للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات الجديدة

(إرشاد الأريب، إلى معرفة الأديب)
المعروف بمعجم الأدباء، أو: طبقات الأدباء:
مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الله ياقوت: الحموي المولد، البغدادي الدار ,
الروميّ الجنس , صاحِبُ كتاب معجم البلدان المشهور. كان غلامًا لتاجر حموي
علمه ليكون عونًا له في تجارته , ثم أعتقه وتركه مدّة , ثم استعمله في تجارة سفره
بها , فلما عادَ كان مولاه قد تُوُفِّيَ , فأعطى أولاده وزوجته شيئًا مما كان بيده
فأرضاهم واتّجر بالباقي , وجعل بعض تجارته كتبًا , فكانت عونًا له على ما تَصْبُو
إليه نفسُه مِن العلم لا سِيَّمَا التاريخ والأدب. فألف مؤلفات كثيرة في ذلك أشهرها
معجم البلدان , ومعجم الأدباء الذي ذكر ابن خِلِّكان أن اسمه (إرشاد الألباء إلى
معرفة الأدباء) ولكننا أهدينا منذ أشهر المجلد الأول منه مطبوعًا طبعًا متقنًا على
ورق جيد , وإذا باسمه الذي كتب عليه (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وكان
بعض النسخ كتب عليها هذا الاسم , وبعضها كتب عليها ذاك.
موضوع هذا المعجم تراجم مَن كانوا يعرفون بالأدباء في تلك العصور،
قال المؤلف في فاتحته (ص ٥) : (وجمعْتُ في هذا الكتاب ما وَقَعَ إليّ مِن
أخبار النَّحْوِيِّين واللغويين والنّسّابِين والقُرّاء المشهورين والإخباريّين والمؤَرّخِين
والورّاقِين المعروفين، والكُتّاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدوّنة، وأرباب
الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل مَن صَنَّفَ في الأدب تصنيفًا، أو جمع في فنّه
تأليفًا، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز، ولم آلُ جهدًا في إثبات
الوفيات، وتبين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار
بأنسابهم وشيء من أشعارهم إلخ) فالكتاب من أحسن دواوين التاريخ والأدب ,
وقد كان كنزًّا مخفيًّا فأظهرته همة أوربية. ذلك أن رجلاً من الناشئين في البلاد
الإنكليزية اسمه إلياس جب كان مغرمًا بدرس العلوم والتواريخ العربية والتركية
والفارسية , ثم مات في الخامسة والأربعين مِن سِنِّهِ , فوقّفَتْ أُمّه مالاً عظيمًا على
إحياء الكتب الشرقية التي كان مشتغلاً بها يصرف ريعه في ذلك , وعهدت بالعمل
إلى لجنة من الرجال القادرين عليه , وقد شرعت اللجنة بطبع هذا الكتاب بعدما
عُنِيَ الدكتور مرجليوث العالم المستشرق الشهير بتصحيحه , وقد أهدتنا الجزء الأول
منه , فإذا فيه بعد الفاتحة فصلان في علم الأدب وعلم الأخبار , يتلوهما باب
الهمزة , وهو يبتدئ باسم آدم بن أحمد الهرمي وينتهي باسم أحمد بن علي بن المعمر
وصفحاته تزيد على أربع مائة , منها ترجمة أبي العلاء المعري في ٤٣ صفحة ,
فنشكر لجميع العاملين في إحياء هذا الكتاب وأمثاله فضلهم , ونخص بالذِّكْرِ
المُصَحِّح , ونرجو أن يُعْنَى طابعو الكتب في مصر ولو بعض هذه العناية في
التصحيح والإتقان.
***
(الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض)
بنيت قواعد الإسلام وأقيمت أركانه على أساس العلم حتى كان من المجمع
عليه عند علمائه أن جهل المكلف بما يجب عليه من أصوله وفروعه ليس بعذر في
الدنيا ولا في الآخرة , فالقاضي الشرعي لا يترك عقوبته إذا ارتكب موجبها جاهلاً
كما أن الله تعالى لا يَعْذِرُهُ في الآخرة إذا اقترف الفواحش والمنكرات جاهلاً
بتحريمها. قالوا: إلا إذا نشأ في شاهق جبل , أو كان قريب عهد بالإسلام. والعلم
ما كان بالدليل، فالعالم لا يكون إلا مجتهدًا , ولذلك أجمعوا على أن المقلد لا يسمى
عالمًا كما صرح به ابن القيم في أعلام الموقعين , وقد بقي الفقهاء إلى القرون
الوسطى يطلقون لفظ العالم ويريدون به المجتهد , كما ترى في كلامهم عن القاضي
والمفتي , ولكن وجد في هذه القرون من المؤلفين الجاهلين من ادَّعَى أن الاجتهاد
طوي زمنه وأن العلم بالإسلام أي بالكتاب والسنة صار متعذرًا , وأن الواجب على
جميع المسلمين هو الأخذ بما كتب في المصنفات الفقهية التي ألفها المنتسبون إلى
أحد المذاهب المشهورة فقام المدافعون عن العلم يردون هذه الدعوى ويبينون وجوه
بطلانها حتى أفردوا ذلك بالتأليف.
من هؤلاء الحافظ الشهير جلال الدين عبد الرحمن السيوطي فقد وضع فيها
كتابًا سمّاه (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر
فرض) , وقد أورد فيه النقول الكثيرة عن أكابر علماء المذاهب الأربعة لأن كلامهم
يقنع المقلدين المنكرين ما لا يقنعهم الدليل المؤيد بنصوص الكتاب العزيز وما جرت
به السنة السَّنِيّة. وقد طبع هذا الكتاب طبعًا حسنًا في المطبعة الثعالبية بالجزائر ,
وهو يطلب من صاحبها أحمد أفندي بن مراد التركي وأخيه فنشكر لهما إحياء هذا
الكتاب النافع ونحثّ القراء على الإقبال عليه.
***
(ليالي سطيح)
طبع الجزء الأول من هذا الكتاب الذي شرع في تأليفه حافظ أفندي إبراهيم
وجعله في انتقاد الأخلاق والعادات، ووصف حال الاجتماع في مصر، وجعله
حوارًا مع سطيح الكاهن الجاهلي، ذلك الكتاب الصغير الكبير، الذي تبارى في
تقريظه عالم الكتابة والتحرير، فسالت أنهار الجرائد بمدد آياته، وجرت أقلام
الكتاب في فلك حسناته، ولهجت ألسنة الفصحاء بوصف ما في مبانيه من المتانة
والإحكام، وما أودعه أسلوبه من الرّقّة والانسجام، وتغلغلت أفكار الحكماء في
التأمّل بما انطوى عليه من الحِكَم والعِظات، وما بينه من الأمثال والمثلات،
وتلطف الناقدون في الإيماء إلى ما فيه مما لم يَخْلُ من مثله كلام الناس، كالتفاوت
بين بعض الجمل أو عصيان قوانين القياس، فلو جمع ما كتب في تقريظ كتاب
ليالي سطيح، من الثناء والمديح لَكَان معه كليالي هجر الملال، مع ليالي الوصال،
على أن ليالي التقريض هي من ليالي الوصال البيض، جمع فيها الأدب بين
جمهور من الأدباء المنشئين، وبين محبوبهم حافظ أفندي إبراهيم.
أخذ أولئك الكاتبون مسالك القول على من يحاول بعدهم وصف الكتاب أو نقده,
فما على المنار إلا أن يجعل الوفاء بذمة حافظ عَرْض شيء من حِكَم كتابه على
قارئيه، لعلهم يهتدون إلى فضله بكواكب لياليه، فمن ذلك قول سطيح في الحث
على العناية باللغة العربية ونصر دولتها وذِكر إمامي المصلحين: حكيم الإسلام،
والأستاذ الإمام (ص ٦٢) :
فما ضركم لو تساندتم جميعًا وأنتم تتجازون زمن القمر عدًّا، فرفعتم من شأن
هذه الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين، فإني أراكم بين متفصح
على أخيه، ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع من يريد ما تريدون، تحاولون ردّ
هذه الدولة إلى شبابها، بعد أن خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني
لقضت نحبها ولقيت ربها، قبل أن يمتعها بكم ويمتعكم بها، أدركها الأفغاني ولم يبق
فيها إلا الذماء، فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها، أدركها وهي
شمطاء قد نهض منها بياض المشيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب
ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي،
وتعهدتها همته بصنوف العلاج حتى استقامت قناتها، وبدا صلاحها، وقد كان الناس
في ذلك العهد يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فمازال بهم حتى أبصروا نور الهدى،
وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى، وقام بعده نفر ممن تأدبوا عنه ,
فكانوا كالسيوف فرجت للرماح ضيق المسالك , فانفسح للمتأدبين المجال وجَالَ كُلٌّ
جَوْلَتَهُ، وتنبه الوجدان وتيقظ الشعور وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس،
وظهر أثر جمال الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية،
فكان من ذلك أن انطوى أَجَلُ التقليد، وأن بعث الله على يديه ميت اللغة وأحيا
رُفَات الإنشاء، وغادر رحمة الله عليه مصر ولم يضع لنا كتابًا نأخذ عنه، أو مؤلفًا
نغترف منه، ولكنه ترك لنا رءوسًا تؤلف، وأفكارًا تصنف، وكأنه أحس بذلك حين
أحسّ بالموت , فكان يقول وهو يجود بنفسه: خرجنا منها ولم ندع لنا أثرًا ظاهرًا
بين السطور، ولكننا لم نغادرها حتى نقشنا ذلك الأثر على صفحات الصدور، فإن
لم ترثوا عنا في بطون الكتب فقد ورثتم عنا في صدور الرجال، فإذا حثوتم التراب
على رجل الأفغان فعليكم برجل مصر.
خرج من الدنيا كما خرج سقراط لم يغادر كلاهما مؤلفًا، ولم يدع مصنفًا،
فلولا محمد عبده ما عُرِفَ رجلُ الأفغانِ، ولولا أفلاطون ما ذكر رأس فلاسفة
اليونان.
ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق
في دولته، ووطّن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه،
وأخافوه في ذات الإله وخافوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقّه على باطلهم ثم مضى
لسبيله رحمه الله.
فتفتقت الأذهان، وتطلعت العقول إلى البحث، وبرزت اللغة من خبائها،
تجر مطارف آدابها، وأطل علم الأدب Literature من مناره مشرقًا على النفوس
فأرسل نورَه إلى الضمائر، ونفذت أشعته إلى السرائر، فنمى تحت نظره الشعور
كما ينمو النبات جادته الشمس بالنظر، أو كسته أشعة القمر، فلطف من كثافة
النفوس، وهذب من مرارة الأرواح، حتى شفت الأولى وعذبت الثانية وبدأ دور
هذه الحياة الجديدة بفضل الأدب وعلمه. ا. هـ المراد منه هنا.
ثم ذكر سطيح ومحاوره الأستاذ الإمام وتلاميذه في مقام ما يرجى من الإصلاح
فقال (ص ١٤٤) .
قال (أي سطيح) وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحِلم؟ قال حسبي
أني من تلاميذ حكيم الإسلام، الأستاذ الإمام، طيّب الله ثراه، وجعل النعيم مثواه،
قال: إني لأرى رأيًا حصيفًا، وأسمع قولاً شريفًا، فمن أي تلاميذه تكون؟ فقد
سمعنا أنهم فريقان , فريق قد اختصه بسياسته، وفريق قد اختصه بعلمه، وقد أثنى
عليهما العميد، وتنبأ لهما بالطالع السعيد، قال: لا عِلْمَ لي بما تقول. ولقد كنت
ألصق الناس بالإمام أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره، فما سمعته يخوض
في ذكر السياسة قبّحها الله، ولكنه كان يملأ علينا المجلس سحرًا من آياته وينتقل بنا
بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار
الخلائق، وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع
البشري , فأفاض في شئون الاجتماع وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة
ولم يزل ذاك همه رحمه الله يلقي في الأزهر دروس التفسير , وفي داره دروس
الحِكمة حتى مضى لسبيله، فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابًا، ويقسمون تعاليمه
أبوابًا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه
كان من أشد الناس تبرُّمًا بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها،
فقال عنها في كتاب الإسلام والنصرانية ما قال.
لكنه كان يحتكّ بها ما دعت إلى ذلك الحاجة ويرصد حركاتها رصدًا، ويصد
غاراتها صدًّا خشيةَ أن تقطع على العلم سبيله، أو أن تقف عثرة في طريق الفضيلة،
ولولا ذلك لقطعت عليه سلك أمانيه، وحالت بينه وبين ما كان يبتغيه، فكم تلطف
في ابتزاز قواها، وتحامى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته، وفاز برغبته،
واستمد منها ما شاء، تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك الإمداد، ورد
عليه ما سلبت يد الاستبداد، ولعله أوهم العميد، بيقظة حزب جديد، ليرد عاديته،
ويفسد عليه سياسته، في مصادرة العلم، ومصارعة الحلم، أما ترى بربك أثر ذلك
في المدارس، وما عبثت به يد ذلك السائس، ولولا أن الإمام مادَّهم حبل الوداد،
وجاذبهم فضل النصح والإرشاد، لأصابه ما أصاب حكيم الأفغان، وقضي على هذه
الأمة بالحرمان، فلقد كان يغدو على الوكالة ويروح عنها ليدفع عنا شِرَّة القوم،
ويصلح ما يفسده أهل الدسائس، فكم زحزح عنا حادثا، ودفع كارثًا، ولو كان حيًّا
يوم دار الفلك لنا بالنحوس في دنشواي، لَرأيت غير الذي رأيت من ذلك القصاص،
ولما ارتفع صوت العميد، بذلك التهديد والوعيد، ولما نزع إلى كتابة ذلك التقرير،
الذي جاء أبلغ ما تملي الضغينة على الموتور، فكان فيه كثير جموح اليراع،
ضعيف ضعيف جانب الإقناع، كأنه يكتب مقالة خيالية، إلى مجلة سياسية، وقف
فيها وقفة المدافع عن نفسه.
لحق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى فارتدّتْ طائفة من جفاة
العرب، وكادوا يفتنون الناس، لولا حكمةُ الصِّدِّيقِ وعزمة الفاروق، فما غضت
الردة من شرف النبوة، ولا نالت من عصمة الرسالة، ولبث الإسلام إسلامًا - ومات
الأستاذ الإمام فَصَبَأَ بعض حزبه كما يدعون، وأستغفر الله لهم مما يقولون، فما
غضّ ذلك من كرامة حكيم الإسلام، ولا مسَّ مِن سيرة ذلك الإمام.
أراد بعض مريديه أن يغني غناءه وأن يفعل شرواه في التوفيق بين صوالح
القوم وصوالحنا، فرمى بنفسه في أحضانهم، وليست له مكانة الإمام من نفوسهم،
ولا منزلته في قلوبهم، فقصر ولا بدع، وأخفق ولا عجب، فإن الفراغ الذي تركه
الإمام لا يشغله الألوف من أولئك الذين يرفعون العقيرة بالصياح، وينعون عليه
مذهبه في الإصلاح، ولمّا ظهر ذلك المريد بمظهر الاتصال بالقوم أنكر الناس منه
ذلك فطارت حوله الشبهات، وانبسطت فيه الألسن وأخذته سهام الأقلام، على أنه
وإن أخطأه التوفيق في عمله فما أخطأه حسن القصد ولا جازته سلامة الطوية، فوجد
بعض المرائين السبيل إلى تشويه سمعة الإمام بعد موته، وبالغوا في ذم حزبه،
وزادهم ضغنًا أن قرءُوا في تقرير العميد ما قرءُوا وظنوا أن هناك حزبًا يعمل، ولو
أراد الله خيرًا لهذه الأمة لسخر لها من تلاميذ الإمام من يقوم بالدعوة إلى الْتِئَام ذلك
الحزب الذي أودع فيه الإمام مِن أسرار حكمته ما كشف لهم عن حقيقة المصير الذي
أصبحنا نساق إليه سوقًا أعجلنا عن النظر في أمورنا فأمسينا أتباعًا لكل ناعق.
قال صاحبي وقد هاله ما سمعه أكان يكون بين ظهرانيكم أمثال أولئك الأمناء
على تعاليم ذلك الحكيم ولا تتعلقون بأذيالهم، على أني لا أرى فيكم إلا ناعيًا عليهم
مشهرًا بهم، فإن كنت لم تكذبني القول، فتلاميذ الإمام حقيقون باللّوْم؛ لأنهم يعلمون
الحق ولا يَدْعُون إليه. علموا أن لا حياة لهذه الأمة بغير الجامعة فما لهم لا
يواصلون قرع أنوف الأغنياء بالمواعظ , ويوالون الصياح بطلب تأسيسها فتلتقي
أصواتهم بالنداء في أنحاء القُطْر؟ ولكنهم سكتوا , اللهم إلا شاعرًا منهم قد قرض
قصيدة , وقاضيًا قد حبر مقالة في سبيل الجامعة , درج كلاهما في أثناء النسيان ,
فجمد الأغنياء عن البذل؛ لجمود أولئك الوعّاظ عن الكلام وتدفقوا في إنشاء الكتاتيب
حين ساقتهم الحكومة إلى ذلك ولو علموا أن انتشار التعليم الناقص شر على الناس
من بقاء الجهل لَمَا بذلوا في سبيله ما بذلوا فكان مثلهم في ذلك كمن يحاول النجاة من
أنياب النمر ليقع تحت براثن الليث؛ لأنهم إنما يستبدلون بانتشار الكتاتيب داء
الجهل ولكن بداء الغرور فسبيل الإصلاح أن تنشأ الكُتّاب وتُبنى الجامعة في وقت ما
حتى إذا أخرج الأولُ نصفَ إنسان أطلعت الثانية إنسانًا كاملاً فتكفل هذا الكامل
بصلاح ذلك الناقص فتتماسك الأمة ويكثر فيها الدعاة إلى الخير فليس بينها وبين
الحياة إلا أن يُخرج لها العلم الصحيح رجالاً يقودون الأفكار ويسلكون بها سبيل
الرّقي، ومن رأى أن هذه الأمة لا تنهض إلا بتعليم مجموعها وتهذيب أفرادها فقد
أخطأ مواقع الرأي فكم نهضت أُمّة بفرد , وأسست دعائم دولة على عزائم آحاد وفوا
قسطهم من العلم الصحيح وأخذوا نصيبهم من الإقدام.
وقد انصرف الناس إلى الصياح بطلب انتشار العلم ونسوا أن ذلك لا يغني
عنهم شيئًا إذا أعوزتهم تربية القادة وعزهم بناء الزعماء؛ فاعلم أن بناءة الرجال لا
تكون إلا في بناء الجامعة.
قال الأديب: وهل يكفي العلم وَحْدَهُ لصلاحنا ونحن على ما ترى من الخلق
والدين: فسوق عن أمر الكتاب، وطاعة للهوى، فلا وازع من الدين، ولا زاجر
من الخلق، فإذا تزعزعت العقيدة ولم يطمئن الطبع قلّ أن ينجع في الناس علاج
العلماء، أو تأخذهم صيحة الخطباء.
قال صاحبي: صدقت ولكن ما تراه أنت خطبًا كبيرًا، لم يكن في نظر الحكمة
إلا أمرًا يسيرًا، وإني أذكر لك دواء هذا الداء , وهو أيسر مما في نفسك، فلا تنزل
أمري معك على المزاح، ولا يصغرن في عينيك مأتي ما ألقي عليك، فرب مؤرَّب
من العقد ضلت حلّه الحكماءُ , واهتدت إليه خطرة من الفكر يرمي بها أحد العامّة،
وتغفل عنها عقول الحامة، ولعلك إذا سمعت أن الدواء الناجع، والعلاج النافع، لا
يحتاج إلى مقدمات طويلة، أو فلسفة جليلة، أصغرت ما كنت تكبر، واستنزرت ما
كنت تستغزر، فاعلم أنه إذا أقفلت أبواب المنتديات، وأطفئت أنوار الحانات، قبل
مَنْصَف من الليل، انحرف عنكم جارف هذا السيل.
هذه لندرة لا تكاد ترى في حوانيتها ساهرًا، ولا تجد في طرقاتها عابرًا، إذا
انقضى الثُّلُث الأول من دولة الظلام، وتلك (فينا) يجمع فيها الليل بين الجفون
والكرى، ويحول الظلام بين الأرجل والسرى، فإذا شب الليل أو كاد، سكنت
حركة العباد، فما لكم لا تأخذون نفسكم بتقليد تلك الخلائق، وقد ائتمروا بأوامر
الخالق، وما لكم لا ترجعون إلى الفطرة البشرية، أو تخضعون لنواميس السُّنَّة
الكونيّة، فتجمعوا في ذلك بين الدنيا والدين، ولا تعقوا أوامر الكتاب المُبِين، يا
وَيْلَكم أحييتم ليالي العُمُر بالآثام، وأَمَتُّمْ أيامه بالمنام، فعكستم الفطرة , ولا بدع إذا
عكست آمالكم، وخابت أعمالكم، خذوا مضاجعكم إذا طر شارب الظلام، واهجروها
إذا تنفس الصباح، ففي ذلك صحة لأبدانكم، وسلامة لأديانكم.
إذا شئت أن تعرف ما وراء ذلك من المنافع فإني أعد لك منها ولا أعددها منها
الرجوع إلى المعيشة المنزلية التي انحلت بزوالها روابط الأهل والأقارب، ويبس ما
بين البُيُوتَات، فتناكر الإخوان، وتدابر الجاران، وأقفرت المنازل من أنس السمر
وألف الناس الجلوس في المنتديات حتى إنهم ليوحشون في ديارهم، لقلّة زوّارهم،
وأصبح المرء في داره حاضرًا كالغائب، مقيمًا كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه،
ما لا يعلم مِن حال القريب منه.
ومنها اجتياز العقبات، التي أقامتها المنتديات والحانات، في سبيل
الاجتماعات - كان المصريون في العهد القديم الذي نسميه اليوم عهد الظلام يجتمعون
في الدُّور والقصور , وكانت سراتهم وذَوُوا اليسار منهم يجلسون في بيوتهم للسمر ,
فيغشاها العالم ويؤمها الكاتب ويقصدها التاجر وينتجعها الأديب , فتجري بينهم
الأحاديث وتقوم سُوق المناقشات - يحدث الحادث فيخوضون في ذكره، وتنزل
النازلة فيجمعهم الألم على العمل على إزالتها، وتطل رءوس المشروعات فلا
يفتئون يتبينون معارفها، حتى يقتلوا شئونها بحثًا، ويقفوا على وقائعها جدالاً،
وينزل بأحدهم المكروه فلا يزالون يتلطفون بالسعي له حتى يأخذوا بيده، وينهضوا
به من عثرته - عقدت بينهم الزيارات، عُرَى المودّات، فتراهم وهم كأنهم أهل
بيت واحد: يألم الجار للجار، ويأخذ الناهض بيد ذي العثار، بربك هل نهضت أُمّة
بغير إدمان المجتمعات، وهل أخصبت مودة إذا هي لم يتعهدها أهلها بالزيارات،
لقد جار في حكمه من قضى على المصريين باستحالة الاتفاق، وجعل تلك الكلمة
التي رمى بها حكيم الأفغان أساسًا لحكمه، فصرفه التقليد عن النظر إليها بعين عقله،
فمن أين للمصريين أن يتفقوا إذا هم لم يجتمعوا.
ومنها اقتصاد المال وأنت ترى أن هذه الستة الأفدنة (أي بقعة الأزبكية) تكاد
تبلع ما تخرجه أرض وادي النيل من الخيرات , ولا يغرنّك ما ترى في عاصمة
الفرنسيس , فإن أهلها من الأكياس الذين يَصِلُون سهر الليل بالنهار لاصطياد الذهب ,
ولكن من جيب الغريب , ونحن إنما نفعل ذلك ليذهب الغريب بأموالنا ويسخر من
جهالنا. اهـ
وهو خاتمة الجزء الأول من الكتاب.
***
(رسائل البلغاء)
من مزايا مجلة المقتبس، التي يطابق بها اسمها مسماها، نشر رسائل بلغاء
الكتاب المتقدمين، وقد استحسن صاحبها أن يجمع أحاسن هذه الرسائل من مجلته
ويطبعها مجموعة على حدتها، ليسهل تناولها على غير قراء المجلة، ففعل وقد
أحسن فيما فعل.
صدرت المجموعة الأولى من هذه الرسائل في مائة صفحة، كلها من كلام
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى، وهما ممن تُضْرَب ببلاغتهما الأمثال ,
وتشدّ إلى كلامهما الرِّحَال، ومن أطرف هذه الرسائل رسالة ابن المقفع في سياسة
الدولة وصحابة السلطان ورجاله، ورسالة عبد الحميد في نصيحة ولِيّ العهد وتعبئة
الجيش، وقد عُنِيَ الناشر بتصحيح هذه الرسائل معارضةً على أصلِها , ولم يتبع
سُنَّة أكثر طابعي الكتب بمصر من إهمال التصحيح، فما يوجد فيها من الغلط،
فالذنب فيه ذنب النُّسّاخ المحرّفين، مع فقر بلادنا من النسخ التي يُعَارَض عليها
الأصل، وثمن هذه المجموعة أربعة قروش، وأُجْرَة البريد قرش واحد، فنحثّ
مُحِبّي الآداب والحكم وطلاب الإنشاء العربي البليغ على قراءتها.
***
(سر تقدم الإنكليز السكسونيين)
قد أصبح هذا الكتاب أشهر من نار على عَلَم، وترجم بأشهر لغات الأمم، ولا
غَرْوَ، فإن تقدم الإنكليز السكسونيين وسبقهم لغيرهم من الأمم العزيزة التي تساويهم
أو تفوقهم في العلم والمدنية مما لا يُمَاري فيه أحد إلا من يجهل أن الشمس لا تغيب
عن سلطتهم، وأن مئات من الملايين خاضعة لسيادتهم، فمن جهل هذا التقدم لأميته،
أو تجاهله لغروره وغباوته، فإن الأمم الحية التي تسابق الإنكليز في ميدان
الاستعمار، وتجاريها في تلك الجواري المنشآت في البحار، هي الجديرة بأن تعرف
سر تقدمهم، وسبب فوزهم وسبقهم، فإنه لا يعرف قيمة الشيء من كان بعيدًا عنه،
كما يعرفه من هو على مقربة منه، لذلك كان علماء فرنسا أسبق الناس إلى معرفة
قيمة ما امتاز به الإنكليز على غيرهم مِن الأمم في تربيتهم وتعليمهم، وأخلاقهم
وآدابهم، وقد ألفوا في ذلك الأسفار الكثيرة التي يعد كتاب سرّ تقدم الإنكليز من
أشهرها، وكان من حسنات أحمد فتحي باشا زغلول في قومه وخدمته للغة أمته أن
ترجم هذا الكتاب بالعربية. ويسرنا أن طبعته الأولى قد نفدت، وأن خليل بك
صادق، صاحب مطبعة الشعب عُنِيَ بإعادة طبعه بإذن المترجم، ويَزِيدنا سرورًا أن
طبعته هذه أبهج من الأولى وأشد إتقانًا. وقد أبقى ثمنه كما كان وهو عشرون قرشًا،
بل هو يهديه إلى الذين يؤدون قيمة الاشتراك في مجلته (مسامرات الشعب) ،
ولا ينسين القارئ في هذا المقام رفيق هذا الكتاب في غايته ومقصده وأعني به كتاب
(التربية الاستقلالية - أو - أميل القرن التاسعَ عَشَرَ) , فإن مؤلفه العالم الفرنسي قد
اختار فيه أن تكون تربية الأخلاق واستقلال النفس تربية إنكليزية، وتعليم العلوم
العالية على الطريقة الألمانية، وإنني أرى أن المصريين وجميع العثمانيين أحوج
الناس الآن إلى مثل هذين الكتابين، لأنهم في طور انتقال من حال اجتماعية إلى
حال، وهو طور محفوف بالأخطار، التي يُستعان على تلافيها بالتأسي والاعتبار،
ولا ينفعنا التأسي بأمة كما ينفعنا التأسي بالأمة الإنكليزية، التي هي أَقْوَمُ أمم المدنية
أخلاقًا وأشدها محافظةً على ما كان عليه سلفها من الخير والدين وتثبتًا في التشبث
بالجديد.
***
(مجلة مسامرات الشعب)
قد أتقنت هذه المجلة , وصارت أحسن اختيارًا للقصص مما كانت عليه مِن
قبلُ، ومِن آخر ما نشرته قصة لصوص باريس، وهي قصة تفيد المتفرنجين من
أهل هذه البلاد، إن اعتبروا بها ما لا تفيدهم كتب الأخلاق والوعظ بما تمثل لهم من
حيل الأوربيين المقامرين على سلب أموال الأغنياء الأغبياء، لا سِيَّمَا الغرباء،
وفيها حرب عوان بين الفضيلة والرذيلة ينتهي بانتصار الفضيلة. ومثلها في هذا
قصة سلطان الغرام، وهي آخر قصة نشرت في هذه المجلة.
***
(مجلات جديدة)
مجلة التذكرة يصدرها بمصر السيد أحمد خليل، في كل أسبوعين مَرّة،
وهي مجلة دينية اجتماعية، ونزعتها صوفية اجتهادية ممزوجة بشيء من
الاصطلاحات العلمية عند الحاجة، وسننقل منها نموذجًا للقراء في جزء آخر؛
ليكون خير معرف لها. وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا في السنة لأهل مصر،
ونصف ليرة إنكليزية لغيرهم، فنتمنى لها التوفيق والنجاح.

(شورا) مجلة علمية إصلاحية، تصدر في أورنبورغ من بلاد روسيا،
محررها صديقنا في الغيب الشيخ رضا الدين أفندي بن فخر الدين، وهو من علماء
الإسلام المصلحين. وقد عرف قُرّاء المنار شيئًا من أفكاره العالية، وفقهه في
الإصلاح مما نشرناه من ترجمة رسالة له في مطالب مسلمي روسيا من حكومتهم،
ولنا الرجاء في أن تكون هذه المجلة هُدًى ونورًا للمسلمين في تلك البلاد.
(النصيحة) مجلة علمية أدبية تصويرية، تصدر بتونس في نصف كل شهر
عربيّ مرة، لمنشئها (الصادق بن إبراهيم) ، صاحب جريدة النصيحة. وقيمة
الاشتراك فيها لأهل القطر التونسي خمسة فرنكات، ولغيرهم ستة فرنكات، فنتمنى
لها التوفيق والثبات.