للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسني عبد الهادي


من الخرافات إلى الحقيقة
(٨)
فوز روح زردشت على روح الإسلام
من المجربات أنه إذا تأصلت عقيدة ما في نفس فرد أو جماعة يتعذر على
معتقدها أو على غيره إزالتها. فإن اتفق أن نُزعت هذه العقيدة، فلا بد أن يبقى
لها آثار في النفس تظهر بين آونة وأخرى بالرغم من الجهد الذي يبذله صاحب
العقيدة ليتناساها. هذا شأن العقائد الدينية، فإن ضُم إليها عقيدة قومية وامتزجت
العقيدتان يتعذر حينئذ إزالة هذه العقيدة المزدوجة.
أضرب مثلاً هؤلاء الإيرانيين أرادوا التأليف بين حاجاتهم الروحية وبين
موجبات تقاليدهم التاريخية وبين مقتضيات الدين الإسلامي فلم يفلحوا. لماذا؟ لأن
زردشت ولد في إيران ونشر مذهبًا ملائمًا لروح الفرس وموافقًا لتقاليدهم التاريخية،
فرسخ هذا الدين في أنفسهم، لأنه جاء موافقًا لحاجاتهم الروحية حتى إن ملك ذلك
العصر (كستاسب) ووزراءه وسائر الطبقات أقبلوا على دين (زردشت) إقبال
العاشق المشتاق؛ لأن روح البلاد كانت تطلب وصايا زردشت فكان معبرًا عما في
ضميرها.
نعم إن العرب ضربوا دولة الفرس في القادسية ضربة زلزلوا بها أركانها،
وقوضوا عمود خيمتها. إلا أن روح إيران بقيت بمعزل عن تلك الضربة، ولم
تتبدل لأن تبديلها محالٌ، حتى إن أحكام الإسلام المنطقية العلوية، لم تستطع فتح
الروح الإيرانية؛ لأن هذه الروح كانت قد اعتادت وألِفَت عقائد أمشاجًا مركبة
ممزوجة بالخيالات والأوهام، فلم تكن أسس الدين الإسلامي البسيطة لتحل محل
تلك الأسس المركبة. روح الإيراني كانت تطلب أحيانًا عبادات مقرونة بمظاهر
العظمة والفخفخة وأحيانًا بمظاهر الحزن المشعشع المعظم، فلذلك كانوا يرون قواعد
الدين الإسلامي كالشيء اليابس غير المرن. وهذا ما تأباه أرواحهم، وتنبو عنه
أذواقهم.
الدين والحكومة كانا يرتكزان على قاعدة واحدة عند الفرس. فلما سقطت
الحكومة سقط الدين معها؛ لأن سقوط القاعدة يقتضي سقوط ما بُنِيَ عليها.
إن إعادة دين (زردشت) كانت في نظر الإيرانيين أسهل وأسلم من التوسل
لإعادة عرش كسرى. ولكن إعادته تتوقف بالطبع على إضعاف الدين الذي حل
محله. لذلك صمموا على الأمور الآتية
(١) زلزلة قواعد الإسلام.
(٢) إدخال تقاليد الفرس في سويداء قلبه.
(٣) إحداث مذاهب جديدة.
(٤) ابتداع طرق مُستحدَثة.
والقصد من ذلك كله إضاعة جوهر الإسلام الساذج بين هذه المركبات أو
إلباسه ثوب (زردشت) السابغ الفضفاض على الأقل، حتى إذا ما عثرت رجلاه
بأذيال هذا الثوب ووقع أو ضعفت مشيته تمهدت لهم السبيل لنصب عرش كسرى.
لذلك يجد المدقق منا في حوادث التاريخ أن جميع الفرق الضالة ولدت في
إيران وأن الخرافات والبدع السيئة جاءت من إيران؛ لأن الأحكام الإسلامية
البسيطة لم تستطع تطويع النفس الفارسية التي اعتادت الانحناء تحت أثقال التقاليد
القديمة.
هذا هو السبب الإيجابي. وهناك سبب معنوي أيضًا، وهو أن الإيراني
قضى عمره وهو يئن تحت استعباد السلالات المالكة؛ لأنه كان يتدحرج بين
استبداد آل (البيشداديين) و (الإشكانيين) و (الكيسانيين) و (الساسانيين) وكل
شعب وقع في نيران الاستبداد تطلب روحه دائمًا مبعثًا لأنينها وبث شكواها، وهذه
المظاهر التخييلية التي يحتفل بها الإيرانيون في أيام مخصوصة هي مبعث الأسى
الذي يجتمع فيه ما يفيض من دموعهم، ففي تلك الاجتماعات والاحتفالات يفرغ كل
امرئ آلامه ويخرج منها بدون آلام.
ذلك - يا سيدي القارئ - سر مأتم (المُحَرَّم) التي يبكي فيها الإيرانيون الحسين
السبط رضي الله تعالى عنه، وإذا اعتاد الروح عملاً وصار له ملكة؛ فإنه يصدر عنه
دائمًا لا يعيقه عنه عائق مهما يكن قويًّا، ولا شأن للمظاهر والأشكال عند الروح وإنما
الشأن عنده للإدراك والشعور الذي يبعث على العمل، فثم شعور يحرك داعية البكاء،
وسيان أبكى على كسرى أم على الحسين رضي الله عنه. باعث البكاء أساسي
وصورة المأتم فرع عنه [١] .
روح الإيراني يريد أن يرى رجلاً جالسًا على عرش الملك بكل عظمة وفخامة،
يريد أن يحصر حق التعظيم فيه وفي ورثته؛ لأن هذا المعنى تبوأ ورسخ في
سويداء قلب الشعب وأمسى روحًا ثانيًا له، يريد أن يرى آمرًا كبيرًا ذا أبهة وبهجة
يأمر وينهي متأبهًا متألهًا - لا عبدًا متواضعًا - ومن تحته أمة تأتمر وتطيع وتخضع،
وأنى يجد هذا في الإسلام؟ الإسلام حرم الاستبداد والتعظم والكبرياء، ونسخ
توارث الأمر والنهي وجعل الخلافة تابعة للشورى. وكان الخليفة كآحاد الناس
بعيدًا عن العظمة وعن الفخفخة. لذلك أحدثوا مسألة (الإمامة المعصومة) لتقوم
مقام الكسروية المقدسة، فيتوارثون عروش الأكاسرة، فاستعانوا ببني هاشم لا
لإجلاسهم على عرش الخلافة؛ بل لإجلاس أحفاد إسماعيل الشاه على عرش كسرى.
إن عقل الإيراني ما كان يقدر أن يفهم معنى أصول انتخاب الرئيس السياسي
من الناس. وكان انتخاب الخلفاء الراشدين الأربعة في نظره من أغرب الغرائب
لأن (زردشت) غرس في قلبه فكرة توارث الرئاسة والعظمة والجلال. لذلك كانوا
يتعجبون من ترجيح أحد على علي كرم الله وجهه؛ لأن الفضل الذاتي كان في
نظرهم شيئًا غريبًا؛ ولا سيما أولاد سيدنا علي رضي الله عنهم أسباط الرسول
صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو سر تولد مسألة (الإمامة) فإنها من مقتضيات روح إيران. ولما
كان الحسين رضي الله عنه قد تزوج إحدى عقائل بيت الملك في إيران من أسرة
(الساسانيين) كان الفرس يعلقون أهمية كبرى على هذه النقطة.
كانت روح الإيراني تطلب (خداوند) أي رئيسًا إلهيًّا لتنقاد له وتطيعه طاعة
وجدانية وتمتثل أوامره بغير بحث ولا مراجعة. وأنى لها في الإسلام مثل ذلك
وأكبر خليفة يقول علنًا: (أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه) فيجاب
من آحاد الناس بكل بساطة: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) [٢] .
الإيراني ما كان يمكن أن يفهم هذا، وروحه يأبى قبوله. وإنما يريد (خداوند)
أي رئيسًا إلهيًّا يأمر فيطاع بلا نقد وبلا اعتراض. الإيراني ينشرح صدره إن قَتَلَ أو
كَسَرَ أو سَمَّمَ أحدًا امتثالاً لأمر (الخداوند) وتكفي أدنى إشارة منه ليطيع بكل سرور.
وهذا السرور لا بد له من (خداوند) إذًا ما العمل والإسلام يأبى ذلك؟ وجدوا فكرة
إحداث (إمام يورث) أقصر طريق لما نووا. وهكذا فعلوا.
من قرأ روح أبي مسلم من أفعاله يتضح له صدق ما نقول، وللقارئ الكريم
البيان:
أمر الإمامُ (إبراهيم) أبا مسلم الخراساني أن يقتل كل من اشتبه في إخلاصه
وإن كان ولدًا لا يتجاوز طوله خمسة أشبار، فامتثل أبو مسلم هذا الأمر بدون تردد؛
لأنه صدر من (خداوند) أي من إمام، ومجموع من قتل أبو مسلم على
الشبهة ستمائة ألف مسلم. ولقد صور المؤرخ ابن الأثير هذه الفواجع تصويرًا تامًّا
حتى إن (أبا سلمة الخلال) الذي أحرز عنوان (وزير آل محمد) لم يقدر أن
يصون دم نفسه من قانون الشبهة؛ لأن أبا مسلم كان يتلقى أوامر ممثل (الخداوند)
الإمام إبراهيم كأمر إلهي.
وياليت الأمر بقي مسوقًا بروح الإيرانيين وحدهم بل إن روح سورية المقتبسة
من روح الروم زاد الأمر اضطرابًا وتهويشًا؛ إذ من المعلوم أن بعض الجنود
السورية والعراقية أغريت يوم (صفين) بعدم الطاعة لعلي كرم الله وجهه
ولمعاوية أيضًا، وهذه الديمقراطية الواسعة ليست إلا من بقايا أفكار (بيزانس)
فتشوشت أفكار العرب بين هذا الجزر الإيراني والمد الرومي (وكان العربي من
القديم قانعًا بالانكماش في جزيرته ولا يحلو له إلا ما عنده فلا يعرف ما عند غيره.
والسياسة هي معرفة المتغير ومعاملته حسبما علم من أحواله) وأوضح دليل على
عقلية الإيرانيين ما عمله أهل بلدة (راوند) من توابع أصفهان يوم جاءوا لمقابلة
الإمام المنصور إذ نادوه (يا خداوند) أي إلهنا؛ لأن كلمتي (إمام وخدواند) في نظر
الفرس لا يتجزآن، وعندما عدلوا عن تسمية المنصور إمامًا لم تستطع الروح
الفارسية أن تعيش بدون إمام ففتشت عليه واستمرت تفتش حتى وجدته ولكن من
وجدت؟ وجدت أبا مسلم الخرساني وادعت بأن الألوهية حلت فيه. أي في قاتل
ستمائة ألف مسلم.
لا يتعجب العاقل من إسناد الإيرانيين الألوهية لأبي مسلم لأنه - والحق يقال -
بطل من أبطال التاريخ وسياسي هائل، وهو ليس أكثر من إيراني وطني متغالٍ،
ولكن العجب كل العجب تقديس غير الإيرانيين له، والأحزاب التي أُلّفت لذلك.

حزب الرزامية:
إن قانون الشبهة الذي أحدثه الإمام إبراهيم لم يستثن أبا مسلم بل طبَّقه الخليفة
المنصور عليه بالذات، وعلى ذلك اجتمع بعض الفرس وبسطاء العرب وأعلنوا
إمامة أبي مسلم على رءوس الأشهاد وسموا جمعيتهم باسم (حزابي) ثم أعلن (رزام
بن شاقو) مؤسس الحزب الرزامي ألوهية أبي مسلم وقبل الناس ألوهية أبي مسلم
الذي صار إمامًا قبل مدة وجيزة حتى إن بعض الحزابين ما كان يصدق أن أبا مسلم
يموت بل كانوا يعتقدون بأنه سيظهر يومًا ما ويملأ العالم عدلاً وبعضهم كان يقول:
إنه مات، وإن الإمامة انتقلت إلى بنته.
ما هذه العقائد وما هذه الأقوال؟ إن هي إلا بقايا دين (زرادشت) وبمدة قليلة
كثر هذا الحزب.
جميع هذا الخرافات ليست من ديننا في شيء، إن هي إلا خرافات وما
أبو مسلم إلا سياسي تام وإمامته وألوهيته وقدسيته شيء موهوم خيالي.
حزب المبيضة:
ثم ظهر كاتب أبي مسلم المقنع فالتف حوله الخراسانيون الذين كانت أجسامهم
مسلمة وأرواحهم أسيرة عقائد (بوذا) و (زردشت) .
اسم المقنع (هاشم بن حاكم) وكان يغطي وجهه لقبحه، ولذلك سُمي المقنع.
رأى المقنع بحرانًا في أفكار الخراسانيين: رآهم مسلمين ولكن قواعد الإسلام
الساذجة لم توافق مشربهم، وطلب الرجوع إلى دين زردشت صعب وكذلك الاكتفاء
بالإسلام، بل هو عنده أصعب، ولذلك عزم على صبغ الإسلامية بصبغة زردشتية،
وهذا يحتاج لجسارة ومهارة، وبما أن هذا كان خصيصًا بالعلوم الطبيعية أخذ يقدم
لهم قوانينها وقواميسها كمعجزات فصدقوه واتبعوه. وكانت أعماله معطوفة على هدم
بناء العرب السياسي والديني معًا لذلك توسل بإحياء عقيدة الناسخ التي اكتست ثوبًا
هنديًّا وآخر مصريًّا وثالثًا يونانيًّا وثوبًا رابعًا إيرانيًّا ولكنه زاد على أثوابها ثوبًا
خامسا إسلاميًّا، وللقارئ الكريم ما كان يقول هذا المقنع:
إن الله تجلى في بادئ الأمر في وجود آدم ثم انتقل إلى نوح ثم إلى إبراهيم
ومن بعده إلى موسى ثم إلى محمد عليهم السلام، ومن بعده إلى علي كرم الله وجهه،
ثم إلى محمد بن الحنفية وفي النهاية حل في أبي مسلم الخرساني، ومن بعده انتقل
إلى وجود المقنع.
إن هذه العقيدة القديمة وُجد من استأنس بها في إيران وسورية ومصر والهند
والتف حوله عدد ليس بالقليل حتى إن الخليفة المهدي اضطر لأن يسوق عليه ثلاثة
جيوش، وكان الغالب في الثلاث المعارك المقنع، فهذا الظفر أطلق لسان الفرس
وطفقوا يلهجون بإيران واستقلالها. عندئذ جمع الخليفة المهدي جندًا كثيفًا، وأرسله
لحربه فغلب في هذه المرة وقتل المقنع في مدينة (كسن) ولكن الخرافات التي نشرها
بين المسلمين لم تمت.
وأما سبب تسميتهم المبيضة فهو أنهم كانوا يلبسون لباسًا أبيض.
الزنادقة أو الحمرة:
هم من أتباع المقنع أيضًا وكانوا يسمون الحمرة؛ لأنهم كانوا يلبسون لباسًا
أحمر [٣] لقد أضر المحمرة بالإسلام أضرارًا أبلغ من أضرار المبيضة، وأدخلوا فيه
خرافات أكثر منهم وأتعبوا العرب والمسلمين أتعابًا دامت أحقابًا طويلة.
قبل الإسلام بقرنين ونصف ظهر في إيران رجل اسمه (مزدك) ونشر مذهبًا
جديدًا فيها. ومن مقتضيات هذا المذهب: إهمال كل قانون وكل نظام وحل جميع
الروابط الأدبية وفتح الباب على مصراعيه لكل شهوة بشرية، بَذَلَ الأكاسرةُ جُلَّ
المستطاع لقمع هذا المذهب ولكنهم لم يفلحوا؛ لأن الاشتراك بثروة الأغنياء
وبالنساء الجميلات كان يجذب الشبان من جميع الأطراف إليه، وانتشر هذا المذهب
حتى إنه لم يبق هنالك أثر للقانون والنظام وللحق وللأدب وللحياء، وعُدَّ كل شيء
يوافق تسكين الشهوة البشرية مباحًا بل مشروعًا.
وفي خلافة المهدي بدأ هذا المذهب ينتشر بين المسلمين ولكن بلباس إسلامي،
بذل الخليفة المشار إليه كل ما يمكنه لمحوه وسالت الدماء كالأنهار ولكن بدون
جدوى، بل ظل ينتشر في خراسان والعراق انتشارًا سريعًا، ومن الغريب أن جميع
المذاهب التي كان الإيرانيون ينشرونها بعد الإسلام هي مقتبسة مما كان يجري في
الهند وإيران، ولكن كانوا يبدلون اسم مؤسسها القديم ويضعون عليها أسم أحد أولاد
سيدنا علي رضي الله عنه، ولم يوجد حزب أضر بأخلاق المسلمين أكثر من هذا
الحزب لأنهم لم يكتفوا بإباحة النساء والأولاد بينهم، بل طفقوا يخطفون النساء
الحسان من الأسواق، وبهذا الشكل أتعبوا الخليفة المهدي وحكومته تعبًا ما وراءه
تعب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي
... ... ... ... ... ... ... ... نابلس
((يتبع بمقال تالٍ))