للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجامعة الإسلامية والسياسية

(جمعية إسلامية. مدرسة جامعة بالمدينة المنورة. استغلال الحجرة النبوية)
نجدد الخوض في ذكر الجامعة الإسلامية بما ظهر أخيرًا من عناية جمعية
الاتحاد والترقي بالاستفادة من نفوذ الدولة الديني؛ لِما ظهر لها من تأثير الدين في
السياسة، وضرر ما كان من إعراضها عنه، ومن اهتمام مسلمي الأرض كافة
بحرب طرابلس، وحرب البلقان، وبذلهم المال لإعانة الدولة على الحرب بقدر
الإمكان، ومطالبة مسلمي الهند لدولتهم البريطانية بمساعدتها، واستيائهم من ميلها
للبلقانيين، ففي أثناء الحرب ألّفوا في الآستانة جمعية إسلامية خيرية تحت رياسة
أو رعاية ولي عهد السلطنة. وكان أول من بذل المال لتأسيسها بعض وجهاء
المصريين، ويرجون أن يجمعوا لها مالاً جمًّا، وإن لم يعرف العالم الإسلامي أين
ذهب هذا المال وكيف ينفق؟
***
المدرسة الجامعة بالمدينة
وأذاعوا في الأقطار خبر تأسيس مدرسة جامعة في المدينة المنورة ويعبر عنها
الترك باسم (دار فنون) ثم أرسلوا وفدًا إليها في أثناء زيارة الحجاج لها للاحتفال
بالشروع في تأسيس هذه المدرسة المسوِّغ لفتح باب الإعانات لها. ونحن ننتظر أن
نرى نظم هذه المدرسة لنعلم هل موضوعها دار فنون جامعة لكل الفنون والعلوم العالية
كما يفهم من هذه التسمية أم لا، ولنعلم أي اللغات تكون لغة التعليم فيها؟ هل هي
العربية أم التركية؟ ومن أين يأتون بالتلاميذ الذين تلقوا التعليم الابتدائي والثانوي
ليدرسوا فيها الفنون والعلوم العالية؟ وليس في المدينة ولا في الحجاز شيء من هذا
التعليم، ولا نبحث عن المعلمين والكتب قبل أن نعرف لغة التعليم، فإن نظارة
المعارف العثمانية تعتذر عما نطلبه من جعل التعليم في ولايات بالدولة العربية بلغة
أهلها، وأظهر أعذارها عدم وجود الكتب والمعلمين. وقد أذاعت الجرائد من
بضعة أشهر أن النظارة ألفت لجنة فيها لأجل اختيار الكتب العربية الصالحة.
وعلمنا أنها طلبت نموذجًا من كتب التعليم التي تقرأ في المدارس المصرية
الأميرية فأرسل إليها. وإلى الآن لم نر لعمل اللجنة أثرًا يُذكر. وإذا كانوا يريدون التعليم في المدينة باللغة التركية فإن لنا في ذلك كلامًا آخر.
نقول هذا ونحن لا نعقل؛ فلا نصدق أن حكومتنا توجد في المدينة المنورة
مدرسة جامعة. ونرى ذلك غير مستطاع إن كان مرادًا، ولا نظن أنه مراد؛ ولكنها
قد تبني بناء فخمًا تسميه مدرسة جامعة، وتجلب إليه بعض الطلاب من بلاد مختلفة،
فيُعْطَون دروسًا ابتدائية أو فوق الابتدائية، حسب استعداد من يحضر، ثم تستندي
أكفّ أغنياء الحجاج وغيرهم لأجل ترقية المدرسة كما تستنديها الآن لأجل تأسيسها
بإعاناتهم. وأمّا كون المراد من هذه المدرسة بث فكرة الجامعة الإسلامية في نفوس
المسلمين - كما قالت الجرائد في هذه الأقطار وفي غيرها - فالظاهر أن السياسة
الاتحادية الأخيرة تودّ إذاعة هذا المعنى عنها، وتحض الذين يتولون إنشاء
المدرسة الآن على إقناع زوار المدينة المنورة وغيرهم بأن جمعية الاتحاد والترقي
تخدم الدولة والإسلام، وأنه يجب أن تساعد على ذلك بما يستطاع من النفوذ والمال،
وقد علم هذا من حال من اختارتهم الجمعية للشروع في العمل، ومن الاحتفال
الذي كان في المدينة المنورة، ومن حال المندوب الذي بقي هنالك بعد الاحتفال
(وهو الأمير شكيب أرسلان أحد أدباء طائفة الدروز في جبل لبنان) الذي كتب
الشعارات بل المئات من المقالات في إطراء الجمعية والطعن في طلاب الإصلاح
من العرب للبلاد العربية. أما الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس لجنة ذلك الاحتفال
في المدينة المنورة ورفيقه عبد القادر أفندي المغربي فهما من غلاة أنصارها الذين
ثبتوا على خدمتها في الإقبال والأدبار، على اختلاف المظاهر والأطوار، ومن كان
هذا شأنه معها فيما رجعت عنه من سياستها القديمة، فكيف لا يكون كذلك في
سياستها الجديدة؟ !
أما أنا فأتمنى لو توجد مدرسة جامعة في المدينة المنورة، أو مدرسة ما مهما
كانت درجتها، ومهما كان الغرض من إنشائها، فإذا لم تكن كما نحب اليوم، فإننا
نرجو أن تكون كما نحب غدًا، ولهذا لم أكتب كلمة تحذير منها في المقالات التي
أنحيت بها على أعمال الجمعية، أيام كان الخلاف بينها وبين قومنا العرب على
أشده، حتى إنني عدت كما كنت في عهد عبد الحميد لا آمن على نفسي أن أحج
بيت الله الحرام، أو أزور حرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت تتمثل لي هذه
المدرسة عند سماع خبر العزم عليها كمسجد الضرار. وقد دخل قومنا معها الآن في
طور جديد تمنينا فيه بكل ما نطلب من الإصلاح، والله المسؤول أن تصدق الأماني
وتحصل الآمال.
وأما رأيي الذي أنصح به للدولة، فهو أن تصدي رجالها السياسيين لتحريك
أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون
هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها - من أسباب ما نراه من
شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرره الإمام الغزالي
في الإحياء: (كن يهوديًّا صِرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) .
ومرادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين:
(الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية، خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية،
إلا ما كان من النظام، الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام،
وتعطي مقام الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام، وإقامة الحدود وحرية أهل
الأديان، ولا يعجزها حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم
أهواء سياسية، ولا ضلع مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليه منه
الآن إن شاءته. ولو كان لي رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي، أو جعله محل النظر
والبحث، لبينت ذلك بالتفصيل، ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي
تتعرض في طريق تنفيذه من داخلية وخارجية مع بيان المخرج منها، ثم ما يترتب
عليه من تجديد حياة الدولة، وكونه هو المنجي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير
من الناس أنه هو المسرع بالخطر، ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة
إذا علمت بأنها شرعت بنهضة إسلامية؛ لعلمها بأنها هذه هي حياتها الحقيقية،
وكون حياتها بهذا هو ما يصرح به بعض أحرار الأوربيون [١] وإنْ خوف منه
بالتمويه والإيهام أكثر السياسيين.
(الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور التدين
إلى الجمعيات الدينية الحرة، والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها
أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانات المالية من
أوقاف المسلمين الخيرية، (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تجب
طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع إبقائهم بمعزل عن
السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لما اشترطت على رجال الدولة وجمعية
الاتحاد - إذ عرضت عليهم مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة
لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة، بل تكون
نفقاتها مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين
الخيرية {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: ٤٤) .
***
استغلال الحجرة النبوية
بلغنا - والعهدة على الرواة - أن بعض المنافقين الذين يتقربون إلى
(جمعية الاتحاد والترقي) باسم الدين، واستنباط الوسائل منه إلى استخراج المال من
جيوب المسلمين، قد زينوا لها أن تتخذ دفترًا تضعه في حجرة المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وتذيع في العالم الإسلامي كله أن من أراد أن يكتب اسمه في هذا الدفتر،
الذي وضع لدى قبر الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - فليبذل قطعة
من النقود الذهبية (كالجنيه الإنكليزي أو الليرة العثمانية) ونحن ننصح للدولة أو
الجمعية بأن تردّ هذا الاقتراح ولا تنفذه، مهما زينه المنافقون ووسعوا دائرة الأمانيّ
فيه، وأوهموها أن السواد الأعظم من المسلمين يقبلونه، ظانّين أنه يجعلهم
معروفين عند نبيهم - صلى الله عليه وسلم - محبوبين لديه، مقبولين عنده، وأنه
يمكن لمن يدعوهم إلى البذل أن يقول لهم: إنه صلى الله عليه وسلم ينظر في هذا
الدفتر كل يوم، ويقرأ هذه الأسماء ويدعو لأصحابها بخير.
هذه بدعة قبيحة لا نظن أن رجال الاتحاد يقبلون فيها قول المنافقين، أو
يحتاجون إلى نصح الناصحين، وهي على كونها حدثًا وبدعة في مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم، وعبثًا بالدين، تخل بتعظيمه وتكريم مقامه صلى الله عليه
وسلم وقد لعن من أحدث حدثًا في مسجده (وسيأتي الحديث فيه) وكذا في مدينته
وما حولها: روى الشيخان في صحيحيهما وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال:
ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور [٢] فمن
أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل
منه صرف ولا عدل) الحديث.
لا يعجز أصحاب الجرأة من المنافقين أن يقولوا: إن استغلال حجرة
المصطفى وقبره صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الدفتر لا يعد حدثًا ولا بدعة، لأنه
وسيلة إلى مساعدة الدولة على خدمة الدين (مثلاً) ويمكن أن يتقي فيه الكذب في
الدين وإيهام الباطل والكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يكون
توسلاً باسمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أكل أموال الناس بالباطل.
ولكن أنصار السنة أنهض حجة وأقوم قيلاً، فلا يعجزهم أن يظهروا الدلائل
وآثار السلف التي تدحض هذه الشبهات، وأن يبينوا للناس أن كل بدعة حدثت في
الإسلام قد موهت بمثل هذا التمويه، وادَّعى محدوثها أنهم يخدمون بها الدين، كما
بينه الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام.
وإنني أنقل هنا أثرًا واحدًا من آثار السلف الصالح في التوقي من إحداث شيء
في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مدينته حذرًا من لعنته. نقل الشاطبي في
بيان كون المبتدع ملعونًا ما يأتي:
قال أبو مصعب صاحب مالك: قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلَّى
ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا -
وكان قد صلى خلف الإمام - فلمّا سلّم قال: مَن هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان،
فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له: إنه ابن مهدي [٣]
فوجه إليه وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف،
وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.
(قال الشاطبي) : وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن؛
خوفًا من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟ اهـ.
(ونقول) : فما ظنك ببدعة وحدث في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
يتبعها الكذب عليه، وأكل أموال الناس باسمه، والزيادة في الدين الذي جاء به،
ولو لم يكن في ذلك من الزيادة في الدين إلا إحداث قربة جديدة، وعبادة مخترعة،
هي التقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بكتابة أسماء الناس في
دفتر هنالك - لكفى، فإن قالوا: إننا لا نعده قربة ولا سببًا للثواب. قلنا: إذًا هو
غشٌّ واحتيال، لأجل سلب الأموال، فإن من يعلم أن كتابة اسمه لا تقربه إلى
الله ورسوله لا يدفع المال لأجلها.. هذا ولولا الإخلاص في النصيحة لله ولرسوله
وللدولة لما كتبت هذا قبل إحداث هذا الحدث المقترح، والله عليم خبير.