للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاشتراكية والبلشفية والدين

كثر ذم البرقيات والصحف الأوربية في البلشفية التي فشت في روسية
وما جاورها من أوربة وآسية، فوُصفت بأنها عبارة عن فوضى وهرج وسفك
دماء وانتهاك أعراض وسلب أموال بغير قانون ولا نظام، ونرى جميع الدول
الراقية خائفة من سريانها إلى بلادها، وغلبتها على أنظمتها وقوانينها ودينها وآدابها،
فكان هذا الخوف والحذر مما أوجب الريب في صدق ذلك الذم والقدح فيها؛ لأن تلك
الفضائح المخالفة لكل دين، المستقبحة في كل عقل، المباينة لكل أدب وعلم - لا
يُخشى أن تهدم كل دين وأدب ونظام وسنة الله في بقاء الأمثل والأصلح التي هي
أساس الاجتماع. وقد عهد الناس من لسان السياسة ذم الحسن ومدح القبيح، وغير
ذلك من قلب الحقائق، لهذا نرى الناس يرجون من البلشفية خيرًا، وإن لم يعرفوا
حقيقتها، ويودون لو يعرفون معناها، ويقفون على أنظمتها.
تحارب إنكلترة وأحلافها البلشفية بالقول والفعل والمال والدين، وقد كلفت
الشيخ محمد بخيت مفتي مصر , فأفتى في جواب سؤال بأن البلشفية محرمة في
الإسلام وفي كل دين؛ لأنها عبارة عن الإباحة المطلقة للدماء والأموال والأعراض،
وجعلها عين (المزدكية والزردشتية) التي ظهرت في أمة الفرس، فرد عليه كثير من
الكتاب الأزهريين وغير الأزهريين من الجهة التاريخية والدينية وغير الدينية، وكثر
خوض الجرائد المصرية في ذلك، ولكن الحكومة المصرية أخذت صورة فتواه
الخطية بآلة التصوير الشمسي، ونقشتها في لوح معدني، وطبعت عنها نسخًا كثيرةً لم
يوزع شيء منها في مصر، فالظاهر أنها توزع في بعض البلاد الإسلامية الآسيوية
التي سرت إليها البلشفية.
وقد كثر سؤال الناس إيانا عن رأينا في البلشفية ما حقيقتها؟ وهل هي ضرر
وشر محض كما تقول السياسة والفتوى؟ أم هل هي خير عام أو خير خاص بقوم
وشر على آخرين؟ فنقول:
إن الذي فهمناه من مجموع ما اطلعنا عليه في البلشفية أنها هي عين
الاشتراكية المقصود منها إزالة سلطان أرباب الأموال الطامعين وأعوانهم من
الحكام الناصرين لهم الذين وضعوا قوانينهم المادية على قواعد هضم حقوق العمال
في بلادهم، واستعمار بلاد المستضعفين من غيرهم، وأن معناها الحرفي
(الأكثرية) فالمراد منها أن يكون الحكم الحقيقي في كل شعب للأكثرية من أهله،
وهم العمال في الصناعة والزارعة وغيرها، وذلك بعد إسقاط سلطة أرباب الثراء
والكبراء المشايعين لهم، وقد فعلوا ذلك في روسية بعد إسقاط دولة القياصرة الطاغية
الظالمة التي لم يمنع مدعي الحكوماتِ الديمقراطية من الفرنسيس والإنكليز ظلمُها
وطغيانُها من محالفتها والاتفاق معها على اقتسام بلاد العثمانيين والفرس، وقد قام في
البلاد مِن بقايا أولئك القيصريين مَن يناوئهم ويقاتلهم على السلطة، ومن شأن أهل
السلطة في كل بلاد أن يقاوموا الخارجين عليهم فيها بما يمكنهم من الشدة والبأس،
سواء كان ذلك الخروج بحق أو بغير حق، فإذا كان للمطاعن الشديدة في قسوة
البلشفيين هنالك أصل - كما هو الظاهر - فهذا أحد سببين له، وهو سبب لا تستطيع
حكومة أن تبرئ نفسها من مثله، والسبب الثاني: هو أنهم لم يكونوا متمرنين على
الأحكام، وكان الزمن زمن فوضى وفتن وفقر، عجزوا عن جعل قسوتهم وشدتهم
بنظام يمكن لأهله أن يسموها به بضد اسمه.
ونحن نجزم بأن أعماله وأنظمتهم لا يعقل أن تكون موافقةً لأحكام الإسلام،
ولا للمسلمين المذعنين لدينهم أن يتبعوهم فيها، ولكن ليس خاصًّا بهم. بل جميع
القوانين الوضعية المتبعة في أوربة، وكذا في الشرق كمصر والدولة العثمانية -
فيها ما يخالف الشرع الإسلامي، والمسلمون يتمنون نجاح الاشتراكيين نجاحًا يزول
به استعباد الشعوب - وكلهم العمال - وإن كانوا ينكرون عليهم، كما ينكرون على
غيرهم كل ما يخالف الشرع، على أنهم غير مطالبين عندنا بفروع الشريعة ما
داموا غير مسلمين.
وإننا ننشر هنا مقالةً توضح ما أشرنا إليه من مقاصد القوم، رأيناها في
جريدة (سورية المتحدة) التي تصدر في المكسيك , وهذا نصها:
اقرأ أيها التاجر الكبير ما أكتبه اليوم بإمعان وحكمة، فإن خطر الاشتراكية
يحدق بكل هذه الكرة الأرضية!
تقول الأمثال اللاتينية: (إن صوت الشعب هو صوت الله) أعني أن
الأكثرية متى أرادت الحصول على حاجة ضرورية لها أخذتها عنوةً واقتدارًا؛ لأن
الأكثرية هي الحقيقة، والحقيقة هي القوة التي لا تقاوم.
تمر الدقائق، والساعات، والأيام، وفي كل يوم تمثل أمامنا روايات عديدة
تفهمنا أن الحق للقوة، وهذه القوة هي الأكثرية، كما رأينا في الحرب التي أقامتها
ألمانيا.
إن شعوب الأرض حسبت أن ألمانية تظلم الشعوب والإنسانية بالحرب التي
شهرتها على فرنسة , وبلجيوم , وسربية , وانقلبت الأكثرية عليها، ولم تخش
قوتها العسكرية ولا استعداداتها الحربية من غواصات شيطانية وطيارات جهنمية
ومدافع ضخمة وبعيدة المرمى، بل حملت عليها من كل حدب وصوب حتى أصبحت
الأكثرية ضد ألمانية، وهذه الأكثرية هي الحقيقة، كما أشرنا في بدء كلامنا.
والرأي العام اليوم أو الأكثرية هو الاشتراكية - والأكثرية هي ترجمة كلمة
(بولشفيكي) الروسية - وهذه تطلب بناء أركان ضخمة، ودعائم ثابتة عادلة
للسلام العالمي، وشروط حسنة للعمال في كل أقطاب الأرض.
قلنا: إن معنى كلمة (بولشفيكي) هي الأكثرية، وهذه هي الاشتراكية التي
نحسبها من الأخطار المقبلة.
لا يعجب القارئ إذا قلنا له: إن ٩٩ في المائة من سكان الكرة الأرضية هم
من الاشتراكيين أو البلشفيكيين، وهؤلاء هم الشعب الذي تقول الأمثال: إن صوته هو
صوت الله، وهذا الشعب هو الذي يقلب الحكام ويثل العروش ويسقط الملوك، وهو
الذي يحمي أموال الغني ونساءه وبناته وأملاكه ومواشيه ومعامله ببنادق أفراده،
ويضحي بحياته في سبيل إكثار أموال الأغنياء وزيادة أرباحهم.
العمل الشغل، هو نصيحة الآباء لأبنائهم. وفي المدارس يسمع التلامذة من
معلمهم صدى هذه الكلمات مرات عديدة في كل يوم من أيام حداثتهم، وكذلك الحكام
يحثون الشعب على العمل؛ لأن به سعادة البلاد وبعكسه خرابها.
قلنا: إن الشعب العامل هو ٩٩ في المئة من كل سكان الأرض، وقلنا: إن
عليه تتوقف سعادة البلاد وخرابها، وإنه هو الذي يُرسَل في الحروب لإقرار الأمن
ولإغاثة المظلوم ومحاكمة الظالم، أفلا يجب على الأقل أن تقدس حقوقه وتحترم
ويحصل على حاجياته الضرورية؟
تقطع العلائق الودية بين دولة وأخرى، ويكون سبب ذلك طمع الواحدة ببقعة
أرض غنية بالمعادن أو خصبة للأخرى، وتكون هذه البقعة لأحد الأغنياء فتسوق
الأولى شعبها برمته لساحة الحتف، والفناء؛ دفاعًا عن تلك البقعة لتحفظها للغني.
وتسوق الثانية كل شعبها لساحة الموت والدمار لتنزع تلك البقعة وتبيعها من
متمول آخر في بلادها.
يترك العامل فأسه أو محراثه أو منشاره أو مطرقته، ويترك زوجته وأولاده
وعائلته وبيته عرضةً للجوع والعري والإهانة، ويعتقل البندقية لملاقاة الموت الزؤام
بين لعلعة المدافع وصفير البنادق ودوي انفجار الألغام وصليل السيوف وانفجار
ينابيع الدماء - للدفاع عن أموال الغني وأرضه ومناجمه ومعامله، والغني يخطر
مشمخرًا بين النمارق الوثيرة يعاقر كؤوس الخمور، ويتربع فوق الطنافس الناعمة
لمداعبة ناحلات الخصور.
يفعل الشعب كل هذا باسم الوطن، وهو لا يملك من هذا الوطن شروى نقير،
فيعود من المجزرة البشرية مقشعر الشعور شائب الرأس ناحل الجسم عليلاً، فيجد
أولاده وزوجته فريسة الجوع والبرد والإهانة، فتقول له الحكومة: اذهب واشتغل،
وهكذا يقضي العامل الفقير أيام حياته بين الفأس والمحراث، لا يكسب من وراء عمله
أجورًا عادلةً، ولا يحصل إلا على اليسير من رديء الغذاء وفضلات الكساء.
مضت العصور والأجيال، والشعب يتحمل كل هذا الشقاء والعناء ويحاول
كسر نير الأغنياء الفولاذي، فتضربه الحكومات، وهن شريكات الأغنياء بجرائمهم
ومعاصيهم، فيرضى بجورهم عن خوف ورهبة، لا عن عدل ورحمة.
أما الآن، فالشعب هو غير ما كان عليه بالأمس، فهو الذي يقبض على القوة
المسلحة ويدير حركتها، ويقبض على السلاح والذخائر والخطوط الحديدية
والمواصلات، ومئة مليون روسي في أخصب بقع الأرض وأغناها بالمعادن وزيت
البترول والفحم الحجري، تؤيد مطالب العامل وتؤلف أول حكومة شعبية في الأرض،
دعك أن شعوب أواسط أوربة أعلنوا انضمامهم للحكومات الشعبية، وكذلك نرى
العمال في فرنسة وإيطالية وسويسرة وفي كل أوربة وأميركة وآسية يطلبون إسقاط
حكوماتهم وإنشاء حكومات شعبية (بولشفيكية) وهم لا يخشون حكوماتهم؛ لأن منهم
الجندي والبندقية بيده، ومنهم البحار والسفينة وكل ما بها يتقيد بأمره، ومنهم سائق
القطارات وصانع المدافع والقذائف، بل إن كل شيء بيده، وعليه يتوقف انقلاب
الحركة الأرضية والثورة العامة؛ لإيجاد العدالة وإقرار السلام، ولا يتم هذا إلا بإنشاء
الحكومات الشعبية التي تشعر بحاجات الشعب وتعترف بلوازمه.
نعم، إنه لا يستطاع إنشاء حكومات شعبية إلا بعد أن تتبعثر ثروة الأغنياء،
وذلك لمقاومتهم ومناوأتهم لمطالب الشعب العادلة، فيضطر هذا لأخذها بالقوة
والإرغام، فيتضرر الأغنياء في كل أقطاب المسكونة، ولكن الشعب لا يظلمهم
بذلك، بل إن طمعهم بإبقاء سيطرتهم المطلقة ينتج لهم هذه النتيجة.