للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


كتاب مدارج السالكين

كلام الصوفية في الوقت
من الجزء الثالث من كتاب مدارج السالكين

قال: ومنها الوقت. قال صاحب المنازل (باب الوقت)
قال الله تعالى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (طه: ٤٠)
الوقت اسم لظرف الكون، وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معانٍ على ثلاث
درجات [١] : المعنى الأول [٢] حين وجد [٣] صادق لإيناس ضياء فضل جذبه صفاء
رجاء أو [٤] لعصمة جذبها صدق خوف، أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) وجه
استشهاده بالآية أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه، فإن
العرب تقول: جاء فلان على قَدَر. إذا جاء وقت الحاجة إليه، قال جرير:
نال الخلافة إذ كانت على قَدَر ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَر
وقال مجاهد: على موعد، وهذا فيه نظر لأنه لم يسبق بين الله سبحانه
وبين موسى موعد للمجيء؛ حتى يقال إنه أتى على ذلك الموعد؛ ولكن وجه هذا
أن المعنى جئت على الموعد الذي وعدناه أن ننجزه، والقدر الذي قدرناه أن يكون
في وقته، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ
رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} (الإسراء: ١٠٧-١٠٨) لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال
نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورًا وهدى، فلما سمعوا القرآن علموا أن الله
أنجز ذلك الوعد الذي وعد به، واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم،
لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع
وأجدر، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفَرَج في وقته
الذي يليق به.
ومن تأمل أقدار الرب تعالى، وجريانها في الخلق علم أنها واقعة في أليق
الأوقات بها، فَبَعَث الله سبحانه موسى أحوج ما كان الناس إلى بعثته، وبعث
عيسى كذلك، وبعث محمدًا صلى الله (عليه وعليهم أجمعين) أحوج ما كان أهل
الأرض إلى إرساله، فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له أحوج ما كان
إلى عمارته.
قوله: (الوقت ظرف الكون) الوقت عبارة عن مقارنة حادث لحادث عند
المتكلمين، فهو نسبة بين حادثين، فقوله ظرف الكون أي وعاء التكوين فهو
الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين، كما أن ظرف المكان هو الوعاء المكاني
الذي يحصل فيه الجسم؛ ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك. قال أبو
علي الدقاق: الوقت ما أنت فيه، فإن كنت في الدنيا، فوقتك الدنيا، وإن كنت
بالعقبى، فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور، فوقتك سرور، وإن كنت بالحزن،
فوقتك الحزن. يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله، وقد يريد أن
الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل، وهو اصطلاح أكثر الطائفة، ولهذا
يقولون: الصوفي والفقير ابن وقته. يريدون أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما
هو أولى الأشياء به، وأنفعها له، فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة
الراهنة، فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه، بل بوقته الذي هو فيه، فإن الاشتغال
بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الحاضر، وكلما حضر وقت انشغل عنه
بالطرفين فتصير أوقاته كلها فواتًا.
قال الشافعي (رضي الله عنه) : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا
بكلمتين: سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم
تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، قلت: يا لهما كلمتين ما أنفعهما، وأجمعهما،
وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته! ويكفي هذا ثناء من الشافعي على طائفة هذا
قدر كلماتهم.
وقد يريدون بالوقت ما هو أخص من هذا كله، وهو ما يصادفهم في تصريف
الحق لهم دون ما يختارونه لأنفسهم. ويقولون: فلان بحكم الوقت. أي مستسلم لما
يأتي من عند الله من غير اختيار، وهذا يحسن في حال، ويَحْرُم في حال،
وينقص صاحبه في حال، فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا
نهي، بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي كالفقر،
والمرض، والغربة، والجوع، والألم، والحر، والبرد، ونحو ذلك، ويَحْرُم في
الحال التي يجري عليه فيها الأمر، والنهي، والقيام بحقوق الشرع، فإن التضييع
لذلك، والاستسلام، والاسترسال مع القدر انسلاخ من الدين بالكلية، وينقص
صاحبه في حال تقتضي قيامًا بالنوافل، وأنواع البر، والطاعة، وإذا أراد الله
بالعبد خيرًا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدًا له، وإذا أراد به شرًّا جعل وقته
عليه، وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده [٥] الوقت، والأول كلما
همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده.
وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام: أصحاب السوابق، وأصحاب
العواقب، وأصحاب الوقت وأصحاب الحق، قال:
(فأما أصحاب السوابق) فقلوبهم أبدًا فيما سبق لهم من الله، لعلمهم أن
الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد، ويقولون: مَن أقصته السوابق لم تدنه
الوسائل ففكرهم في هذا أبدًا، ومع ذلك فهم يجدون في القيام بالأوامر، واجتناب
النواهي، والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها، يقول
قائلهم:
من أين أرضيك إلا أن توفقني ... هيهات هيهات ما التوفيق من قِبَلي
إن لم يكن لي في المقدور سابقة ... فليس ينفع ما قدمت من عملي
وأما (أصحاب العواقب) فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم، فإن الأمور
بأواخرها، والأعمال بخواتيمها، والعاقبة مستورة كما قيل:
لا يغرنك صفا الأوقات ... فإن تحتها [٦] غوامض الآفات
فكم من ربيع نورت أشجاره، وظهرت أزهاره، وزهت ثماره، لم يلبث أن
أصابته جائحة سماوية فصار كما قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: ٢٤) إلى قوله:
{يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: ٢٤) فكم من مريد كَبَا بِهِ جواد عزمه (فخر صريعًا لليدين
والفم) وقيل لبعضهم وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه: ما الذي أصابك فقال
حجاب وقع، وأنشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟
تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب
الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة:
خذ من الألف واحدًا ... واطرح الكل بعده
وأما (أصحاب الوقت) فلم يشغلوا [٧] في السوابق، ولا في العواقب بل
اشتغلوا بمراعاة الوقت، وما يلزمهم من أحكامه، وقالوا: العارف ابن وقته [٨] لا
ماضي له، ولا مستقبل، ورأى بعضهم الصديق رضي الله عنه في منامه، فقال:
أوصني، فقال له: كن ابن وقتك.
وأما (أصحاب الحق) فهم مع صاحب الوقت، والأزمان، ومالكهما،
ومدبرهما، مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات، ولا يتفرغون لمراعاة وقت
وزمان كما قيل:
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلَّى
إن للعاشقين عن قصر لليل ... وعن طوله من العشق شغلا
قال الجنيد: دخلت على السري يومًا فقلت له كيف أصبحت فأنشأ يقول:
ما في النهار ولا في الليل لي فرج ... ولا أطال الليل أو قصر
ثم قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار. يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات، بل هو مع الذي يقدر الليل والنهار.
***
فصل
قال صاحب المنازل: (الوقت اسم في هذا الباب لثلاثة معان: المعنى الأول
حين وَجْد صادق) أي وقت وجد صادق. أي زمن وجد يقوم بقلبه وهو صادق
فيه غير متكلف له ولا متعمل في تحصيله (يكون متعلقه إيناس ضياء فضل) أي
رؤية ذلك، والإيناس الرؤية قال الله تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ
آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} (القصص: ٢٩)
وليس هو مجرد الرؤية، بل رؤية ما يأنس به القلب ويسكن إليه، ولا يقال لمن
رأى عدوه أو مخوفًا " آنسه "، ومقصوده أن هذا الوقت وقت وجد صاحبه صادق
فيه لرؤية ضياء فضل الله ومَنِّه عليه، والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى
أو يعطى فوق استحقاقه، فإذا آنس هذا الفضل، وطالعه بقلبه أثار ذلك [٩] فيه وجدًا
آخر باعثًا على محبة صاحب الفضل، والشوق إلى لقائه، فإن النفوس مجبولة
على حب من أحسن إليها، ودخلت يومًا على بعض أصحابنا وقد حصل له وجد
أبكاه فسألته عنه فقال: ذكرت ما مَنَّ الله به عليّ من السنة ومعرفتها، والتخلص
من شُبَه القوم، وقواعدهم الباطلة، وموافقة العقل الصريح، والفطرة السليمة لما
جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسرني ذلك حتى أبكاني. فهذا الوجد
أثاره إيناس فضل الله ومَنِّه.
قوله: (جذبه صفاء رجاء) أي جذب [١٠] ذلك الوجد، أو الإيناس، أو
الفضل رجاء صافٍ غير مكدر، والرجاء الصافي هو الذي لا كدر يشوبه [١١] بوهم
معاوضة منك، وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء، فصفاء الرجاء يخرجه [١٢]
من ذلك بل يكون رجاء محضًا لمن هو مبتدئ بالنعم من غير استحقاق، والفضل
كله له ومنه، وفي يده أسبابه، وغاياته، ووسائله، وشروطه، وصرف موانعه.
كل بيد الله لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئًا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته.
ويلخص ذلك أن الوقت في هذه الدرجة الأولى عبارة عن وجد صادق سببه
رؤية فضل الله على عبده، لأن رجاءه كان صافيًا من الأكدار.
قوله: (أو لعصمة جذبها صدق خوف) اللام في قوله أو لعصمة معطوف
على اللام في قوله أو لإيناس ضياء فضل، أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف،
فاللام ليست للتعليل بل هي على حدها في قولك: ذوق لكذا، ورؤية لكذا. فمتعلق
الوجد عصمة، وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن جذبها صدق خوف من الرب
سبحانه، والفرق بين الوجد في هذه الدرجة والتي قبلها أن الوجد في الأولى جذبه
صدق الرجاء، وفي الثانية جذبه صدق الخوف، وفي الثالثة التي تذكر جذبه صدق
الحب، فهو معنى قوله: (أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) ، وخدمته التورية
في اللهيب، والاشتعال، والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب فحدث عنها
لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب، وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة، وهى
الحب، والخوف، والرجاء، هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأَوْلَى
لصاحبه، والأنفع له، وهي أساس السلوك، والسير إلى الله، وقد جمع الله سبحانه
الثلاثة في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: ٥٧)
وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية، وعليها دارت رحى الأعمال، والله أعلم.
***
فصل
قال: (والمعنى الثاني [١٣] اسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون؛ لكنه إلى
التمكن ما هو يسلك الحال، ويلتفت إلى العلم، فالعلم يشغله [١٤] في حين، والحال
يحمله في حين، فبلاؤه بينهما يذيقه شهودًا طورًا ويكسوه عبرة طورًا، ويريه غيرة
تفرق طورًا) هذا المعنى هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت
عنده، قوله: (اسم لطريق سالك) هو على الإضافة أي لطريق عبد سالك، قوله:
(يسير بين تمكن وتلون) أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون، والتمكن هو الانقياد
إلى أحكام العبودية بالشهود والحال، والتلون في هذا الموضع خاصة هو الانقياد
إلى أحكام العبودية بالعلم، فالحال يجمعه بقوته وسلطانه، فيعطيه تمكينًا، والعلم
يلونه بحسب متعلقاته، وأحكامه، قوله: (لكنه إلى التمكن ما هو يسلك الحال،
ويلتفت إلى العلم) يعني أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال،
ويلتفت إلى العلم [١٥] ، فأما إن سلك العلم والتفت إلى الحال لم يكن سالكًا إلى التمكن،
فالسالكون ضربان: سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم، وهم إلى التمكن أقرب،
وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال وهم إلى التلون أقرب، هذا حاصل
كلامه.
وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم، وأهل الحال، حتى كأنهما غيران
وحزبان، وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى، ولا تعاشرها إلا على إغماض،
ونوع استكراه، وهذا من تقصير الفريقين، حيث ضعف أحدهما عن السير في
العلم، وضعف الآخر عن الحال في العلم، فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين
الحال والعلم، فأخذ هؤلاء العلم، وسعته، ونوره، ورجحوه، وأخذ هؤلاء الحال،
وسلطانه، وتمكينه، ورجحوه، وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير
بأحدهما ملتفتًا إلى الآخر، فهذا مطيع للحال [١٦] ، وهذا مطيع للعلم؛ لكن المطيع
للحال متى عصى به العلم كان منقطعًا محجوبًا، وإن كان له من الحال ما عساه أن
يكون، والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعًا منقوصًا مشتغلاً
بالوسيلة عن الغاية، وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله، ويحكم عليه،
فينقاد لحكمه، ويتصرف حاله في علمه فلا بد أن يقف معه، بل يدعوه إلى غاية
العلم فيجيبه ويلبي دعوته، فهذه حال الكُمَّل من هذه الأمة.
ومن استقرأ أحوال الصحابة وجدها كذلك، فلما فرق المتأخرون بين الحال
والعلم دخل عليهم النقص، والخلل، والله المستعان {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ
لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: ٤٩-٥٠) فكذلك يهب لمن يشاء علمًا، ولمن يشاء حالاً، ويجمع
بينهما لمن يشاء، ويخلي من يشاء منهما.
قوله: (فالعلم يشغله في حين) أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال؛ لأن
العلم متنوع التعلقات فهو يُفَرِّق، والحال يُجَمِّع، فإنه يدعوه إلى الفناء، وهناك
سلطان الحال، قوله: " والحال يحمله في حين " أي يغلب عليه الحال تارة فيصير
محمولاً بقوة الحال وسلطانه على السلوك فيشتد [١٧] سيره بحكم الحال، يعني وإذا
غلبه العلم شغله عن السلوك، وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين (إن العلم
يشغل عن السلوك) ، ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتًا إلى العلم،
وأما على ما قررناه من أن العلم يعين على السلوك، ويحمل عليه، ويكون صاحبه
سالكًا به، وفيه فلا يشغله العلم عن سلوكه، وإن أضعف سيره على درب الفناء،
فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء، فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله، بل ولا
هو لازم من لوازم الطريق، وإن كان عارضًا من عوارضها يعرض لغير الكُمَّل -
كما تقدم تقرير ذلك - فبينا أن الفناء الكامل الذي هو الغاية المطلوبة، الفناء عن
محبة ما سوى الله وإرادته، فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه، وبإرادته،
ورجائه، والخوف منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه عن إرادة ما سواه، وخوفه،
ورجائه، والتوكل عليه، وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال، ولا يشغل عن العلم ولا
يحول بين العبد وبينه، بل قد يكون في أغلب الأحوال من أعظم أعوانه، وهذا
أمر غفل عنه أكثر المتأخرين بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه؛ ولكن لم يُخل الله
الأرض من قائم به، داعٍ إليه.
قوله: (فبلاؤه بينهما) أي عذابه وألمه بين داعي الحال، وداعي العلم،
فإيمانه يحمله على إجابة داعي العلم، ووارده يحمله على إجابة داعي الحال،
فيصير كالغريم بين مطالبين، كل منهما يطالبه بحقه وليس بيده إلا ما يقضي
أحدهما، وقد عرفت أن هذا من الضيق، وإلا فمع السعة يوفي كلا منهما حقه.
قوله: (يذيقه شهودًا طورًا) أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه
شهوده طورًا، وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه هو العلم.
قوله: (ويكسوه عبرة طورًا) الظاهر أنه عِبْرَة بالباء الموحدة والعين، أي
اعتبارًا بأفعاله، واستدلالاً عليه بها، فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله، فالعلم
يكسو صاحبه اعتبارا، واستدلالاً على الرب بأفعاله.
ويصح أن يكون عيرة بالعين المهملة [١٨] ، والياء المثناة من تحت ومعناه أن
العلم يكسوه عيرة [١٩] من حجابه عن مقام صاحب الحال، فيعار من [٢٠] احتجابه
عن الحال بالعلم، وعن العيان بالاستدلال، وعن الشهود الذي هو مقام الإحسان
بالإيمان الذي هو إيمان بالغيب.
قوله: (ويريه غيرة تفرق طورًا) هذا بالغين المعجمة ليس إلا، أي ويريه
العلم غيرة تفرق في أوديته، فَيُفَرِّق بين أحكام الحال، وأحكام العلم، وهو حال
صحو وتمييز، وكأن الشيخ - رحمه الله - يشير إلى أن صاحب هذا المقام يغار
تفرقه [٢١] من جمعيته على الله، فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم،
فإنه لا أشق على النفوس من جمعيتها على الله، فهي تهرب من الله إلى الحال تارة
وإلى العمل تارة، وإلى العلم تارة، هذه نفوس السالكين الصادقين، وأما من ليس
من أهل هذا الشأن فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات، فأشق ما على
النفوس جمعيتها على الله، وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه، وأن يشغلها بما
دونه، فإن حبس النفس على الله شديد، وأشد منه حبسها على أوامره، وحبسها
عن نواهيه، فهي دائمًا ترضيك بالعلم عن العمل، وبالعمل عن الحال، وبالحال
عن الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله، وعلم
أن كل ما سواه فهو قاطع عنه.
وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات - كما أشار إليه -: درجة
الحال، ودرجة العلم، ودرجة التفرقة بين الحال والعلم، وهذه الثلاث درجات [٢٢]
هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت، والله أعلم.
***
فصل
قال: والمعنى الثالث [٢٣] قالوا: الوقت الحق أرادوا به استغراق رسم الوقت
في وجود الحق، وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي لكنه اسم [٢٤] في هذا
المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفًا لا وجودًا محضًا، وهو فوق البرق
والوجد، وهو يفارق [٢٥] مقام الجمع لو دام وبقي، ولا يبلغ وادي الوجود؛ لكنه
يلقي [٢٦] مؤنة المعاملة، ويصفي عين المسامرة، ويشم روائح الوجود.
هذا المعنى الثالث من معاني الوقت أخص مما قبله، وأصعب تصورًا
وحصولاً، فإن الأول وقت سلوك يتلون، وهذا وقت كشف يتمكن، ولذلك أطلقوا
عليه اسم الحق لغلبة حكمه على قلب صاحبه، فلا يحس برسم الوقت بل يتلاشى
ذكر وقته من قلبه لما قهره من نور الكشف.
فقوله: (قالوا الوقت هو الحق) يعني أن بعضهم أطلق اسم الحق على الوقت،
ثم فسر مرادهم بذلك، وأنهم عنوا به استغراق رسم الوقت في وجود الحق،
ومعنى هذا أن السالك بهذا المعنى الثالث إذا شهد استغراق وقته في وجود الحق
يتلاشى عنه وقته بالكلية، وتقريب هذا إلى الفهم أنه إذا شهد استغراق وقته
الحاضر في ماهية الزمان فقد استغرق الزمان رسم الوقت إلى ما هو جزء يسير
جدًّا من أجزائه، وانغمر فيه كما تنغمر القطرة في البحر، ثم إن الزمان المحدود
الطرفين يستغرق رسمه في وجود الدهر، وهو ما بين الأزل والأبد، ثم إن الدهر
يستغرق رسمه في دوام الرب جل جلاله، وذلك الدوام هو صفة الرب، فهناك
يضمحل الدهر، والزمان، والوقت ولا يبقى له نسبة إلى دوام الرب جل جلاله
البتة، فاضمحل الزمان، والدهر، والوقت في الدوام الإلهي، كما تضمحل الأنوار
المخلوقة في نوره، كما يضمحل علم الخلق في علمه، وقدرهم في قدرته،
وجمالهم في جماله، وكلامهم في كلامه [٢٧] بحيث لا يبقى للمخلوق نسبة ما إلى
صفات الرب جل جلاله.
والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم (ما في الوجود إلا الله) أو (ما ثم
موجود على الحقيقة إلا الله) أو (هناك يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل)
ونحو ذلك من العبارات، فهذا مرادهم لا سيما إذا حصل هذا الاستغراق في الشهود
كما هو في الوجود، وغلب سلطانه على سلطان العلم، وكان العلم [٢٨] مغمورًا
بوارده، وفي قوة التمييز ضعف، وقد توارى العلم بالشهود، وحكم الحال، فهناك
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، وتزل أقدام كثيرة إلى الحضيض الأدنى، ولا
ريب أن وجود الحق سبحانه ودوامه يستغرق وجود كل ما سواه، ووقته، وزمانه،
بحيث يصير كأنه لا وجود له، ومن هنا غلط القائلون بوحدة الوجود، وظنوا أنه
ليس لغيره وجود البتة، وغرهم كلمات مشتبهات جرت على ألسنة أهل الاستقامة
من الطائفة فجعلوها عمدة لكفرهم وضلالهم، وظنوا أن السالكين سيرجعون إليهم،
وتصير طريقة الناس واحدة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: ٣٢) .
وقوله: (وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي) يريد أن الحق سابق [٢٩]
على الاسم [٣٠] الذي هو الوقت، أي هو منزه عن أن يُسمى بالوقت، فلا ينبغي
إطلاقه عليه، لأن الأوقات حادثة.
قوله: لكنه اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفًا لا
وجودًا محضًا تلاشي الرسوم اضمحلالها وفناؤها، والرسوم عندهم ما سوى الله،
وقد صرح الشيخ أنها إنما تتلاشى في الكشف، لا في الوجود العيني الخارجي،
فإن تلاشيها في الوجود خلاف الحس والعيان، وإنما تتلاشى في وجود العبد الكشفي
بحيث لا يبقى فيه سعة للإحساس بها لما استغرقه من الكشف، فهذه عقيدة أهل
الاستقامة من القوم.
وأما الملاحدة أهل وحدة الوجود، فعندهم أنها لم تزل متلاشية في عين وجود
الحق، بل وجودها هو نفس وجوده، وإنما كان الحس بين الوجودين فلما غاب عن
حسه بكشفه تبين أن وجودها هو عين وجود الحق؛ ولكن الشيخ كأنه عَبَّر بالكشف
والوجود عن المقامين اللذين ذكرهما في كتابه، والكشف هو دون الوجود عنده،
فإن الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه فليس معه استغراق في الفناء
والوجود لا يكون معه رسم باقٍ، ولذلك قال (لا وجودًا محضًا) فإن الوجود
المحض عنده يُفني الرسوم، وبكل حال فهو يفنيها [٣١] من وجود الواجد لا يفنيها في
الخارج.
وسر المسألة الواصل إلى هذا المقام يصير له وجود آخر غير وجوده الطبيعي
المشترك بين الموجودات، ويصير له نشأة أخرى لقلبه وروحه نسبة النشأة
الحيوانية إليها كنسبة النشأة في بطن الأم إلى هذه النشأة المُشَاهَدَة في العالم،
وكنسبة هذه النشأة الأخرى.
فللعبد أربع نشآت: نشأة في الرحم حيث لا بصر يدركه، ولا يد تناله،
ونشأة في الدنيا، ونشأة في البرزخ، ونشأة في المعاد الثاني [٣٢] ، وكل نشأة أعظم
من التي قبلها، وهذه النشأة للروح والقلب أصلاً، وللبدن تبعًا، فللروح في هذا
العالم نشأتان: (إحداهما) الطبيعية المشتركة (والثانية) نشأة قلبية روحانية يُولَد
لها قلبه، وينفصل من مشيمة طبعه، وكما وُلد بدنه، وانفصل من مشيمة البطن،
ومن لم يصدق بهذا، فليُضرب عن هذا صفحًا، وليشتغل بغيره. وفي كتاب الزهد
للإمام أحمد أن المسيح - عليه السلام - قال للحواريين: إنكم لن تلجوا ملكوت
السماء حتى تُولَدُوا مرتين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول:
هي ولادة الأرواح، والقلوب من الأبدان، وخروجها من عالم الطبيعة كما وُلِدَت
الأبدان من البدن، وخرجت منه، والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة، والله
أعلم.
قوله: (وهو فوق البرق والوجد) يعني أن هذا الكشف الذي تلاشت فيه
الرسوم فوق منزلتي البرق والوجد؛ فإنه أثبت وأدوم، والوجود فوقه لأنه يشعر
بالدوام، قوله: (وهو يشارف مقام الجمع لو دام) أي لو دام هذا الوقت لشارف
مقام الجمع، وهو ذهاب شعور القلب بغير الحق سبحانه شُغلاً به عن غيره، فهو
جمع في الشهود، وعند الملاحدة هو جمع في الوجود، ومقصوده أنه لو دام الوقت
بهذا المعنى الثالث لشارف حضرة الجمع لكنه لا يدوم.
قوله: (ولا يبلغ وادي الوجود) يعني أن الوقت المذكور لا يبلغ السالك فيه
وادي الوجود حتى يقطعه، ووادي الوجود هو حضرة الجمع، قوله: (لكنه يلقي
مؤنة المعاملة) يعني أن الوقت المذكور، وهو الكشف المشارف لحضرة الجمع
يخفف عن العامل أثقال المعاملة من قيامه بها أتم القيام، بحيث تصير هي الحاملة،
فإنه كان يعمل على الخبر فصار يعمل على العين، هذا مراد الشيخ، وعند الملحد
أنه يفنى عن المعاملات الجسمانية، ويَرُدّ صاحبه إلى المعاملات القلبية، وقد تقدم
إشباع هذا المعنى.
قوله: (ويصفي عن المسامرة) المسامرة عند القوم هي الخطاب القلبي
الروحي بين العبد وربه، وقد تقدم أن تسميتها بالمناجاة أولى، فهذا الكشف يخلص
عن المسامرة من ذكر غير الحق سبحانه ومناجاته.
وقوله: (ويشم رائحة الوجود) أي صاحب مقام هذا الوقت الخاص يشم
روائح الوجود وهو حضرة الجمع؛ فإنهم يسمونها بالجمع والوجود، ويعنون بذلك
ظهور وجود الحق سبحانه وفناء وجود ما سواه. وقد عرفت أن فناء وجود ما
سواءه بأحد اعتبارين: إما فناؤه من شهود العبد فلا يشهده، وإما اضمحلاله
وتلاشيه بالنسبة إلى وجود الرب، ولا تلتفت إلى غير هذين المعنيين فهو إلحاد
وكفر والله المستعان.
((يتبع بمقال تالٍ))