للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحاديث في الوقف

نشر المقطم في الشهر الماضي مقالةً بإمضاء (عزيز خانكي) بحث فيها
كاتبها في الوقف والمحاكم الشرعية وزعم أن الوقف ليس من الدين الإسلامي في
شيء واستدل على ذلك بعدم ورود شيء في مشروعيته في القرآن الشريف أو في
السنة، قال: (إلا حديثًا واحدًا في كتاب ابن ماجه) وقد كتبتُ نبذة في بيان نقض
زعمه هذا نُشرت في المقطم أيضًا ذكرت فيها أنه ورد في الوقف عدة أحاديث
رواها الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه الذي اعترف
به الكاتب دون غيره لعدم اطِّلاعه على كتب الحديث؛ لأن الصحيحين أوْلى منه
بالذكر إلا أن يكون أراد إيهام الناس أن الحديث محتمل للطعن فيه؛ فإن في سنن
ابن ماجه ما طعن المحدثون في إسناده، وعند ذلك يكون غير طالب للحق، ولا
مقرر له؛ فأحسن ما يحمل عليه زعمه أنه لم يَرَ في الوقف إلا حديث واحد لابن
ماجه هو عدم الاطلاع، وليس هذا طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيُعاب
بعدم الاطلاع على السنة، لا سيّما في هذا الزمن وهذه البلاد التي قلما ترى في
علمائها من يشتغل بالحديث.
وذكرت فيها غير الصحيحين وأصحاب السنن ممن روى أحاديث الوقف كابن
أبي شيبة وعبد الرزّاق والطبراني والطحاوي وابن جرير وابن عساكر.
وقد بلغنا أن عزيز أفندي خانكي قد اعتمد في نفي ما عدا حديث ابن ماجه من
أحاديث الوقف على شيخ مسلم له هوى في ذلك، وأنه عاد إليه بعد ما رددنا قوله
وكلمه في ذلك، وأجابه بأن الحديث واحد وهو مروي في جميع تلك الكتب. ثم
رأيت بعد ذلك مقالة أخرى في المقطم لداود بك عمون المحامي الشهير ذكر فيها
مقالة عزيز أفندي، وزعمه أنه لم يَرِد في الوقف إلا حديث واحد، وذكر ردنا عليه
وزعمنا أنه ورد عدة أحاديث وكتب هنا هذه الكلمة (وإن لم يذكرها) فيظهر أن
القوم يظنون أن الحجة تنهض له في عدم مشروعية الوقف إذا ثبت أنه لم يرد فيها
إلا حديث واحد. والصواب أن المشروعية تثبت بحديث واحد إذا كان ثابتًا يحتج به
وزيادة عدد الأحاديث لا يزيد الحكم مشروعية. وإنما ذكرت في الرد على عزيز
أفندي خانكي أسماء المحدّثين الذين رووا أحاديث الوقف، وذكرت أن حديث عمر
قد رواه أحمد والبخاري ومسلم لبيان أن الحديث صحيح وإزالة توهم ضعفه بانفراد
ابن ماجه به. ثم إن كون الشيء من أمور الدين لا يتوقف على ورود شيء فيه
بخصوصه؛ بل يكفي دخوله في بعض النصوص العامة، ولذلك كان وقف أبي
طلحة - رضي الله تعالى عنه - عملاً بعموم قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى
تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: ٩٢) ، وكل عمل يُعمل لأجل التقرب إلى الله
تعالى- بكونه برًا، ويدخل في عموم النصوص التي لا معارض لها - فهو من أمر
الدين. ونذكر هنا بعض ما ورد في وقف أشهر الصحابة ومشروعية الوقف:
(وقف عمر)
عن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله
أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال:
(إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب
ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على
مَن وليها أنْ يأكل منه بالمعروف ويطعم غير متموّل، وفي لفظ: غير متأثل مالاً
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة. وفي حديث عمرو بن دينار قال في
صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقًا له غير متأثل، قال:
وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم،
أخرجه البخاري. وفي رواية له: (تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولا يورث
ولكن ينفق ثمره) ، فما شرط عمر ما شرط إلا بأمر صريح. وجاء هذا أيضًا
مرفوعًا في رواية البيهقي. وفي رواية الدارقطني زيادة: (حبيس مادامت
السموات والأرض) فاشتراط هذه الشروط بأمر الشارع وإجازته دليل على أنها
مشروعة وأنها من أعمال الدين. قال في منتقى الأخبار: وفي الحديث من الفقه أن
من وقف شيئًا على صِنف من الناس وولده منهم دخل فيه. يريد أن ابن عمر من
ذوي القربى على أن المراد بهم قرابة عمر الواقف وهو ما جزم به القرطبي وقيل
إن المراد بهم: مَن له الحق في الخُمس. والولي على الوقف هو ما يسمونه اليوم
(ناظر الوقف) ، وفي رواية ابن أبي شيبة والعدني أن عمر أوصى به إلى حفصة
أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من ولد عمر. أي الأكبر فالأكبر وفيه أن الولاية على
الوقف تكون بعهد من الواقف ولعل عبد الله وليه بإذن حفصة أو بعدها.

(وقف عثمان)
عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وليس بها ماء
يُستعذب غير بئر رومة (بالضم) فقال: (من يشتري بئر رومة فيجعل فيها
دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة) فاشتريتها من صلب مالي.
ذكره البخاري تعليقًا ورواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وفيه جواز
انتفاع الواقف بوقفه العام. أخذ الترمذي ذلك من قوله (فيجعل فيها دلوه مع
دلاء المسلمين) .

(وقفُ عليٍّ)
عن عمرو بن دينار أن عليًا تصدق ببعض أرضه جعله صدقة بعد موته
وأعتق رقيقًا من رقيقه وشرط عليهم أنكم تعملون في هذا المال خمس سنين.
رواه عبد الرزاق في الجامع. وعن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خرج في جيش فأدركته القائلة وهو ما يلي الينبع فاشتد عليه حر النهار فانتهوا
إلى سمرة (شجرة السمر) فعلقوا أسلحتهم عليها وفتح الله عليهم فقسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم موضع السمرة لعَلِيٍّ في نصيبه، قال فاشترى إليها بعد ذلك فأمر
مملوكيه أن يفجروا لها عينًا فخرج لها مثل عين الجزور فجاء البشير يسعى إلى علي
يخبره بالذي كان فجعلها علي صدقة فكتبها صدقة لله يوم تبيض وجوه وتسود
وجوه ليصرف الله بها وجهي عن النار صدقة بتة بتلة في سبيل الله للقريب
والبعيد في السلم والحرب واليتامى والمساكين وفي الرقاب. رواه ابن جرير.
وروى ابن عساكر عن أبي معشر قال: كان علي بن أبي طالب اشترط في صدقته
أنها لذوي الدين والفضل من أكابر ولده. ولعله يعني الولاية عليها.

(وقف أبي طلحة)
عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله إن الله يقول: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: ٩٢) وإن أحب أموالي إلي بَيْرَحاء وإنها
صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال:
(بَخٍ بَخٍ ذلك مال رابح مرتين، وقد سمعت، أرى أن تجعلها في الأقربين) ؛
فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه،
رواه أحمد والشيخان. وفي رواية لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُوا البِرَّ} (آل
عمران: ٩٢) إلخ، قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك
أني جعلت أرضي بيرحاء لله.. إلخ، وفيه أنه جعلها في حسان وأُبَيِّ بن كعب.
وفي رواية أنه قال له: (اجعلها في فقراء أقاربك) . وبَيْرَحاء بفتح الموحدة وسكون
التحتية وفتح الراء تمد وتقصر ومعناها: الأرض المنكشفة.
(وقف جماعة آخرين من أكابر الصحابة)
روى ابن جرير عن محمد بن عبد الله القرشي قال: حبس عثمان بن عفان
والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله دورهم، وهناك روايات أخرى للبيهقي في
وقف أبي بكر وسعيد وعمرو بن العاص وحكيم بن حزام وأنس وزيد بن ثابت،
وصح في وقف المنقول مرفوعًا أن خالدًا احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله.
أما الأصل في الحث والترغيب الصريح من الشارع على الوقف فقد ورد فيه
حديث أبي هريرة المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام (إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، قال العلماء: لو جاز بيع الوقف لما
كانت الصدقة جارية بل لكانت منقطعة. وحديثه أيضًا: (من احتبس فرسًا في
سبيل الله إيمانًا واحتسابًا فإن شبعه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة حسنات)
رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على جواز وقف المنقول وقد فعله بعض الصحابة
كما تقدم.
هذا ما أردنا أن نذكره في توضيح الرد على من زعم أنه لم يرد في الوقف
شيء من الأحاديث إلا حديث ابن ماجه في وقف عمر وقد ذكره مختصرًا. ولو
أردنا أن نذكر مذاهب العلماء وما استنبط من هذه الأحاديث من الأحكام لضاق دون
ذلك المقام.