للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المطبوعات الحديثة
(كتاب حاضر العالم الإسلامي)
لو كان المسلمون يُعنون بمعرفة شئون أنفسهم، ويبحثون عن أسباب تغييرهم
لما كان بأنفسهم من عقائد وفضائل ومعارف، وما أعقبها من تغيير الله تعالى
ما كان بهم من نعم السيادة والسلطان والعزة والقوة كما يعنى بذلك علماء
الإفرنج - لما وصلوا إلى هذه الدركة من الضعف والهوان.
قد أتى على الشعوب الإسلامية قرون متتابعة وهم يتدهورون من قنة إلى هوة،
كما تتدهور الجلاميد من شماريخ الذرى، لا ندري من حطها من علٍ إلى أسفل،
وتتحول من عزة إلى ذلة، ولا تعلم لم تتحول.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: ١٧٩) فقد قيض بفضله للمسلمين من يوقظهم من سباتهم، ويرشدهم
إلى تغيير ما بأنفسهم الآن من أسباب التردي على علم وبصيرة، كما غيروا من
قبل ما كان بأنفسهم من أسباب الترقي عن جهل وغفلة، ولكن طرأت عليهم في
أثناء هذا الإيقاظ فتنة التفرنج فلبستهم شيعًا، وفرقتهم طرائق قددًا، فقد أفسد ساسة
الإفرنج وملاحدتهم جبلاً كثيرًا من أبناء المسلمين، كانوا أضر عليهم من سائر
أعدائهم في الدنيا والدين، فهم يضلون المسلمين ويخدعونهم عن دينهم ودنياهم، من
حيث يوجد في أحرار الإفرنج من يرشد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم،
بما يعنون به من تمحيص الحقائق في شؤونهم لذاتها، أو ليستفيد أقوامهم منها.
أمامنا الآن ونحن نكتب هذا كتابان يشغلان مسلمي مصر وسيشغلان سائر
البلاد الإسلامية التي يصلان إليها.
(أحدهما) كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي رأى القراء في الجزء
الماضي ويرون في هذا الجزء شيئًا من بيان مفاسده، وأنه لرجل متخرج في
الجامع الأزهر وقاضٍ شرعي في بعض المحاكم المصرية، هو أضر على
المسلمين من كل عدو.
(والثاني) كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وهو لعالم إفرنجي هو أنفع
للمسلمين من كثير من أفرادهم الناصحين، دع متفرنجتهم الملاحدة المفرقين، ألا
وهو العلامة البحاثة (مستر لوثروب ستودارد) الأمريكي الذي زاد به شهرة على
شهرته، ألفه بلغته الإنكليزية وسماه (العالم الإسلامي الجديد) فراج في أمريكة
وأوربة رواجًا عظيمًا، وطبع مرارًا متعددة، ونقل إلى أشهر اللغات الغربية
والشرقية، وقرظه كبار الكتاب، وأعجبوا بدقة بحثه وسعة اطلاع صاحبه.
ونقله إلى لغتنا العربية عجاج أفندي نويهض أحد أبنائها البررة المجيدين لها
وللُّغة الإنكليزية؛ ليُطلع هذه الأمة على أصح ما كتب في وصف حالها، أدق من
عرف من علماء الفرنجة بحثًا عنها، وأعد لهم حكمًا لها وعليها، وأصدقهم قولاً
فيها، وذكر أن المحققين من العلماء الغربيين شهدوا له بهذه الصفات عند تقريظ
كتابه هذا.
ترجم الكتاب وعرض ترجمته على كاتب العصر - كما قال بحق - الأمير
شكيب أرسلان الشهير، وطلب منه أن يكتب له مقدمة تليف به ففعل، بل أجاب
السائل بأكثر مما سأل، وله في ذلك أسوة حسنة [١] ولكنه أربى في الكرم، فوضع
على الكتاب حواشي وذيولاً يصح في وصفها قول العرب: على التمرة مثلها زبدًا،
بل تُربي على صحائف الأصل عدًّا، ولعلها مدت مادته بضعفيها مدًّا، فهي بطولها
واستطرادتها تضاهي الحواشي الأزهرية، ولا غرو فروح الأمير العلمية والأدبية،
أغلب عليه من روحه الاقتصادية والاجتماعية، فإنه لو جعل هذه الحواشي كتابًا
مستقلاً لكان أليق بمقامه وأجدر بإفادتها من جعله إياها تابعة لغيرها، ولكان له
منها ربح مالي يزيد على ربح الكتاب الأصلي، بل ربما زاد عليه موشى وموشحًا
بها أيضًا، فإن أكثرها موضوعات مستقلة بنفسها، وما فيها من إيضاح لبعض
غوامض الكتاب أو استدراك عليه هو أقلها، ولكنه على ما يظهر من معرفته لقدر
نفسه، وعلى ما يقول بعض حساده أو مكبري فضله من إعجابه بها، كثيرًا ما
يهضمها، ويضعها تواضعه دون ما رفع الله من قدرها، ومن ذلك ظنه أن جعل
هذه الحقائق الثمينة ذيولاً لترجمة هذا الكتاب أحرى باستمالة الناس إلى مطالعتها،
كأنه لم يشعر بأنه أشهر من صاحب الكتاب لدى قراء العربية، ولم يستشعر أن
الثقة به في شؤون الإسلام أقوى من الثقة بذاك عند جميع الشعوب الإسلامية،
وغيرهم من الشعوب الشرقية، وكثير من علماء البلاد الغربية وإننا نكتفي الآن
بذكر عناوين فصول الكتاب، وأهم عناوين الحواشي لتعريف قراء المنار
قيمتها.
- أما موضوع الكتاب ومواده فهي مودعة في مقدمة وتسعة فصول وخاتمة لا
يستغني مسلم يهمه أمر أمته وملته عن الاطلاع عليها.
المقدمة (في نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه) وقد أنصف فيها الإسلام
بالثناء عليه، وبيان أصول الإصلاح والهدى المودعة فيه، فتكلم في ذلك كلام عليم
خبير منصف، وبين ما أصاب المسلمون بهدايته وما أصابهم بتركها وأسباب
الارتقاء وأسباب الانحطاط في الحالين بما تعطيه فلسفة التاريخ وأصول علم
الاجتماع للمطلع على تاريخ الإسلام القديم والحديث، والواقف على عقائده وآدابه
بالإجمال.
ولكن كلامه فيها لم يسلم من الخطأ في مسائل يتوقف تحقيق الحق فيها على
علم استقلالي واسع في العقائد الإسلامية والفرق المختلفة فيهم، فهو على إدراكه
لطهارة العقائد والآداب الإسلامية وموافقتها للفطرة البشرية والعقل السليم، ولعدالة
التشريع الإسلامي وإصلاحه اللذين جحدهما الشيخ علي عبد الرازق - ولكون
العرب كانوا أجدر الشعوب بفهم تلك المزايا لحريتهم وطباعهم السليمة غير
المضطربة بتقاليد الأديان التي كان قد أفسدها الزمان - وعلى جعله هذين الأمرين-
التعاليم الإسلامية والفطرة العربية - هما الأساس والعلة الأولى لنجاح الإسلام
ومدنيته , وعلى إدراكه أن الأعاجم المبلبلة قلوبهم وعقولهم بالتقاليد الموروثة لم
يفهموا الإسلام كما فهمه العرب، وأن تغلبهم على الخلفاء وسلبهم لسلطان العرب
كان علة العلل للانحطاط الذي تلا ذلك بالارتقاء , هو على إدراكه لكل ما ذكر - قد
اختلط عليه الأمر عند المقابلة بين أهل السنة ومتبعي النقل، والمعتزلة الذين
حكموا العقل.
علم أن الإسلام دين العقل والفطرة، فظن أن المعتزلة الذين أرجعوا كل شيء
في الدين إلى أصول العقل هم الذين استمسكوا بجوهر الإسلام ولبابه الصحيح،
وأن خصومهم المحافظين الذين ذهبوا إلى أن النقل والسنة مقياس كل شيء في
الدين، هم الذين جهلوا جوهر الإسلام، وظن أن الذين دخلوا في الإسلام، وقد
أشربوا في قلوبهم الدين البيزنطي القديم (وأمثالهم من الذين فهموا الإسلام بمرآة
أديانهم وتقاليدها؟) قد كانوا من زمرة أهل السنة والنقل؛ لما اعتادوا من التقليد،
وأنهم هم الذين أولوا القرآن والأحاديث النبوية تأويلات بعدت بها عن سهولتها
وبساطتها قال: (فنتج من ذلك أن أصيب الإسلام بمثل ما أصيبت به النصرانية
في الأجيال المظلمة، من تلبيس الدين عقائد غير عقائده، ونسبة الآراء الدينية
الجافة إليه وهو براء منها، فلا غرو إذا اشتد الخلاف واتسعت شقته وطال عهده
بين الذين اعتصموا بالسنة والنقل، فقاسوا عليهما، وبين الذين جعلوا العقل نفسه
مقياسًا لكل شيء) .
ثم زعم أن عقيدة السنة هي التي غلبت على العقل كما كان متوقعًا، وأن
تاريخ السنة والتقاليد إنما هو تاريخ السير نحو أدوار الاستبداد وعواقبه المشؤومة.
لم يفرق المؤلف بين السنة والنقل في الإسلام وبين التقاليد في الأديان الأخرى
وهي عبارة عن العقائد والشعائر الموروثة عن الآباء والرؤساء والمعلمين، والحق
الواقع أن كل ما ذكر من الفساد في الإسلام إنما كان من بدع الذين حكموا عقولهم
أي آراءهم النظرية في الدين، وأنهم هم الذين حولوا الإسلام عن بساطته المعقولة
الموافقة للفطرة، وهم الذين كانوا السبب في إدخال البدع وضلالات الأديان القديمة
وسخافاتها وخرافات الوثنية في الإسلام بالشبهات النظرية التي سموها دلائل عقلية،
والأقيسة الشيطانية فيما لا مجال للقياس فيه من عقائد الدين التي لا مأخذ لها إلا
الوحي، ومن الأحكام الثابتة بالنص.
أهل السنة والجماعة هم الذين كانوا يجمعون قداسة الدين وسهولته من تطرق
بدع الأديان والآراء الفلسفية والشعرية إليها، لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم
أمته منها، فمنهم من منع القياس في أمور الدين مطلقًا، ومنهم من قال: إن القياس
جائز في غير الأمور الاعتقادية والتعبدية، وقصره بعضهم على الأحكام القضائية
والمدنية والسياسية.
وكان من بدع المعتزلة دعوتهم إلى القول بخلق القرآن، وحملهم بعض خلفاء
العباسيين الذين اتبعوا نحلتهم بحمل المسلمين على ذلك بالقهر والاضطهاد، وقد
آذوا به خلقًا كثيرًا من أهل السنة من أجلهم قدرًا إمام الأئمة أحمد بن حنبل - رضي
الله عنه - فقد ضربوه ضربًا مبرحًا، وداسوه بأرجلهم ليقول بقولهم، فامتنع أن
يقول: هو مخلوق أو غير مخلوق، احتجاجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لم يأمروا بذلك ولم يقولوا به، فيسعنا ما وسعهم، ولا نعرف ديننا إلا
عنهم، ولو أجزنا مجاوزة نصوص الوحي وتفسير السنة له بآرائنا العقلية تزول
الوحدة ونتفرق شيعًا كما تفرق من حذرنا الله أن نكون مثلهم.
ومبتدعة الشيعة الفاطميين، بل زنادقة الباطنيين كانوا يعتمدون في ترويج
بدعهم على الفلسفة اليونانية، وهم الذين ابتدعوا في مصر احتفالات الموالد التي لا
تزال مشوهة للإسلام وسبة للمسلمين، والإسلام بريء منها، وملوك الأعاجم
وأمراؤهم هم الذين ابتدعوا جعل القبور مساجد، وكانوا سبب تقديس الجاهلين لها
بل عبادتهم إياها، كما فعل أهل الكتاب قبلنا، وحذرنا نبينا من فعلهم، إذ قالت
السيدة عائشة - رضي الله عنها - في سبب لعنه صلى الله عليه وسلم للذين اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد: يحذر ما صنعوا - كما في صحيح البخاري، ولا يزال
المدافعون عن هذه البدع يحتجون لها بنظريات يسمونها عقلية كوجود الأرواح،
وجواز قضائها أو حملها الخالق تعالى على قضاء الحاجات، ولا يوجد دليل نقلي
علي شيء من هذه البدع والخرافات.
من الأسف أن البدع التي يسمونها نظريات عقلية هي التي غلبت على السنة
حتى أفسدت على المسلمين دينهم ودنياهم خلافًا لما قاله المؤلف، ولو اتبع الناس
الإمام أحمد وأمثاله لما زادوا في الدين شيئًا ولا نقصوا منه شيئًا، ولصرفوا ذكاءهم
وجهدهم في العلوم والفنون الكسبية التي تفيدهم وترفع شأنهم، ولم يخلطوا بالدين ما
ليس منه.
ألم تر أن مؤلف الكتاب يعد الدعوة الوهابية إصلاحًا في الدين وإرجاعًا له إلى
أصله الطاهر، وهل الوهابية إلا الوقوف بالدين على صراطه المستقيم. الكتاب
والسنة الصحيحة - ورد جميع ما ابتدع فيه سواء استحسنته العقول أم لا، وهل
للعقول قاعدة أو حد تقف عنده في هذه الأمور؟ أليس لعباد الأوثان فلسفة دينية،
وشبهات نظرية يسمونها دلائل عقلية؟ بلى، ويكفينا هذا في بيان غلط المؤلف في
هذه المسألة.
ولنعد إلى موضوعات الكتاب فنقول:
الفصل الأول في اليقظة الإسلامية. وهو في الجزء الأول.
الفصل الثاني في الجامعة الإسلامية. وهو في الجزء الأول.
الفصل الثالث في سيطرة الغرب على الشرق. ج ٢.
الفصل الرابع في التطور السياسي. وهو في الجزء الثاني.
الفصل الخامس في العصبية الجنسية. وهو في الجزء الثاني.
الفصل السادس في العصبية الجنسية في الهند. وهو في الجزء الثاني.
الفصل السابع في التطور الاقتصادي. وهو في الجزء الثاني.
الفصل الثامن في التطور الاجتماعي. وهو في الجزء الثاني.
الفصل التاسع مع الخاتمة في القلق الاجتماعي والبلشفية.
وأما موضوعات حواشي الأمير شكيب أرسلان فهي في بيان أحوال مسلمي
العصر العامة الحديثة وبعض القديمة، تكلم عن مسلمي الصين وجاوة وما جاورها
والهند ومسلمي الروسيا في عهد البلشفية الحاضر وشرقي أفريقية والحبشة
وماداغسكر وجزائر القومور وريف المغرب الأقصى والفلبين.
تكلم عن مسلمي هذه البلاد وغيرها بما يهم كل مسلم يهتم بأمر المسلمين أن
يعلمه، ولا سيما علاقتهم بأوربة ومن سيادتها عليهم ومحاولتها لتنصيرهم، وله في
أذيال الجزء الأول فصول تحت عنوان (الإسلام والجنود السوداء) منها (لمحة
على حالة الإسلام الحاضرة) ومنها فصل في (الإسلام الأسود) وفصل في
(الإسلام عند السنغاليين) ، ويلي ذلك (خلاصة) سياسية لهذه الفصول وما قبلها في
شؤون المسلمين وأوربة، فيها من الحقائق التاريخية والعبر السياسية ما يعز أن
يصدر مثله عن غير الأمير شكيب.
ويليها فصل في (الجنس الأسود والإسلامية) ، ففصل (في الإسلام في
أفريقية) وما يلاقيه من مهاجمة الاستعمار ودعوة النصرانية - ففصل في
(الرسالات البروتستانية في أفريقية) ، ففصل (في نهضة الإسلام في
أفريقية وأسبابها ووسائل دعوتها من سنة ١٧٩٠-١٩٠٠) .
ويلي ذلك الكلام في الطرق الصوفية في أفريقية: القادرية والشاذلية
والتيجانية والسنوسية، ويتبع الكلام في الأخيرة ترجمة بعض كبار شيوخها
وجدول في أسماء زواياها في ست صفحات بالحرف الصغير (جسم ١٢) .
ويلي ذلك فصل في (مجاري الدعوة الإسلامية في أفريقية) ففصل في
(الصراع بين الإسلام والنصرانية، وأيها الغالب في أمر المدنية) ويليه خلاصة لما
تقدم في هذا الموضوع كله.
ومن موضوعات هذه الحواشي والذيول فصول في الإصلاح والمصلحين،
وزعماء الإسلام المجددين، منها الكلام عن الوهابية وزعيمها العلمي الشيخ محمد
عبد الوهاب وزعمائها الأمراء آل سعود (ومنها ترجمة حكيم الإسلام وموقظ الشرق
السيد جمال الدين الأفغاني وشيء من ترجمة الأستاذ الإمام، وأشكر له حسن ظنه
أن قرن اسمي باسم أستاذنا) ومنها ترجمة بطل الإسلام والعرب في هذا العهد
(الأمير محمد عبد الكريم) ، وتراجم زعماء جمعية الاتحاد والترقي التركية: أنور
باشا وطلعت باشا وجمال باشا إلخ.
وكلام عن بعض الفرق والطرق القديمة والحديثة كالمعتزلة والخوارج
والبكطشية والبابية والبهائية والاشتراكية والبلشفية والأحمدية القاديانية.
وجملة القول أن مؤلف هذا الكتاب من أعلم كتاب الفرنجة بشؤون المسلمين،
فإن لم يكن أعلمهم بها فهو أجدرهم بتحري الحقيقة وبيانها، وإن واضع الحواشي
والذيول التي هي كتاب آخر هو أجدر كتاب العرب بالجمع بين تاريخ الإسلام
والمسلمين وبين علاقة أوربة بهم وسياستها فيهم، وأقدرهم على بيان ذلك
وأحرصهم على النصح فيه، نعم إنه يوجد من يساويه ومن يفوقه في بعض فروع
هذا التاريخ وشعب هذه المسائل، ولكنا لا نعرف أحدًا يضاهئه في معرفة جملتها
وتفصيلها، ولا في مزية حسن البيان لها، وقد بلغنا أنه طالع وراجع عند كتابة هذه
الحواشي عشرات من الكتب الحديثة التي ألفت بأشهر اللغات الأوربية، ولم يعتمد
على حفظه واختباره، فقد اجتمعت في هذا الكتاب خلاصة معارف الغرب والشرق
الخاصة بحال المسلمين السياسية والدينية والاجتماعية الحاضرة والمستقبلة، فهو
يغني في بابه عن كثير من الكتب والجرائد والمجلات وهي لا تغني عنه، وسننقل
للقراء بعض النماذج منه.
طبع الكتاب بالمطبعة السلفية بمصر (سنة ١٣٤٣) على ورق جيد بنوعين
من أصغر حروف الطبع، فالأصل بحرف ١٨ والحواشي والذيول بحرف ١٢،
فدخل في جزئين يزيد كل منهما على ٤٠٠ صفحة، وثمن النسخة منهما مجلدة
بالقماش المتين ٨٥ قرشًا من الورق الجيد، و٦٠ من ورق دونه، وهو يطلب من
مكتبة المنار، ومن مكتبة المعارف بمصر، ومن طلب إرساله بالبريد فليرسل
أجرته وهي خمسة قروش صاغ.
***
(الإسلام وأصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام)
كتاب جديد ألفه الشيخ علي عبد الرازق الحامل لشهادة العالمية من الجامع
الأزهر وأحد قضاة المحاكم الشرعية، حاول فيه أن يثبت أن الإسلام ليس له
حكومة ولا دولة ولا سياسة ولا قضاء، وأنه لا ينبغي أن يكون له ذلك، وأن ما
ورد في القرآن الحكيم والسنة النبوية من الأحكام القضائية، والمعاملات السياسية
والحربية كان تنفيذه والحكم به خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، من حيث إنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لم يكلف المسلمين أن يلتزموا تلك
الأحكام من بعده، وليس لأحد من أمته أن يخلُفه في إقامة حدود الله وتنفيذ أحكام
شريعته، وانتحال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للقب خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان باطلاً، وإن اتفق عليه العلماء وأهل الحل والعقد من
الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم ما فعلوا ذلك إلا خدعة سياسية؛ لإخضاع
العرب وغير العرب لملكهم، وأن حكومتهم كانت في الواقع ونفس الأمر لا دينية،
وأن كل ما قاله المسلمون في الخلافة الإسلامية والحكومة الدينية باطل لا يقوم عليه
دليل، وإنما يقوم الدليل على أنه لا بد للناس من حكومة مهما يكن شكلها ولو
اشتراكية بلشفية، وأن حكومة الخلافة كانت شرًّا وإذلالاً للمسلمين، وخلاصة
الكتاب أن المسلمين ليس لهم تشريع إسلامي سياسي ولا مدني ولا قضائي، وأن
الدين ترك لهم ذلك ليرجعوا فيه إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، فيباح لجميع
المسلمين ولكل شعب منهم أن يختار لنفسه ما شاء من أنواع الحكم إلا شكل الخلافة
والنيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة ما ورد في الكتاب والسنة، وما
جرى عليه الخلفاء الراشدون من الحكم الإسلامي.
فهذا الكتاب شر مما كتب جميع أعداء الإسلام لهدم الإسلام وتمزيق شمل
جامعته الدينية والدنيوية، يدعو المسلمين إلى الارتداد عن دينهم، ويبيح لهم
عصيان الله تعالى ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه، وتوعدا على عصيانه بعذاب
الله تعالى , فهو مخالف لما لا يُحصى من النصوص القطعية المجمع عليها المعلومة
من الدين بالضرورة، ولا خلاف بين أحد من المسلمين في كفر من يجحد شيئًا من
ذلك، وقد كتبت أربع مقالات في التفنيد الإجمالي لهذا الكتاب، نشرت الأولى منهن
في الجزء الماضي، وهي ما كتبته قبل قراءة الكتاب كله، وضاق هذا الجزء عن
نشر شيء آخر منها.
يقول مؤلف هذا الكتاب أنه ألفه في مدة عشر سنين متقطعة لا متصلة؛
وذلك لأنه حاول إبطال الحق الصريح الذي هو أوضح من الشمس ببعض التخييل
الشعري والسفسطة، فتكلف كثرة التفكير في الشبهات التي تقيه ما هو متوقع له من
التكفير، وكان جل مادته فيه بعض كتب الإفرنج التي كتبوها في الخلافة، وكتاب
(خلافت وحاكميت ملية) الذي كتبه بعض علماء الترك لإقناع مسلميهم بما فعلته
حكومة أنقرة الجمهورية من إلغاء الخلافة والفصل بين الدين والحكومة، ومن
بعض كتب التاريخ والأدب والكلام، ومن العجيب أن يكون من مادته مع ما ذكر
مثل كتاب الأغاني وكتاب العقد الفريد، ولم يكن منها صحيح البخاري ولا صحيح
مسلم، ولا موطأ مالك، ولا مسند أحمد، ولا شيء من كتب السنن! وماذا يفعل
بالصحاح والسنن من يريد هدمها والاستغناء بكتب الإفرنج عنها؟
قامت قيامة علماء الأزهر وغيرهم من أهل الدين احتماء على المتجرئ على
هذه الضلالة والإهانة للإسلام والمسلمين كافة، وقام في تجاههم بعض الإفرنج
والملاحدة والمرتدين ينصرون داعيتهم ويناضلون دونه، وكان لسان حماة الإسلام
جريدة (اللواء والأخبار) الإسلامية، ولسان أنصاره وحماته جريدة (السياسة)
وبعض الجرائد الإفرنجية، والتزم بعض الجرائد العربية الحياد، واختار بعضها
الذبذبة والنفاق، وإنما تكأة أنصاره في الدفاع عنه ما يسمونه (حرية الرأي)
ولكنهم يحتكرون هذه الحرية له ولأنفسهم، ويحرمونها على رجال الدين،
فالمدافعون عن الإسلام والمبينون لحقيقته يتهمون عندهم بالاعتداء على حرية الرأي
المقدسة في القانون، وأما المهاجم للإسلام الداعي لهدم تشريعه، المهين لجميع
المسلمين من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين فله عندهم أن
يقول ما يشاء فيهم، وليس لهم أن يقولوا فيه شيئًا! !
ولم أقرأ له ولأنصاره مقالة ولا عبارة في إثبات شيء من مقاصد الكتاب ولا
في تخطئة شيء مما فنده المنتقدون منها، لم يتجرأ أحد ممن قرأت كلامهم على ذلك
إلا محامٍ اسمه (أحمد مصطفى) قال أنه قرأ الكتاب كله، وأنه مؤمن بما فيه،
وبأنه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: ٤٢) فهو عنده قد
سلب القرآن ما وصفه الله تعالى به من عصمته، ولا يمكن أن يريد أنه شاركه في
هذه الصفة؛ لأنه مخالف له وناقض لجميع أحكامه السياسية والمدنية والشخصية،
فإذا كان القرآن هو الحق المعصوم من الباطل كما وصفه الله تعالى فلا يمكن أن
يكون مخالفه - ككتاب الشيخ علي عبد الرازق - إلا باطلاً، فأيهما يختار ذلك
المحامي.
وقد طبع الكتاب سنة ١٣٤٣ بمطبعة مصر على ورق جيد بشكل جميل في
صورته ووضعه بقدر ما هو قبيح في معناه وموضوعه، وبيعت النسخة منه بعشرة
قروش، والظاهر أن نسخه نفدت بكثرة الخوض فيه مع قلة المطبوع منه، فإنه
ألف نسخة فقط.