للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
(٨) من أراسم إلى هيلانة في ١٦ يناير سنة - ١٨٥
أكتب إليك هذا وقد استيقظت في الساعة السادسة من صباح اليوم،
وعلمت أن عشرين مسجونًا - أنا منهم - قد فصلوا لإرسالهم إلى سجن ... وبلغني
أن أمر نقلنا وصل إلى هنا ليلاً من باريس، فلم يكن لي من وسيلة لإحاطتك علمًا
بهذا الخبر قبل الآن، ولم يبق لي أمل في لقائك؛ فإن السفر سيكون في الساعة
السابعة صباحًا، سيصلك هذا المكتوب وأنا في طريقي إلى الجزيرة التي جعلت مقرًّا
لي، فأودعك وداع محب ثابت على عهده لا يثنيه عن حبك اعتراض الحوائل، ولا
يلويه عن ذكراك تطويح المطاوح.
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوقي على بعد المزار وقربه
(٩) من هيلانة إلى أراسم في ١٧ يناير سنة - ١٨٥
جئت اليوم إلى السجن لزيارتك، فمثل لنفسك ما عراني من هزة
الطرب ونشوة الفرح لمّا علمتُ بأنك أخرجت منه، ما كان أبعدني عن العقل
وأقربني من الجنون في تلك الساعة إذ ظننت أنك فزت برجوع نعمة الحرية إليك،
لكن لم يلبث كاتب سر السجن أن أبان لي خطأي إذ أخبرني بأنك قد وجَّهت (هكذا
عبارته) إلى جزيرة ... وإني سأتبعك قاطعة أجواز البحار، مقتحمة في سبيل
القرب منك جميع الأخطار، فأينما تكن - وإن في آخر الدنيا - لا بد لي من اللحاق
بك، لا يعوقني عنك هجير الشمس المحرقة، ولا أخطار مجاهيل الصحاري والقفار،
ولا اعتراض سلاسل الجبال الشامخة دونك؛ لأن غايتي التي أسعى إليها هي أن
نعيش مجتمعين، فأكتب لي حتى آتيك لأمتع النفس بلقائك. اهـ
(١٠) من أراسم إلى هيلانة في ٢فبراير سنة-١٨٥
أنا واثق أيتها العزيزة بحبك إياي، وأقسم عليك بأطهر ما يوجد في
هذا العالم وأجدره بالتقديس أن لا تقاربيني، وأن تهربي مني هربًا، إنني منذ شهر
أو شهرين كنت أقبل منك هذا الإخلاص الشريف طيبة به نفسي، منشرحًا له صدري
حيث لم أكن عالمًا بحملك، وكنت أجد فيك وحدك حينًا بعد حين تفريجًا لكربتي في
وحدتي، وإيناسًا من وحشتي، وكنت لاعتزازي بوجودك معي، واغتباطي لقربك
مني ولو ساعة من نهار، أنسى كل ما أقاسيه في لحظة من ألحاظك، أما اليوم فقد
تغيرت الأحوال، وتبدلت الشؤون تبدلاً عظيمًا، فأصبحنا أنا وأنت لا نملك من
أمرنا شيئًا حتى حرية التَّحابِّ والتَّواد، أصبح ما هو في العادة سبب اتصال
واقتراب بين الرجل والمرأة سببًا لانفصالنا، وحائلاً دون اجتماعِنا، وذلك للحال
السيئ الذي نحن فيه، ألا يجب أن نهيئ هذه المجاملات وتلك الآداب لذلك الذي لم
يوجد بعد الوجود الكامل الذي يطلق عليه هذا اللفظ إلا أنه قد وجبت له علينا حقوق
نحن مطالبون بأدائها، إياك أن تنسي أنك مسئولة أمام الله عمّا وهب لك من حلية
الشرف بأن أهَّلك بأن تكوني أمًّا.
إني أخاطبك من حيث أنا طبيب وزوج - وأخشى أن أتعجل فأقول: أب-
بأن الذي يلزمك الآن هو شيء من السكينة والاستقرار، وأنصح إليك بأن تغادري
بلادنا الآن، وتهاجري من هذه الأرض التي تميد بزلازل الفتن، فهي نصيحتي
واتبعيها، واعلمي أن لي صديقًا في إنكلترا من رصفائي الأطباء يناجيني، حسن
اعتقادي فيه أنه سينفعك ويرشدك إلى كل ما يلزمك علمه مما يتيسر لك به تَوطُّن
تلك البلاد على حالة موافقة، إن لنا والحمد لله فيما جمعته بكدي من يسير المال
سدادًا من عوز - بل كفافًا من العيش - فاستجمعي به أولاً لنفسك الراحة ومعدات
المعيشة الطيبة، ثم احفظي ما بقي لتربية ولدنا. آه لو أدري عاجلاً أنك قد فارقت
فرنسا، وابتعدت عن مشاغب الشقاق الداخلي، فعجِّلي بالرحيل أيتها الحبيبة.
أقول - والله على ما أقول شهيد -: إنك لم تكوني في زمن من الأزمان
أعزّ على نفسي وأغلى قيمة عندي منك في هذه الساعة التي أرغب إليك فيها بعدم
اللحاق بي في سفري المحزن، لا تكثري همك بما قُدِّر عليّ واعلمي أن جل ما
يعانيه المسجون من الشقاء هو إحساسه بأن لا نفع في وجوده، وقد ذقت أنا هذا الألم
النفسي، وبلوت مرارته، لكني اليوم قد كلفت بواجب جديد يلزمني أداؤه، وإني
لأرجو أن أقوم به مهما حالت دونه الحوائل.
***
(حاشية)
إني مرسل طي هذا مكتوبًا للدكتور وارنجتون في لندره.
(١١) من هيلانة إلى أراسم في ١٥ فبراير سنة - ١٨٥
قد أطعتُ أمرَك وسمعتُ نصحك، وسأسافر غدًا إلى إنكلترا، وإني
قد استرجعت جزءًا من ثبات جناني، وقد فتح مكتوبك لي أبوابًا أرى منها مشاهد
جديدة لتفن صفة الزوجية في صفة الأمومة، فتلك سنة الله في خلقه لا محيص لي
من اتِّبَاعها، على أن هذا الولد الذي وعدت به سيكون الرابطة بيننا ويقرب مشقة
البين التي تفصلنا بعض التقريب، إني أرغب في الحياة من أجله ومن أجلك،
فإنه سيكون يومًا يَمُنُّ الله علينا بانتظام الشمل موضوع سلوة لأحزاننا، وقرَّة
لأعيننا وعزة لأنفسنا.
حقق الله ما نرجوه من الأمل، ووقانا بفضله عوادي السوء إنه سميع
الدعاء. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))