذي لا ينال بالدستور، ولا بغيره، وإنما جعل الدستور الناس سواءً في الحقوق - كما قال الخطيب السابق - فالغني والفقير، والصعلوك والأمير، والعالم والجاهل، والنبيه والخامل، كلهم سواءٌ في الحقوق، ليس لأحد أن يعتديَ على أحد في نفسه، ولا ماله، ولا يجوز أن يراعي الحاكم أحدًا منهم ويهضم الآخر. أما المساواة في المواهب والغرائز وآثارها، فليس للدستور فيها شأن، فقد فضَّلَ الله بعض الناس على بعض في الرزق والعلم والعقل، كما نطق به كتابه، ودلت عليه سنته في خلقه، وله في ذلك الحكمة البالغة، ولو جعل أفراد البشر سواء من كل وجه، لَمَا كان الإنسان هو هذا النوع من الخلق الذي يظهر أسرار الطبيعة، ويتمتع بما فيها من الحكم البديعة، ولما تيسر للبشر أن يوجدوا الخبز الذي يأكلونه والثياب التي يلبسونها. إن تفاوت الناس في العقول والأخلاق، هو الذي مكنهم من القيام بما ترون من الآثار والأعمال، فإن اختراع السفن البرية والبَحْرِيّة واستعمالها مثلاً لا بُدَّ فيه من العلماء الطبيعيين، الذين اكتشفوا فوائد البخار والكهرباء والمهندسين والميكانيكيين، كما أنه لا بُدَّ له من الفعلة لاستخراج الفحم من المناجم، ومن الوقادين لوضعه في النار، وهذان العملان من أشق الأعمال وأصعبها. أفرأيتم من كان مستعدًّا للاكتشاف والاختراع في العلوم وللسياسة والإمارة هل تتوجه نفسه، وهل يرضى بأن يستخرج الفحم من مناجمه في الأرض أو بأن يقذفه في النار؟ أو تتوجه نفسه لنحو ذلك من الأعمال الحقيرة التي لا بُدَّ منها في الاجتماع البشري، كالكناسة وما في معناها؟ كلاَّ، إن هذا النوع من المساواة ما كان ولن يكون، وإنما يتقارب الناس، ويتعاطفون بتعميم التربية والتعليم، فنسأل الله أن يهدي الأمة العثمانية في ذلك إلى الصراط المستقيم.