جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي، ننشره مع رده فيما يلي: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن احتجاب المنار بموت صاحبه - عليه رحمة الله تعالى - كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا، بل حزنهم العميق، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط، بل كان ذلك لما علمه قراء المنار من الميل مع الحق أينما كان، وعدم المبالاة بكائن من كان في سبيل كلمة الحق وبيانها وإيضاحها، ولا أظنك تجهل مواقف صاحب المنار - عليه رحمة الله - مع كثير من أخص أصدقائه؛ فإنه لم يكن يعرف إلا الحق ولو أغضب الحق صديقه أو جميع الناس، ولم نعهد فيه - رحمة الله عليه - مداهنة ولا محاباة، وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التي تعرفونها في نفوس جميع أهل الملة المحمدية. فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها - إن شاء الله تعالى - ستحيي حياتها الأولى، وإلا فاسم المنار وحده لا يغني شيئًا. لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدي النبوي والإسلام، فماذا افتيتم؟ إن رأي المنار في موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور في أعداد المنار السابقة، فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه، وينسى برنامجه؟ لقد قلتم يا سيدي الأستاذ إن كلتا المجلتين على الحق! ! ! ولا يعقل فيما نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال أنهما جميعًا على الحق! لا، ليس هذا شأن المنار الذي عرفناه وبكيناه لما احتجب. نرجو أن تصارحونا بالحق في أي الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار، إن كنتم تنصرون الحق لله وفي سبيل الله، والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قارئ * * * بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته، وكنت أود أن يتكرم بإظهار اسمه حتى نتعارف في سبيل البحث عن الحقيقة، ولعله - وفقنا الله وإياه - رأى في ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق، بدون نظر إلى الصلات الخاصة بين المتباحثين، فنحن نحسن الظن، ونشكر للأخ الفاضل خطابه، مؤكدين دعوتنا الأولى بجميع إخواننا في انتقاد ما يرونه مستحقًّا للانتقاد في المنار؛ حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلاً لا هجر فيه، ولا إقذاف، ولا تجهيل، ولا تضليل؛ ولتكمل به أنفسنا، فإن الكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه - صلوات الله وسلامه عليهم - ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك فهذا عين النقص، ونسأل الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا، ويحملنا على الصواب والسداد، وإلى الكاتب وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد في هذا الخطاب: (١) نسب إلينا الأستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق، وبني على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر، ثم يقال أنهما جميعًا على الحق؛ وحضرته لهذا يرجو أن نصارح بالحق في أي الجهتين هو؟ ولا أدري من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذي نسبه إلينا، إن كان قد جاء به من تصريحنا بأن الفريقين في نظرنا أصدقاء لنا وممن يتصدون للدعوة إلى الخير، فليس معني هذا تصويب رأي أحد منهما ولا كليهما في موضوع نزاع بعينه، والذي صرحنا به في موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق، وأن موضوع الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين أحدهما محق والآخر مبطل، بل قد يكونان مخطئين جميعًا هو ما صرحنا به بوضوح، فإن فريقًا تغالى في التأويل، وفريقًا تغالى في الجمود، ورأى السلف في ذلك - وهو رأي المنار الذي يشير إليه حضرة الكاتب، وهو رأينا الذي أوضحناه في مقالنا - أن مذهب السلف ترك الخوض في هذه المعاني، مع اعتقاد تنزيه الله- تبارك وتعالى - عن أمثالها المنسوبة لخلقه وإمرارها كما جاءت، وتفيوض علم حقائقها إلى الله، فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط في التأويل، وألزم نفسه غير ما ألزمه الله به، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط في التشبيه، وأوهم سامعه جواز نسبة صفات المخلوفين إلى الخالق. فإن قال (هو استقرار يليق بجلاله) فهو إذن لم يأتِ بشيء، والأولى أن يقف عند النص، والحق في هذا وأمثاله أن يقال استوى استواء يليق بجلاله، مع اعتقادهم عدم المشابهة، وتفويض الحقيقة إلى الله، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع تصرف اللفظ عن ظاهره، فنقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه كما ذهب إليه السلف في معية الحق - تبارك وتعالى - بعلمه لا بذاته. تلك أمور فصلناها وقررناها، ولمنا الفريقين على أنهما طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذي خاضوا به، فبها وبذلك حققنا رجاء الكاتب، وصارحناه بأن الحق ليس في أحد الجانبين، فأين القصور إذن؟ (٢) هذا من حيث موضوع النزاع ورأي المنار فيه بالذات، وأظن أن فيما نقلنا في باب التفسير في هذه المعاني كفاية، ومن أراد الاستزادة زدناه؛ حتى يعلم أن المنار لا يتنكر لماضيه في الحق، ولا ينسى برنامجه من الصدع به، ولا يناقض نفسه في الصواب، وبقي بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب بعض ما فاته معرفته من برنامج المنار الذي سارت عليه في ماضيها ونريد أن نسير بها عليه في حاضرها: صرح صاحب المنار بقاعدة، وأسماها قاعدة المنار الذهبية، فقال: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) ، فمواطن الخلاف يا سيدي يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن، وذلك ما سنسير عليه - إن شاء الله -. وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتحرر من الجمود، وينعى على أهل التقليد الأعمى الذين يقدمون أقوال الناس التي لم يقم عليها دليل على الأدلة الواضحة بغير برهان بين أيديهم، إلا أن هذا قول فلان وفلان، فهل يريدنا حضرة الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله؟ أم يريدنا متبعين للدليل والحق، ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار؟ وأظن أن حضرة الكاتب يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك - رضي الله عنهما - وكلاهما في جلالة قدره ورسوخه في علمه وتقواه لله بالمنزلة التي لا تتسامى إليها القوادح، ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا، وأن يكون له رأيه ومذهبه. فنحن مع المنار وصاحبه - عليه رحمة الله ورضوانه - في الأصول الأساسية التي لا خلاف فيها في منهاج الإصلاح العام وخطته، وفيما وضح الحق فيه واستبان وجه عليه الدليل في الشئون التي فيها مجال للتفكير والنظر، ولا يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار - رحمه الله - في الأمور التي لم يقم عليها الدليل أن ينبهنا لما فاتنا، والله الموفق للصواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا