رأيه في إثبات مذهب أهل الحق من المسلمين وفي مذهب الباطنية أهل التعليم وفيه رأيه في آيات النبوة وفي خروج المسلمين من الخلاف تمهيد كان الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء الراشدين دينًا واحدًا، والمسلمون أمة واحدة، لا فِرَق فيهم ولا مذاهب، ثم حدثت المذاهب في الأصول والفروع، ووقع المسلمون فيما نهاهم الله تعالى عنه من الاختلاف والتفرق إلى شيع متعددة، كل شيعة منها تنتحل مذهبًا، ولم يضر المسلمين في دينهم ودنياهم شيء كهذا التفرق؛ ولذلك لم يشدد القرآن في النهي عن شيء كما شدد في النهي عن الخلاف والتفرق، كما بينا ذلك في تفسير القرآن الحكيم، وفي مواضيع كثيرة من المنار. وكان شر المذاهب وأشأمها في هذه الأمة مذهب الباطنية الذين ذهبوا إلى أن للدين ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن منه هو الحق المراد لله تعالى وأنه لا يمكن أن يعرف من النظر في الكتاب والسنة بطرق النظر المعروفة في الأصول وقوانين اللغة التي للألفاظ والمعاني، بل لا بد في كل عصر من إمام معصوم يؤخذ عنه الدين بالتسليم الأعمى، حتى إذا قال: إن الشمس والقمر في القرآن لا يراد بهما هذان الكوكبان المعروفان وإنما يراد بهما فلان وفلان - وجب تصديقه، فلا يعارض شيء من تعليمه بمخالفة اللغة ولا العقل ولا النص! ! ! وإن لهذا المذهب - بل الدين - الذي ظهر بمظهر المذهب درجات في الاعتقاد، ودرجات في الدعوة، ليس هذا المكان بمحل لبيانها. والدرجة الأخيرة منها هي اعتقاد أن إمامهم هو الله الذي خلق الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب (تعالى الله عما يقولون) . وقد ظهروا في أطوار وتسموا بأسماء أشهرها في زمن الغزالي الإسماعيلية، وكان رئيسهم يومئذ حسن بن الصباح الشهير. وآخر فرقهم المشهورة في زمننا هذا فرقة البابية، أو البهائية من البابية. ما ظهرت بدعة ولا ضلالة قام بها أهل مذهب إلا ووصل إلى غيرها من المذاهب شرها، وسرى إلى أهلها ضرها، وكان أقرب الفرق إلى الباطنية فرقة الشيعة؛ لقولهم بعصمة الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم الرضوان والسلام) بل كانت الباطنية في الزمن الماضي والحاضر من الشيعة كالعبيدين بمصر، والبابية في فارس، وهم ليسوا في الحقيقة من الشيعة ولا من المسلمين، والشيعة تقول بكفرهم كغيرها. كذلك يشتبه مذهبهم بمذهب الصوفية الذين يقولون: إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وإن للدين أسرارًا لا يفهمها إلا الخواص. ولكن فَرْقًا عظيمًا بين الصوفية والباطنية فالغزالي الذي كان أشد العلماء على الباطنية حتى إنه صنف الكتب في الرد عليهم كان صوفيًّا، يقول: إن للدين أسرارًا، كما سيأتي عنه في هذه الترجمة مع بيان الفصل فيه بين الصوفية والباطنية. بل إن مقلدة المذاهب الأربعة في الفقه، والمذهبين الأشعري والماتريدي في الكلام، وهم مِن أتباع أئمة أهل السنة، قد سرت إليهم دعوة الباطنية الأولى، فعملوا بها في الغالب، فجعلوا أئمتهم معصومين وإن لم يسموهم معصومين، فمبدأ التقليد عند أكثرهم أن الواجب اتباع ما ثبت في المذهب من غير بحث ولا دليل، وأنه لا يجوز رد شيء من المذهب لما يظهر أنه مخالف له من آية قرآنية وسنة نبوية، بناء على أن إمام المذهب وعلماءه أعلم بالكتاب والسنة، فالقول ما يقولونه وهو الدين الواجب اتباعه على كُلِّ أحدٍ! . والفرق بينهم وبين الباطنية أن الباطنية تقول بإمام واحد يُتَّبع في كل شيء من الأصول والفروع، وهم يقولون بإمامين في العقائد هما الأشعري والماتريدي وأربعة في فروع الأعمال، كل مَن خالفهم يكون ضالاًّ خارجًا عن هداية الإسلام، إما إلى الكفر أو البدعة، وإما إلى الفسق؛ بل أوجبوا اتباع مَن لا يحصى عددهم من علماء هذه المذاهب، وإن لم يسموهم كلهم أئمة فهؤلاء مقلدة سنغافورة وجاوه يقدسون أحمد بن حجر الهيتمي ويوجبون اتباعه دينًا في كل ما دوَّنه في كتبه، وإن خالف نص الشافعي الذي هو إمامه (ولكل قوم ابن حجر) . إذا تمهد هذا، فاعلم أن أبا حامد الغزالي قد أبطل في رده على الباطنية مذهبهم والنزعات التي سرت منه إلى غيرهم من أهل المذاهب الإسلامية، أو ما وافقه منها وإن لم يكن بالسريان، وأبطل التقليد مطلقًا كما أبطله كتاب الله وسلف الأمة، حتى أئمة الفقه الأربعة ومن أخذ عنهم، وأثبت أنه ليس في البشر إمام معصوم يجب اتباعه غير محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني منذ بعثته إلى آخر الزمان. أحسن ما وصل إلينا من كتب أبي حامد في إبطال مذهب الباطنية، ويسمى مذهب التعليم كتاب: (القسطاط المستقيم) ، وهو يشرح فيه مناظرة دارت بينه وبين أحد دعاة الباطنية، وسماه بهذا الاسم؛ لأن الباطني لما سأله بماذا يزن معرفته أبالرأى والقياس الذي جرى عليه المسلمون في الاستنباط من النصوص وهو مثار الخلاف بين الناس؛ لما فيه من التعارض والالتباس. أم بميزان التعليم باتباع الإمام المعصوم؟ أجابه أبو حامد بأنه يزنها بالقسطاس المستقيم كما أمر الله في كتابه. ثم استنبط له من القرآن خمسة موازين يعرف بها الحق من الباطل في كل علم. ثم بين له أن الشيطان له موازين تضل الناس، وهى طرق الوساوس والأوهام ومسارب خطأ الناس في الفهم والعلم، ثم شرح له المقصد الذي أشرنا إليه فقال: (القول في الاستغناء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبعلماء أمته عن إمام معصوم آخر) . (وبيان معرفة صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق أوضح من النظر في المعجزات) . (وأوثق منه وهو طريق العارفين) . فقال (أي الباطني) : لقد أكملت الشفاء، وكشفت الغطاء، وأتيت باليد البيضاء. لكن بنيت قصرًا وهدمت مصرًا، فإني إلى الآن كنت أتوقع أن أتعلم منك الوزن بالميزان، وأستغني بك وبالقرآن عن الإمام المعصوم، فالآن إذ ذكرت هذه الدقائق في مداخل الغلط، فقد أيست من الاستقلال به، فإني لا آمن أن أغلط لو اشتغلت بالوزن، وقد عرفت الآن لِمَ اخْتَلَفَ النّاسُ في هذه المذاهب؛ وذلك لأنهم لم يتفطنوا لهذه الدقائق كما فطنت، فغلط بعضهم وأصاب بعضهم، فإذا أقرب الطرق لي أَنْ أُعَوِّلَ على الإمام المعصوم حتى أتخلص من هذه الدقائق. فقلت: يا مسكين معرفتك بالإمام الصادق ليست ضرورية، فهي إما أن تكون تقليدًا للوالدين أو موزونة بشيء من هذه الموازين، فإن كل علم ليس أوليًّا فبالضرورة يكون حاصلاً عند صاحبه بقيام هذه الموزاين في نفسه، وإن كان هو لا يشعر به، فإنك عرفت صحة ميزان التقدير بانتظام الأصلين في ذهنك: التجريبي والحسي، وكذلك سائر الناس وهم لا يشعرون به. ومَن يعرف مثلاً أن هذا الحيوان غير حامل لأنه بغل، عرفه بانتظام الأصلين الذين ذكرناهما في صدر الكتاب، وإن كان لا يشعر بمصدر علمه، وكذلك كل علم في العالم يحصل للإنسان فيكون كذلك، فأنت إن أخذت اعتقاد العصمة في الإمام الصادق بل في محمد صلى الله عليه وسلم تقليدًا للوالدين والرفقاء، لم تتميز عن اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم كذلك فعلوا، وإن أخذته من الوزن بشيء من هذه الموازين، فلعلك غلطت في دقيقة من دقائقه، فينبغي على زعمك أن لا تثق به. فقال: صدقت، فأين الطريق، فلقد سددت عليّ طريق التعليم والوزن جميعًا قلت: هيهات راجع القرآن، فلقد علمك الطريق؛ إذ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: ٢٠١) ، ولم يقل سافروا إلى الإمام المعصوم فإذا هم مبصرون، فأنت تعلم أن المعارف كثيرة، فلو ابتدأت في كل مشكلة سفرًا إلى الإمام المعصوم بزعمك، طال عناؤك وقل علمك. لكن طريقك أن تتعلم مني كيفية الوزن وتستوفي شروطه، فإن أشكل عليك شيء عرضته على الميزان، وتفكرت في شروطه بفكر صاف وجد واف، فإذا أنت مبصر. وهذا كما لو حسبت ما للبقال عليك أو لك عليه، أو قسمت في مسألة من مسائل الفرائض وشككت في الإصابة والخطأ، فيطول عليك أن تسافر إلى الإمام المعصوم. ولكن تُحَكِّم علم الحساب وتتذكره ولا تزال تعاوده مرة بعد أخرى حتى تستيقن قطعًا أنك ما غلطت في دقيقة من دقائقها، وهذا يعرفه من يعرف علم الحساب وكذلك مَن يعرف الوزن به كما أعرفه، فينتهي به التذكر والتفكر والمعاودة مرة بعد أخرى إلى اليقين الضروري بأنه ما غلط، فإن لم تسلك هذه الطريق لم تفلح قط، وصرت تشكك بلعل وعسى، ولعلك قد غلطت في تقليدك لإمامك بل للنبي الذي آمنت به، فإن معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم ليست ضرورية (أي ليست بديهية معلومة بالضرورة) . فقال: لقد ساعدتني على أن التعليم حق، وأن الإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم. واعترفت بأن كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي صلى الله عليه وسلم دون معرفة الميزان، وأنه لا يمكنه معرفة تمام الميزان إلا منك، فكأنك ادعيت الإمامة لنفسك خاصة، فما برهانك ومعجزتك؟ فإن إمامي إما أن يقيم معجزة، وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائه إليه، فأين نصك وأين معجزتك؟ فقلت: أما قولك إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة، فليس كذلك، فإني أرجو أن يشاركني غيري في هذه المعرفة، فيمكن أن يُتعلم منه كما يُتعلم مني، فلا أجعل التعليم وقفًا على نفسي. وأما قولك تدعي الإمامة لنفسك، فاعلم أن الإمام قد نعني به الذي يتعلم من الله بواسطة جبريل وهذا لا أدعيه لنفسي، وقد نعني به الذي يتعلم من الله بغير جبريل ومن جبريل بواسطة الرسول، ولهذا سُمِّيَ علي رضي الله عنه إمامًا، فإنه تعلم من الرسول لا من جبريل، وأنا بهذا المعنى أَدَّعِي الإمامة لنفسي. أما برهاني عليه فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة، فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن، فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم: برهاني أنه نصَّ عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين إذ نصَّ على أستاذي، وأستاذي نص عليّ، فكأن الكسائي نصَّ عليّ، وقال الثاني: إني أَقْلِبُ العصا حية فَقَلَبَ العصا حيَّةً، وقال الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من غير مصحف. فليت شعري أي هذه البراهين أوضح عنك، وقلبك بأيها أشد تصديقًا؟ فقال بالذي قرأ القرآن فهو غاية البراهين؛ إذ لا يخالجني فيه ريب. أما نَصُّ أستاذِهِ عليه ونَصُّ الكسائيِّ على أستاذه، فيتصور أن تقع فيه أغاليط لا سيما عند طول الأسفار. وأما قلب العصا حية فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس، وإن لم يكن تلبيسًا فغايته أنه فعل عجيب، ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظًا للقرآن. قلت: فبرهاني إذًا أيضًا أني كما عرفت هذه الموازين، فقد عرفت وأفهمت وأزلت الشك عن قلبك في صحته، فيلزمك الإيمان بإمامتي، كما أنك إذا تعلمت الحساب وعُلمته من أستاذ، فإنه إذا علمك الحساب حصل لك علم بالحساب وعلم آخر ضروري بأن أستاذك حاسب وعالم بالحساب، كذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أيضًا في أنه حاسب، وكذلك آمنت أنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصدق موسى عليه السلام، لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية بمجردهما، فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ التباس كثير فلا يوثق به، بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل، فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جدًّا. لكني تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة، كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن، فوجدت جميعها موافقة لما في القرآن ولما في الأخبار، فتيقنت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق وأن القرآن حق، وفعلت كما قال علي رضي الله عنه، إذ قال: (لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) فكانت معرفتي بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ضرورية، كمعرفتك إذا رأيت رجلاً عربيًّا يناظر في مسألة من مسائل الفقه ويحسن فيها، ويأتى بالفقه الصحيح الصريح، فإنك لا تتمارى في أنه فقيه، ويقينك الحاصل به أوضح من اليقين الحاصل بفقه لو قلب ألف عصا ثعبانًا؛ لأن ذلك يتطرق إليه احتمال السحر والتلبيس والطلسم وغيرها، ولا يحصل العلم بالقرآن بينها وبين هذه الأشياء وكونها معجزة إلا بعد بحث طويل ونظر دقيق، ويحصل به إيمان ضعيف هو إيمان العوام والمتكلمين. فأما إيمان أرباب المشاهدة الناظرين من مشكاة الربوبية فلا يكون كذلك. فقال: فأنا أيضًا أشتهي أن أعرف النبي صلى الله عليه وسلم كما عرفته، وقد ذكرت أن ذلك لا يعرف إلا بأن توزن جميع المعارف الإلهية بهذا الميزان، وما اتضح عندي أن جميع المعارف الدينية يمكن وزنها بهذه الموازين فبم أعلم ذلك؟ قلت: هيهات، لا أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية وكل علم حقيقي غير وضعي فإني أميز حقه عن باطلة بهذه الموازين، وكيف لا وهو القسطاس المستقيم والميزان الذي هو رفيق الكتاب والقرآن في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: ٢٥) وأما معرفتك بقدرتي على هذا، فلا تحصل لا بنص ولا بقلب العصا ثعبانًا. ولكن تحصل بأن تستكشف ذلك تجربة وامتحانًا، فمدعي الفروسية لا ينكشف صدقه حتى يركب فرسًا ويركض ميدانًا، فسلني عما شئت من العلوم الدينية؛ لأكشف لك الغطاء عن الحق فيه واحدًا واحدًا، وأزنه بهذا الميزان وزنًا يحصل لك علم ضروري بأن الوزن صحيح، وإن العلم المستفاد منه مستيقن، ومن لم يجرب لم يعرف. فقال: وهل يمكنك أن تعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية جميع الخلق، فترفع الاختلافات الواقعة بينهم؟ قلت: هيهات لا أقدر عليه، وكان إمامك المعصوم إلى الآن قد رفع الاختلافات بين الخلائق، وأزال الإشكالات عن القلوب بل الأنبياء، متى رفعوا الاختلاف؟ ومتى قدروا عليه؟ بل اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} (هود: ١١٨-١١٩) أفأدعي أن أَرُدَّ قضاء الله الذي قضى به في الأزل؟ أَوَيقدر إمامك أنْ يدعيَ ذلك؟ فإن كان يدعيه فلم ادخره إلى الآن والدنيا طافحة بالاختلافات، وليت شعري أرئيس الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان سبب رفع الاختلافات بين الخلق، أو سبب تأسيس اختلافات لا تنقطع أبد الدهر؟ ! القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات فقال: كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟ قلت: إن أصْغَوا إليّ رفعت الاختلافات بينهم بكتاب الله تعالى. ولكن لا حيلة في إصغائهم فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إليّ؟ وكيف يجتمعون على الإصغاء؟ وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خَلَقَهم. وكون الخلاف بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب: (جواب مفصل الخلاف) وهو الفصول الاثنا عشر. فقال: فلو أصغوا كيف كنت تفعل؟ قلت: كنت أعاملهم بآية واحدة من كتاب الله تعالى، إذ قال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: ٢٥) الآية، وإنما أنزل هذه الثلاث؛ لأن الناس ثلاثة أصناف، وكل واحد من الكتاب والحديد والميزان علاج قوم. فقال: فمن هم وكيف علاجهم؟ قلت الناس ثلاثة أصناف: عوام وهم أهل السلامة، البُلْهُ وهم أهل الجنة، وخواص وهم أهل الذكاء والبصيرة، ويتولد بينهم طائفة هم أهل الجدل والشغب، فيتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة: أما الخواص فإني أعالجهم بأن أعلمهم الموازين القسط وكيفية الوزن بها، فيرتفع الخلاف بينهم على قرب، وهؤلاء قوم اجتمع فيهم ثلاث خصال: إحداها: القريحة النافذة، والفطنة القوية، وهذه عطية فطرية وغريزة جبلية لا يمكن كسبها. والثانية: خلو باطنهم من تقليد وتعصب لمذهب موروث ومسموع؛ فإن المقلد لا يصغي، والبليد وإن أصغى فلا يفهم. الثالثة: أن يعتقد فيَّ أَنِّي من أهل البصيرة بالميزان ومَن لم يؤمن بأنك تعرف الحساب لا يمكنه أن يتعلمه منك. والصنف الثاني البلْه وهم جميع العوام، وهؤلاء هم الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق، وإن كانت لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب، بل شغلتهم الصناعات والحرف، وليس فيهم أيضًا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم عنه، فهؤلاء لا يختلفون. ولكن يتخيرون بين الأئمة المختلفين، فأدعو هؤلاء إلى الله بالموعظة كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل الشغب بالمجادلة، وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك، أولاً - فأقول لهم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي جاءه فقال: علمني من غرائب العلم، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس أهلاً لذلك، فقال: (وماذا عملت في رأس العلم) أي: الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة (اذهب فأحكم رأس العلم ثم ارجع لأعلمك من غرائبه) فأقول للعامي: ليس الخوض في الاختلافات من عشك فادرج، فإياك أن تخوض فيه أو تصغي إليه فتهلك، فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة، وقد صرفت عمرك في غير العلم، فكيف تكون من أهل العلم [٢] ومن أهل الخوض فيه؟ ! فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك، فكل كبيرة تجري على العامي أهون من أن يخوض في العلم فيكفر من حيث لا يدري. فإن قال: لابد من دين أعتقده وأعمل به؛ لأصل به إلى المغفرة والناس مختلفون في الأديان، فبأي دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له: للدين أصول وفروع، والاختلاف إنما يقع فيهما: أما الأصول فليس عليك أن لا تعتقد فيها إلا ما في القرآن، فإن الله تعالى لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه، فعليك أن تعتقد: أن لا إله إلا الله، وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء إلى جميع ما ورد في القرآن واتفق عليه الأئمة، فذلك كاف في صحة الدين، وإن تشابه عليك شيء، فقل: آمنا به كل من عند ربنا، واعتقد كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة واعتقاد أنه ليس كمثله شيء، وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال، فإنك غير مأمور به ولا هو على حد طاقتك. فإن أخذ يتحذلق ويقول: قد علمت أنه عالم من القرآن. ولكني لا أعلم أنه عالم بالذات أو بعلم زائد عليه، وقد اختلف فيه الأشعرية والمعتزلة، فقد خرج بهذا عن حد العوام؛ إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل، فإن الله لا يهلك قومًا إلا يؤتيهم الجدل، كذلك ورد الخبر، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم. هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله، فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد، وهؤلاء أهل الحوالة على الكتاب. وأما الفروع فأقول: لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه، فقد اتفقت الأمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والزنا والسرقة والخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام، والفرائض كلها واجبة. فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف. فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلي وليس بعامي، ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟ أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذا، ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم؟ هيهات ما أِشبه ضعف عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف على الموت وله علاج متفق عليه بين الأطباء؛ وهو يقول: قد اختلفت الأطباء في بعض الأدوية أنها حارة أو باردة، وربما افتقرت إليه يومًا فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع الخلاف فيه. نعم لو رأيتم صالحًا قد فرغ من حدود التقوى كلها. وقال: ها أنا ذا تُشْكِل عليّ مسائل، فإني لا أدرى أتوضأ من اللمس والقيء والرعاف وأنوي الصوم بالليل في رمضان أو بالنهار إلى غير ذلك. فأقول له: إن كنت تطلب الأمان في طريق الآخرة فاسلك سبيل الاحتياط، وخذ بما يتفق عليه الجميع، فتوضأ من كل ما فيه خلاف، فإن كل من لا يوجبه يستحبه، وانو الصوم بالليل في رمضان، فإن من لا يوجبه يستحبه. فإن قال: هو ذا يثقل عليّ الاحتياط، ويعرض لي مسائل تدور بين النفي والإثبات، وقال: لا أدرى أأقنت في الصبح أم لا، وأجهر بالتسمية أم لا. فأقول: الآن اجتهد مع نفسك، وانظر إلى الأئمة أيهم أفضل عندك وصوابه أغلب على قلبك، كما لو كنت مريضًا وفي البلد أطباء فإنك تختار بعض الأطباء باجتهادك لا بهواك وطبعك، فيكيفك مثل ذلك الاجتهاد في أمر دينك، فمن غلب على ظنك أنه الأفضل فاتبعه [٣] ، فمن أصاب فيما قال عند الله فله في ذلك أجران، وإن أخطأ فله عند الله في ذلك أجر واحد. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ورد الله تعالى الأمر إلى أهل الاجتهاد وقال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) وارتضى الاجتهاد لأهله؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ (بِمَ تَحْكُمُ؟) قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي. قال ذلك قبل أن أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ففهم من ذلك أنه مرضي به من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وغيره كما قال الأعرابي: إنى هلكت وأهلكت؛ واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أعتق رقبة ففهم أن التركي أو الهندي لو جامع أيضًا لزمه الإعتاق؛ وهذا لأن الخلق ما كلفوا الصواب عند الله، فإن ذلك غير مقدور عليه، ولا تكليف بما لا يطاق، بل كلفوا ما يظنونه صوابًا كما لم يكلفوا الصلاة بثوب طاهر، بل بثوب يظنون أنه طاهر، فلو تذكروا نجاسته لم يلزمهم القضاء؛ إذ نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعله في أثناء الصلاة؛ لما أنبأه جبريل أن عليه قذرًا ولم يعد الصلاة ولم يستأنف، وكذلك لم يكلف أن يصلي إلى القبلة، بل إلى جهة يظن أنها القبلة؛ بالاستدلال بالجبال والكواكب والشمس، فإن أصاب فله أجران وإلا فله أجر واحد، ولم يكلفوا أداء الزكاة إلى الفقير بل إلى من ظنوا فقره؛ لأن ذلك لا يعرف باطنه، ولم يكلف القضاة في سفك الدماء وإباحة الفروج طلب شهود يعلمون صدقهم، بل من يظنون صدقهم، وإذا جاز سفك دم بظن يحتمل الخطأ؛ وهو ظن صدق الشهود فلم لا تجوز الصلاة بظن شهادة الأدلة عند الاجتهاد. وليت شعري، ماذا يقول رفقاؤك في هذا؟ أيقولون إذا اشتبهت عليه القبلة يؤخر الصلاة حتى يسافر إلى الإمام ويسأله، أو يكلفه الإصابة التي لا يطيقها، أو يقول: اجتهد لمن لا يمكنه الاجتهاد؛ إذ لا يعرف أدلة القبلة وكيفه الاستدلال بالكواكب والجبال والرياح. قال: لا شك في أنه يأذن له في الاجتهاد، ثم لا يؤثمه إذا بذل كنه مجهوده، وإن أخطأ أو صلى إلى غير القبلة. قلت فإذا كان مَنْ جعل القبلة خلفه معذورًا مأجورًا، فلا يبعد أن يكون من أخطأ في سائر الاجتهادات معذورًا؛ فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون، بعضهم مصيبون ما عند الله وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين، فمناصبهم متقاربة، وليس لهم أن يتعاندوا وأن يتعصب بعضهم مع بعض، لا سيما والمصيب لا يتعين وكل واحد منهم يظن أنه مصيب؛ كما لو اجتهد مسافران في القبلة فاختلفا في الاجتهاد، فحقهما أن يصلي كل واحد إلى الجهة التي غلبت على ظنه وأن يكف إنكاره وإعراضه واعتراضه على صاحبه؛ لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه. أما استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه، وكذلك كان معاذ في اليمن يجتهد لا على اعتقاد أنه لا يتصور منه الخطأ، لكن على أنه إن أخطأ كان معذورًا , وهذا لأن الأمور الوضعية الشرعية التي يتصور أن تختلف بها الشرائع يقرب فيها الشيء من نقيضه بعد كونه مظنونًا في سر الاستبصار. وأما ما لا تتغير فيه الشرائع فليس فيه اختلاف، وحقيقة هذا الفصل تعرفه من أسرار اتباع السنة، وقد ذكرته في الأصل العاشر من الأعمال الظاهرة من كتاب جواهر القرآن. وأما الصنف الثالث: وهم أهل الجدل؛ فإني أدعوهم بالتلطف إلى الحق، وأعني بالتلطف أن لا أتعصب عليهم ولا أعنفهم، لكن أرفق وأجادلهم بالتي هي أحسن، وكذلك أمر الله تعالى رسوله، ومعنى المجادلة بالأحسن أن آخذ الأصول التي يسلمها الجدلي، واستنتج منها الحق بالميزان المحقق على الوجه الذي أوردته في كتاب الاقتصاد وإلى ذلك الحد، فإن لم يقنعه ذلك لتشوفه بفطنته إلى مزيد كشف رقبته إلى تعليم الموازين، فإن لم يقنعه لبلادته وإصراره على تعصبه ولجاجه وعناده عالجته بالحديد، فإن الله سبحانه جعل الحديد والميزان قريني الكتاب؛ ليفهم منه أن جميع الخلائق لا يقومون بالقسط إلا بهذه الثلاث: فالكتاب للعوام، والميزان للخواص، والحديد الذي فيه بأس شديد للذين يتبعون ما تشابه من الكتاب؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولا يعلمون أن ذلك ليس من شأنهم، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم دون أهل الجدل. وأعني بأهل الجدل طائفة فيهم كياسة ترقوا بها عن العوام. ولكن كياستهم ناقصة؛ إذ كانت الفطرة كاملة. ولكن في باطنهم خبث وعناد وتعصب وتقليد، فذلك يمنعهم عن إدراك الحق، وتكون هذه الصفات أكنة على قلوبهم أن يفقهوه، وفي آذانهم وقر. لكن لم تهلكهم إلا كياستهم الناقصة، فإن الفطنة البتراء والكياسة الناقصة شر من البلاهة بكثير، وفي الخبر (إن أكثر أهل الجنة البله، وإن عليين لذوي الألباب) [٤] ويخرج من جملة الفريقين الذين يجادلون في آيات الله وأولئك أصحاب النار، ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وهؤلاء ينبغي أن يمنعوا من الجدال بالسيف والسنان كما فعل عمر رضي الله عنه برجل؛ إذ سأله عن آيتين متشابهتين في كتاب الله تعالى فَعَلاه بالدِّرَّة، وكما قال مالك رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء على العرش، فقال: الاستواء حق، والإيمان به واجب، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة. وحسم بذلك باب الجدال، وكذلك فعل السلف كلهم. وفي فتح باب الجدال ضرر عظيم على عباد الله تعالى. فهذا مذهبي في دعوة الناس إلى الحق، وإخراجهم من ظلمات الضلال إلى نور الحق، وذلك بأن دعوة الخواص إلى الحكمة بتعليم الميزان، حتى إذا تعلم الميزان القسط لم يقدر به على علم واحد بل على علوم كثيرة، فإن من معه ميزان فإنه يعرف به مقادير أعيان لا نهاية لها، كذلك من معه القسطاس المستقيم فمعه الحكمة التي مَن أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا لا نهاية له، ولولا اشتمال القرآن على الموازين لما صح تسمية القرآن نورًا؛ لأن النور ما يبصر بنفسه ويبصر به غيره، وهو نعت الميزان، ولما صدق قوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: ٥٩) فإن جميع العلوم غير موجودة في القرآن بالتصريح. ولكن موجودة فيه بالقوة؛ لما فيه من الموازين القسط التي بها تفتح أبواب الحكمة التي لا نهاية لها، فبهذا أدعو الخواص. ودعوت العوام بالموعظة الحسنة بالإحالة على الكتاب والاقتصار على ما فيه من الصفات الثابتة لله تعالى. ودعوت أهل الجدال بالمجادلة التي هي أحسن، فمَن أَبَى أعرضت عن مخاطبته، وكففت شره ببأس السلطان والحديد المُنَزَّل مع الميزان. فليت شعري، الآن يا رفيقي بم يعالج إمامك هؤلاء الأصناف الثلاثة؟ أيعلم العوام فيكلفهم ما لا يفهمون ويخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يخرج الجدال من أدمغة المجادلين بالمحاجة، ولم يقدر على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كثرة مُحاجّة الله تعالى في القرآن مع الكفار؟ فما أعظم قدرة إمامك؛ إذ صار أقدر من الله تعالى ومن رسوله! ! أو يدعو أهل البصيرة إلى تقليده وهم لا يقبلون قول الرسول صلى الله عليه وسلم بالتقليد، ولا يقنعون بقلب العصا ثعبانًا، بل يقولون هو فعل غريب. ولكن من أين يلزم منه صدق فاعله، وفي العالم من غرائب السحر والطلسمات ما تتحير فيه العقول، ولا يقوى على تمييز المعجزة عن السحر والطلسم إلا مَن عرف جميعها وجملة أنواعها؛ ليعلم أن المعجز خارج عنها، كما عرف سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام، إذ كانوا من أئمة السحرة، ومن الذي يقوى على ذلك؟ بل أهل البصيرة يريدون مع المعجزة أن يعلموا صدقه من قوله، كما يعلم متعلم الحساب من نفس الحساب صدق أستاذه في قوله: إني حاسب، فهذه هي المعرفة اليقينية التي بها يقنع أولو الألباب وأهل البصائر، ولا يقنعون بغيرها ألبتة، وهم إذا عرفوا بمثل هذا المنهاج صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن، وفهموا موازين القرآن كما ذكرت لك وأخذوا منه مفاتيح العلوم كلها مع الموازين كما ذكرته في كتاب جواهر القرآن، فمن أين يحتاجون إلى إمامك المعصوم؟ وما الذي حلَّ من إشكالات الدين؟ وماذا كشف عن غوامضه؟ قال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان: ١١) وقد سمعت الآن منهاجي في موازين العلوم، فأرني ماذا اقتبسته من غوامض العلوم من إمامك إلى الآن، وماذا الذي يتعلمون منه؟ وليت شعري، ما الذي تعلمت من أمامك المعصوم؟ أرني ما رأيتها: ما يسدي بي رتسدي أوف ... خر ابن وقلب يارفوت فليس الغرض من الدعوة إلى المائدة مجرد الدعوة دون الأكل والتناول منها، وإني أراكم تدعون الناس إلى الإمام، ثم أرى المستجيب لإمامك بعد الاستجابة على جهله الذي كان قبله، لم يحل له الإمام عقدًا بل ربما عقد له حلاًّ، ولم تفده استجابته بل ربما زاد به طغيانًا وجهلاً. قال: قد طالت صحبتي مع رفقائي. ولكن ما تعلمت منهم شيئًا إلا أنهم يقولون عليك بمذهب التعليم، وإياك والرأي والقياس فإنه متعارض مختلف. قلت: فمن الغرائب أن يدعوا إلى التعليم ثم لا يشتغلوا بالتعليم. فقل لهم: قد دعوتموني إلى التعليم فأستجيب فعلموني ما عندكم، فقال: ما أراهم يزيدونني على هذا شيئًا، قلت: فإني قائل أيضًا بالتعليم وبالإمام وببطلان الرأي والقياس، وأنا أزيدك على هذا؛ لو أطقت ترك التقليد تعليم غرائب العلوم وأسرار القرآن، فأستخرج لك منه مفاتيح العلوم كلها؛ كما استخرجت منه موازين العلوم كلها، على ما أشرت إلى كيفية انشعاب العلوم كلها منه في كتاب جواهر القرآن. لكني لست أدعو إلى إمام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى كتاب سوى القرآن، فمنه أستخرج جميع أسرار العلوم، وبرهاني على ذلك لساني وبياني، وعليك إن شككت تجريبي وامتحاني، أفتراني أَوْلى بأن يتعلم مني من رفقائك أم لا؟ اهـ المراد منه. ((يتبع بمقال تالٍ))