(٣) كنا شرعنا في بيان حقوق الأخوة والصداقة ملخصة من الإحياء، فذكرنا منها حَقَّين، وهما المتعلقان بالنفس والمال، وحالت كثرة المواد دون شرح سائر الحقوق (وهي ستة) فكففنا عنها ناوين الرجوع إليها عند سنوح الفرصة، وقد سنحت الآن، فنقول: (الحق الثالث) في اللسان بالسكوت مرة، وبالنطق أخرى، أما السكوت فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به، وأن لا يماريه ولا يناقشه، وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة ولم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده لا يسأله عنه، فربما يثقل عليه ذكره، أو يحتاج إلى أن يكذب فيه وليسكت عن أسراره التي بثها إليه، ولا يبثها إلى غيره ألبتة، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئًًًا منها، ولو بعد القطيعة والوحشة؛ فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سَبَّك مَن بَلَّغَك، وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدًا بما يكرهه، والتأذي يحصل أولاً من المُبَلِّغ ثم من القائل، نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور يحصل من المُبَلِّغ ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد. وبالجملة: فليسكت عن كل كلام يكرهه - جملة وتفصيلاً - إلا إذا وجب عليه النطق بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت، فإذ ذاك لا يبالي بكراهته، فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق، وإن كان يظن أنه إساءة في الظاهر، وأما ذكر مساويه وعيوبه ومساوي أهله فهو من الغيبة المحرمة، ويزجرك عنه أمران (أحدهما) أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئًا مذمومًا فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك، وقَدِّر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة، كما أنك عاجز عما أنت مُبتلى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال المهذب، وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله، فلا تنتظره من أخيك في حق نفسك، فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك، و (الأمر الثاني) إنك تعلم أنك لو طلبت مُنَزَّهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، ولن تجد من تصاحبه أصلاً، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوٍ، فإذا غلبت المحاسن على المساوي فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبدًا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم، فإنه أبدًا يلاحظ المساوي والعيوب، قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات، وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرًا ستره، وإن رأى شرًّا أظهره، وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه، ويمكن تقبيحه أيضًا، روي أن رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد ذَمَّه، فقال عليه السلام: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه؟ فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما علمت فيه، وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما علمت فيه، فقال عليه السلام: إن من البيان لسحرًا [١] وكأنه كره ذلك، فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: البذاء والبيان شعبتان من النفاق، وفي حيث آخر: (إن الله يكره لكم البيان كل البيان) [٢] ، ولذلك قال الشافعي - رحمه الله -: ما أجد من المسلمين مَن يطيع الله عز وجل فلا يعصيه، ولا أحد يعصي الله عز وجل فلا يطيعه، فمن كان طاعاته أغلب من معاصيه فهو عدل، وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله، فلئن تراه عدلاً في حق نفسك، ومقتضى أخوتك أولى، وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يجب عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب، وهو منهي عنه أيضًا، وحَدّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن، فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة، فلا يمكنك أن لا تعلمه، وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفَرُّسًا، وهو الذي يستند إلى علامة، فإن ذلك يحرك الظن تحريكًا ضروريًّا لا يقدر على دفعه، وإلى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه، حتى إذا صدر منه فعل له وجهان فيحملك سوء الاعتقاد فيه أن تنزله على الوجه الأردأ من غير علامة تخصه بها، وذلك جناية عليه بالباطن، وذلك حرام في حق كل مؤمن، إذ قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء (هو في مسلم بلفظ آخر) وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، أي حديث النفس. وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس، وقال صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث الذي ذُكِر آنفًا: ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. رواه مالك وأحمد والشيخان والترمذي، والتجسس يكون في تطلع الأخبار، وتعرف الأسرار بالواسطة، والتحسس يكون بالمراقبة بالعين، واستراق السمع بالنفس لا بالواسطة، والتناجش هو أن تستام السلعة بأكثر من ثمنها ليراك الآخر فيقع فيها، فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين، وقد وُصف الله تعالى بالستر والتجاوز والمَرضيّ عنده التخلق بأخلاقه، فإذا كنت تحب أن يرضى فيتجاوز عنك فتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك، وما هو بكل حال عبدك ولا مملوكك. وقد روي أن عيسى عليه السلام، قال للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا، وقد كشفت الريح ثوبه عنه، قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله! من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع الكلمة في أخيه فيزيد عليها، ويشيعها بأعظم منها. واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما ورد في الصحيحين وغيرهما، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوي والعيوب ولو ظهر منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه، فما أبعده عن الإنصاف إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له، ولا يعزم عليه لأجله، وويل له بنص كتاب الله تعالى حيث قال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: ١-٣) وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه، فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية، ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد؛ فإن الحقود الحسود يملأ بطنه بالخبث، ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً، وإذا وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء، ويترشح الباطن بخبثه الدفين، ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء: (ظَاهِرُ العِتَاب خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الحِقْدِ، ولا يزيد لُطف الحقود إلا وحشة منه، ومَنْ في قلبه سخيمة على أخيه فإيمانه ضعيف، وأمره مخطر، وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله تعالى) اهـ بتصرف (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))