كان نشاط الإسلام الغريب مدعاة دهشة لعقول البشر منذ تلك الأيام الممعنة في الزمن، التي حملت لواءه من فرنسا إلى الصين , ولكن هذه الشعلة الروحية المتقدة ما لبثت أن أخذت تخمد على الأيام، حتى ظهر الإسلام في القرن الثامن عشر في حال من الاحتضار، فأخذ العلماء يلتمسون المعرفة في آفاق محدودة من الدين، لا كما نزل به القرآن وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، مشرقًا بالنور، سمحًا إلى أبعد الحدود، بل كما فهموه، هزيلاً ضيقًا، بل على أكثر ما يكون عليه الدين من الهزال والضيق حين يبدأ فيسمح لظل آدمي أن يقوم بين العقل البشري والله. إن الإسلام دين الفكرة المتحرر، الذي استطاع أن يطرد الخرافات الكهنوتية من البلدان التي استظلت بظله، انتهى إلى أن يكون هو نفسه مثقلاً بأنواع العبودية والخرافات. فرض الإسلام على معتنقه أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العلم أفضل من العبادة) ولكن هذا الفرض أهمل في عصور انحلال الثقافة العربية إهمالاً مخجلاً اطّرحت معه دراسة العلوم الطبيعية من زمان، فكان ذلك من أهم الأسباب لتأخر الإسلام في العصر الأخير. قال المستعرب الفرنسي الشهير (كازانوفا) : منذ أن خبت شعلة الثقافة العربية زمن الغزو العثماني، ومنذ أن أخذ الإسلام الأول تنقله ربقة (أرثوذكسية) متحرجة، ونحن ننظر إلى عقل العرب الحديث كشيء يختلف عن عقولنا، ونعتقد أن المسلمين ليسوا بقادرين على أن يفهموا فكرنا ويمثلوه، ناسين كلمة نبيهم الرائعة، التي كانت مصدر الهدى لحضارتهم الأولى، والتي تقول: (فضل العلم أفضل من العبادة) . إني لأتساءل: أي رئيس ديني، أو أي مبشر عظيم جرؤ في يوم أن يتلفظ هذا الكلام الجسور، الذي يكون (دستور الإيمان) لعالمنا الثقافي اليوم؟ في حين أن كلامًا كهذا كان يعد لزمن غير بعيد كفرًا عند الجمهرة الكبرى من العقول المثقفة، بل أستطيع أن أتساءل: أي أوربي في عصر محمد استطاع أن يفكر بإمكانية فظاعة كهذه؟ ! وعلى هذه فأصح البديهيات عن حرية الفكر، هذه البديهيات التي تدع وراءها أجرأ آراء (لوثر) و (كالفن) ، وأمثالهما، إنما فاه بها عربي من أهل القرن السابع، هو مؤسس ذلك الدين الذي يزعم كثير منا أنه منحط انحطاطًا لا يرجى له علاج، وفي الحق أن تذوق العلم، والتأملات الفكرية في شتى الميادين، وأن حب الفكر الإغريقي والإعجاب بمآثره، وهذا الفضول المُلِحّ لمعرفة ما في الطبيعة، والرغبة الجادّة في رفع النقاب عن هذه الطبيعة، كل أولئك كان يمثل المزايا الصحيحة للروح العربية، إن هؤلاء العرب العظام الذين فقناهم في الأربعة القرون الخالية كانوا الأساتذة الكبار للفكر الحديث قبل عصر النهضة) . بيد أن العلماء الذين كان عليهم أن يرعوا تعاليم الإسلام الصحيحة ما لبثوا مع الزمن أن وقفوا كل اهتمامهم على الفرعيات الصغرى من العبادات، فكانت بذلك مفارقة خطرة لعمود الشرع الأول، وكانت أن نشأت في البلدان الإسلامية رجعية متحرجة، وتعصب مخالف لروح الإسلام، وطغت على مراكز الثقافة العربية مدرسية متطرفة كالتي عرفت في القرون الوسطى، وبها طائفة من الخرافات الفارغة، فمد الجهل رواقًا على الطبقات الدنيا، فرغبت عن كل تجديد، وأصبح المجتمع الإسلامي فاسدًا على الجملة. إن روح الإسلام لا تعني على أي حال الاطمئنان إلى هذا الوضع الذي يسود العالم الإسلامي، أو القناعة به؛ لأن الجبر (أي الاعتقاد بالقضاء والقدر على أنهما إجبار) لا يؤلف قممها من العقيدة الدينية، أما العامة، فقد تملكتها - بسبب الجهل والعبودية السياسية فيما بعد - روح قناعة وتسليم تكفي لإحداث ركود عام، فكان بذلك سبب رئيسي من الأسباب التي عاقت التقدم السياسي والاقتصادي للدول الإسلامية. لقد تقدمت الدول النصرانية في ميدان الحياة المادية، كما تقدم المسلمون زمان كانوا يخضعون لتعاليم الشرع التي نادت بحرية الفكر، وحضَّت على طلب العلم، ودرس ما خلق الله. لقد أطرح الأوربيون الأصفاد الأكليركية والمدرسية الضيقة فكان تقدمهم في الحقل المادي مدعاة للدهشة بقدر ما كانت الفتوح المادية والروحية التي قام بها المسلمون الأولون. وضعف آخر عانى منه الإسلام كثيرًا في تاريخه، هو نفوذ الأوتوقراطية السياسية السيئ؛ فإن قيام الأوتوقراطية المستبدة على رأس الإسلام قد أضر به كثيرًا في الحقبة التي سبقت الحروب الصليبية بقليل؛ إذ كان جو الفساد الذي خلقته هذه الاوتوقراطية المستبدة عائقًا لنمو الإسلام، فتفسخت الأمصار الإسلامية إلى وحدات يسيطر عليها طغاة منهمكون في منازعاتهم وحربهم التي يستغل فيها الدين ويسخَّر لأغراض غريبة عنه، فما طال الزمان حتى كان الشرق المسلم غارقًا في ظلام عميق، ضيَّق من أفقه الثقافي، وانتهى به إلى عقم أدبي عام. وعامل هام آخر ساعد على تأخر المسلمين، هو نشوء شعور بالتسامي مزور قام على التبجح بالفتوح العظيمة، والتغني بمآثر الإسلام في العصور الأولى، وحمل المسلمين على أن ينظروا إلى المخترعات الحديثة التي ولدها العقل الغربي نظرة استحقار واستخفاف. إن المسلمين في عصور انحطاطهم لا يشبهون المسلمين الأول إلا قليلاً، فلم يعملوا بما قضته شريعتهم، ولا عنوا بتتبع سنن نبيهم، لقد قطع المسلمون شوطًا بعيدًا في الحقول العقلية، والسياسية، والاجتماعية، والأخلاقية أيام استمسكوا بأمر دينهم ونهيه، ولكنهم لما رغبوا عن حبلهم هذا المتين فقدوا روح البطولة وأسقط في يدهم، فأهملوا تثقيف أولادهم، كما أهملوا تثقيف بناتهم بخاصة، لقد ناءوا بهذه الحضارة وهذه الثقافة التي بناها أسلافهم بتأثير القرآن والتأسي الشريف بالنبي صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا لها صونا، وضعفت روح التكتل، وأخذ التفسخ يظهر واضحًا. وكان الغزو المغولي في القرن الثالث عشر ضربة أخرى شديدة على الثقافة الإسلامية؛ إذ عطلت جيوش جنكيز خان أعظم مراكز العلم، وأودت بمعظم العلماء، كان كل ذلك في يوم كانت فيه الحدود الشرقية للإمبراطورية الإسلامية غير مصونة إلا قليلاً، وهنا نلاحظ أن فرضًا من فروض الشريعة قد نُسي أو أهمل، هو الجهاد، فانتهى الأمر أخيرًا إلى سقوط بقايا الإمبراطورية الإسلامية في أيدي دول الاستعمار الأوروبية. لقد عاقت الحروب الصليبية نمو الإسلام، في حين أن اكتشاف طريق الهند التجارية الشرقية، واكتشاف أميركا، مع ما دعا إليه من اتجاه التجارة العالمية ناحية الغرب، إلى جانب ازدهار الحركة الصناعية والمواصلات عبر المحيط، كل ذلك كسف أخيرًا عالم الإسلام، فما آذن الزمن بالقرن الثامن عشر حتى كان العالم الإسلامي غارقًا في سبات، بينا شهد القرن التاسع عشر سقوط الدول الإسلامية - الواحدة بعد الأخرى - في قبضة الدول الغربية المغيرة. ولكن السبات والركود ليسا من مبادئ الإسلام، إن هما إلا نتيجة لأحداث سياسية واقتصادية، وهكذا أخذت تقوم في ذلك الحين محاولات في الإصلاح الديني أظهرت واضحًا أن خلف الرماد حياة للإسلام صحيحة فذة، هذه الحركات الإصلاحية نشطت لإحياء مجد الإسلام الأول، وطمحت إلى إعادة الدين إلى شكله الصافي الخالص قبل أن تثقله المعتقدات الدخيلة والبدع المفسدة. وكان ابن تيمية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) العدو الأول لهذه البدع، ولكن أربعة قرون تصرمت قبل أن تؤتي آثاره أكلها يانعًا، ففي القرن الثامن عشر تأثر محمد بن عبد الوهاب من أهل نجد بدراسة مؤلفات ابن تيمية، فحاول كما حاول أستاذه من قبله أن يرجع للإسلام حيويته الأولى وصفاءه الأول، وأن يجتث الرذائل ويبطل البدع المخالفة لتعاليم الدين الفطرية، مجردًا حملته في سبيل هذا الإصلاح الديني حوالي سنة ١٧٤٠، بعد أن حز في نفسه ما رآه من التفسخ الأخلاقي، وذيوع الخرافات بين المسلمين، وفي سبيل هذا بشر محمد بن عبد الوهاب بالرجوع إلى مصدري الإسلام الأولين كتاب الله وسنة رسوله. وقد عمل هذا المصلح الطهري - مؤسس الوهابية - كل ما في وسعه ليعيد للإسلام بساطته الشديدة الأولى، فكانت الحركة الوهابية في الواقع بشير الانتعاش للإسلام الحديث، ولا نستطيع هنا - بداعي ضيق المجال - أن نعرض بكلام مسهب لنمو هذه الحركة، إنما يكفي الذكر أنها نشأت في جزيرة العرب في ظل البيت السعودي، وانتشرت في نجد ثم في الحجاز زمنًا قصيرًا، تقلصت عنه بعده، إلى أن قام عبد العزيز بن سعود ببضع حملات ناجحات استعاد بها الحجاز، وضرب بسلطانه على القسم الأعظم من بلاد العرب. امتدت الحركة الوهابية إلى ما وراء الجزيرة، وعملت على إثارة حركات مشابهة مستوحاة منها في الهند وإفريقية وجزر الملاي، بل إن حركة السنوسي الشهيرة نفسها مدينة في منشئها للإيحاء الوهابي. ففي منتصف القرن التاسع عشر حمل السير سيد أحمد خان لواء حركة تحريرية إصلاحية في الهند، كان من ثمارها تأسيس جامعة إسلامية في عليكرة يتلقى فيها الطلاب - إلى جانب التربية الدينية - ثقافة عصرية عميقة، ولقد اتجه السير سيد علي في المسائل الفقهية اتجاهًا حديثًا، محاولاً أن يلائم بين حياة الشعوب الإسلامية وبين العصر الجديد، وأن يؤلف بين الثقافة والتقاليد الإسلامية، وبين الآراء الحديثة والعلم الحديث. وبعد وفاة السير سيد تعهد الحركة مولاي شيراغ علي، ومن بعده سيد أمير علي، الذي عبر عن آراء المجددين في كتابه المعروف: (روح الإسلام) ، وتطورت الحركة من بعده، جامعةً بين (العقلية) والتحرر، وكان لها ممثلها في شخص (س خودا بخش) صاحب كتاب (رسائل هندية وإسلامية) . ويجب أن نذكر بصدد هذه الحركة العمل الذي قام به حكيم أجمل خان، من دلهي، إذا وقف نفسه على تدريب الطلبة المتأخرين من الجامعة في عليكرة، وبعثهم إلى الخارج مبشرين، لينشروا بين شباب الطبقات المثقفة، ثقافة إسلامية حديثة مؤسسة - قبل كل شيء - على القرآن. أما أعظم مصلح في الهند الإسلامية غير مدافَع، فهو المرحوم السيد محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الكبير، الذي ألفت آراؤه ومؤلفاته (مدرسة) من المفكرين الدينين والسياسيين في الهند، ومن أبرز آثاره كتابه الممتع عن (تجديد التفكير الديني في الإسلام) ، الذي كان يريد فيه كما يقول (أن يلبي ولو جزئيًّا هذه الرغبة الملحة في إيجاد شكل علمي للمعرفة الدينية عن تجديد طريقة الفلسفة الدينية الإسلامية على أساس من تقاليد الإسلام والتطورات الأخيرة في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية) ، ولكي نقدم فكرة صادقة عن قيمة مؤلف السير محمد إقبال هذا لا نجد أفضل من أن نقتبس ههنا الفقرة التالية من مراجعة له بقلم عالم (غربي) ممتاز؛ لما فيها من (إشارة) إلى العلاقات الغربية الإسلامية: (إن العالم الغربي لا يعرف السير محمد إقبال - إذا استثنينا طبقة من الخاصة صغيرة - المعرفة التي يستحقها. قد لا يكون محمد إقبال مؤرخًا؛ ولكنه فيلسوف لاهوتي ديني من الطبقة الأولى، بعقل معجز جبار، إدراك هذه الحقيقة لم يكن بالسهل على الغرب - بسبب إسلامية إقبال - كما كان في شأن طاغور الشاعر الغامض، وغاندي الذكي الغريب. إن من الجميل أن يكتشف الغرب مسلمًا مجددًا حقًّا، هو في الأقل صنو لأعظم مفكري الغرب في كل ناحية. كم يكون من المؤسف أن نسلب القارئ الغربي لذة الاكتشاف الشخصي بتقديمنا هذا الرجل إليه ملخصًا، فليس هناك رجل في العالم المسيحي يحق أن يدعى عصريًّا - أو ما شئت من النعوت - إذ لم يكن قد (اكتشف) بعدُ محمد إقبال، وليس هناك كتاب للسير محمد أجدر من هذا كأداة وصل في هذا التعرف) . فإذا انتقلنا إلى تركيا كان علينا أن نشير إلى حركة إصلاحية سايرت ثورة سنة ١٩٠٨، فحزب (تركية الفتاة) نادى بالأخوة والمساواة بين رعايا السلطان جميعًا، وكان أحد مقدمي الزعماء في (جمعية الاتحاد والترقي) المصلح والسياسي الأمير سعيد حليم باشا، الذي كان يعتقد أن الإصلاح لا يقوم على اقتباس ما هو غربي، بل بالعودة إلى الإسلام، وكان يعمل لإمبراطورية إسلامية مستقلة، ويؤيد الخلافة، فعل الكثرة المطلقة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، مسترشدًا بغايته الأولى، وهي بناء الدولة الإسلامية الصحيحة على قواعد حديثة. ولكن مؤثرات مغايرة كل المغايرة لأهداف الأمير سعيد حليم باشا ما لبثت أن ذرت قرنها، فقامت فكرة الوحدة الطورانية، رامية إلى خلق ثقافة تركية قومية حديثة. بيد أن أبرز المصلحين في القرن التاسع عشر كان السيد جمال الدين الأفغاني، الذي كان له الأثر الأعمق على الحركات الإصلاحية في شتى الأقطار الإسلامية ومصر بخاصة؛ حيث قضى ثماني سنوات (١٨٧١ - ١٨٧٩) ، وحيث تتلمذ عليه الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية , الذي توفي سنة ١٩٠٥. لقد شملت أعمال هذا الرجل العظيم أمصار الإسلام على التقريب , فخضعت أفغانستان وإيران , وتركية، ومصر، والهند جميعًا , وفي فترات متباينة لأثره البعيد. إن غاية جمال الدين القصوى كانت توحيد الشعوب الإسلامية في ظل دولة إسلامية واحدة، يمارس فيها الخليفة سلطة مطلقة، كالتي كانت للخلفاء في أيام الإسلام الغرر , قبل أن تنهك من قواه الفتن والتفسخات , وقبل أن تغرق البلدان الإسلامية في ظلام من الجهل والمسكنة , فتصبح فريسة الاعتداء الغربي. كان يعتقد أن هذه الدول الإسلامية إذا تخلصت يومًا من وباء الاستعمار الغربي والتدخلات الغربية، وجددت نظرتها إلى الدين بحسب مقتضيات العصر، استطاعت أن تخلق لنفسها أوضاعًا جديدة باهرة، دون تقليد للدول الغربية، أو اعتماد عليها. وعنده أن الدين الإسلامي في جوهره دين دنيا , وأنه قادر إلى أبعد حد - لما له من قوة روحية - على أن يساير اختلاف أحوال الحياة، ويرى أن الثورات السياسية هي أسرع وأضمن سبيل يوفر للشعوب الإسلامية الحرية التي لا تستطيع هذه الشعوب أن تنتظم أمورها الداخلية بدونها. وقد وصف مؤرخ مصري احتكاك جمال الدين بالشئون المصرية بهذه الكلمات: (لقد ولدت بنزول جمال الدين مصر حركة جديدة، قالت بوجوب تحديد التدخل الأجنبي والحكم الأوتوقراطي , وحاولت تحضير عقول الشعب لإنشاء نظام قومي متحرر , كما بذلت جهود لإصلاح الحالة الاجتماعية للجماعات، عن طريق تفسير جديد لتعاليم الدين التي أفسدت من روحها الخرافات والتقاليد والتفصيلات الفقهية في عصور الظلام. قادت هذه الحركة إلى يقظة صحيحة تمظهرت في الإسلام الديني , كما تمظهرت في البعث الثقافي والأدبي , وفي التطورات السياسية، التي دلت على نمو في الروح القومي. لقد كان جمال الدين أعظم شارح لفكرة الجامعة الإسلامية) . وأخذت الحركة الإصلاحية والتجديدية في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر شكلاً محددًا على يد الشيخ محمد عبده , قاصدة إلى تحرير الإسلام من القيود التي كبله بها التقليد المتحجر , وإلى الإصلاح الذي يجعل هذا الدين قادرًا على مسايرة الحياة العصرية , وهكذا نشر محمد عبده في مصر روح أستاذه جمال الدين ومثله العليا، وعمرت هذه الحركة في مصر إلى وقتنا الحاضر , تاركة آثارها في شتى الميادين , كما لاقت آراء الشيخ محمد عبده أذنًا صاغية بين الطبقات المثقفة في مصر وغيرها من الأقطار الإسلامية , فتقبلوها بقبول حسن. وكان السيد محمد رشيد رضا - السوري الأصل - مقدم تلاميذ الشيخ محمد عبده، فلما قبض الشيخ الإمام ظل رشيد رضا الأمين على رسالته , والشارح لتعاليمه , وهو مؤسس مجلة (المنار) المشهورة، التي أصبحت بعدُ لسان الدعوة لآراء الشيخ محمد عبده , ومعقل الكفاح لتحقيق إصلاحاته. وهناك مدرسة ثانية من المجددين تأثرت بعيدًا بحركة الشيخ محمد عبده بين رجالها , أمثال قاسم أمين , وفريد وجدي , وعلي عبد الرزاق (مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم) وغيرهم من كبار الرجال. وإنا لنلمس آثار جمال الدين الأفغاني في الأجزاء القاصية من العالم الإسلامي , كروسيا مثلاً؛ حيث هبَّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مصلح مشهور , هو إسماعيل جاسبرنسكي محرر جريدة (ترجمان) الصادرة في بلاد القرم، والذي دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي عالمي لبحث المسائل المتعلقة بالحركة الإصلاحية الإسلامية. إذا نظرنا إلى الحال اليوم، رأينا الإسلام يواجه أزمة اختلف في تأويلها المفكرون المسلمون والغربيون، قال السير محمد إقبال: (إن الملاحظ السطحي للعالم الإسلامي الحديث هو وحده الذي يعتقد أن الأزمة الحالية في هذا العالم الإسلامي إنما ترجع إلى أيدي القوى الأجنبية) . (إن مسألة ما إذا كان الفرد مسلمًا، هي من وجهة النظر الإسلامية مسألة شرعية صرفة , يحكم فيها على أساس المبادئ الرئيسية للإسلام , وما دام الفرد مؤمنًا بالمبدئين الرئيسيين: وحدانية الله ورسالة نبيه، فلا يستطيع أحد - حتى أكثر الملوية تحرجًا - أن يخرجه من حظيرة الإسلام، على الرغم من فهمه للشريعة أو لنص القرآن فهمًا يُعتقد فيه الخطأ. لقد عانى الإسلام جحودًا كبيرًا , وآن للمسلمين أن ينظروا إلى الحقائق، إن المادية سلاح خطير ضد الدين؛ ولكنه ناجع مستحب إذا جُرد على الطرق الملوية والطرق الصوفية التي تشعوذ على الرَّعاع، مستغلة جهلهم وسرعة تصديقهم. إن روح الإسلام لا تخشى شيئًا من احتكاكها بالمادة، وفي الحق إن القرآن يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: ٧٧)) . (إن من الصعب على غير المسلم - إذا اعتبرنا تاريخ العالم الإسلامي خلال القرون الأخيرة - أن يدرك أن التقدم في النظرة المادية لا يعدو أن يكون ضربًا من تحقيق الذاتية) . ومن ناحية أخرى نجد روم لاندو يصف تأثراته حيال الروح الحية التي تسري في مصر اليوم: (إن مصر الحديثة تقتبس اليوم عن أوروبا بسرعة تواقة , طامحة إلى أن تلحق بالغرب في مضمار المدنية الحديثة , ترى في الوقت عينه - وعند الشباب بخاصة - قومية متطرفة , تتخذ في بعض الأحيان شكل العداء لكل ما هو أجنبي، وما كان هذا النوع من القومية داعيًا إلى الأسف، فذلك شيء طبيعي عن شعب حاد المزاج، يطمح أن يرى بلاده مستقلة بعد مئات السنوات من السيطرة الأجنبية) . (إن معضلة الطالب المصري تكاد تكون عين معضلة الروح المصرية الحديثة، كلاهما يجتاز الآن مرحلة انتقال، وفي كليهما اللهفة، والنزق، وغرور الشباب، وحساسيته. إن العناصر الروحية والمادية والدينية والقومية تختلط جميعًا إلى درجة لا يرجى معها حل للمعضلة عن طريق نوع بعينه من هذه الإصلاحات، ورجال السياسة المصرية لم يعتمدوا في يوم على معاونة زعماء الدين والفكر معاونة فعالة اعتمادهم في يومنا هذا؛ لأنه ليس من ناقد نزيه يعتقد أن معضلة الشباب المصري يمكن حلها دون إصلاح روحي عميق، يشمل تأثيره الشبان ويعدوهم إلى الزعماء السياسيين) . فإذا عرفنا أن التطور في البلدان الإسلامية كان دائمًا على أساس الدين (ولا يمكن أن يكون إلا كذلك) اتضح أن إصلاحًا روحيًّا كالذي يتكلم عليه روم لا ندو لا يتوفر إلا عن طريق تثقيف شباب الإسلام تثقيفًا دينيًّا صحيحًا. إن نشوة القومية في البلدان الإسلامية يجب أن ينظر إليه (كرد فعل) دفاعي ضد الاستيلاء الغربي , وكنتيجة للاعتقاد بأن التحرر الكامل من الغرب سياسيًّا , واقتصاديًّا , واجتماعيًّا شرط أساسي لنهوض الإسلام. وهكذا كان من الطبيعي للأقطار الإسلامية في هذا الدور من نشوئها أن ترى في القومية مصدر قوة وسلطان، ومهما كان فإن هذا المظهر الانتقالي من القومية لا بد أن يفسح المجال يومًا لضرب من (جامعة أمم) إسلامية , مؤسسة البنيان على قواعد روحية. إن المسلمين لا يستطيعون أن يفرطوا بتراث ثقافتهم الروحية العظيمة لمجرد تقليد القومية الأجنبية في مظهرها الحالي , فالنتائج المضرة لهذا النوع المتطرف من القومية أوضح من أن تؤكد. بيد أن بلدان الإسلام - بالرغم من هذه القومية التي تطغى عليها - تظل في الحق أكثر تجانسًا , وأبعد وحدة ثقافية من دول أوروبا , ففي شطر كبير من العالم الإسلامي - أعني في الشرق العربي - تسود لغة واحدة للتخاطب والكتابة , ذات تراث أدبي وفلسفي غني جدًّا , ويستطيع أن يدرسها بسهولة المثقفون في العالم الإسلامي كله، تلك هي اللغة العربية، اللغة المشتركة لستين أو سبعين مليونًا من الناس من مراكش إلى الخليج الفارسي , وهي تحتل اليوم في الأهمية المرتبة الرابعة بين لغات العالم , كما أنها اللغة الدينية للعالم الإسلامي قاطبة، على حين أن اللاتينية - وقد كانت في العصور الوسطى لغة مشتركة بين العلماء الأوروبيين - لم تعد منذ زمان واسطة التعبير، وليس بين اللغات الحية واحدة لها حظ في أن تصبح اللغة المشتركة في أوربا , بيد أننا لا يجب أن ننسى أن الدعاية القومية - مع تأكيدها على الفروقات اللغوية - تجعل هذا التطور بعيد الاحتمال في الوقت الحاضر. أما الفروق في النواحي الأخرى - أعني في نسيج المجتمع، والمثل العليا السياسية - فالفروق بين مختلف أجزاء أوروبا أكبر بكثير منها بين مختلف أجزاء العالم الإسلامي , فالعالم الإسلامي أقرب إلى أن يكون وحدة - وبخاصة في مزاياه الاجتماعية والثقافية ومؤسساته - من أوربا كلها. إن من الخطأ أن نزعم أن المثقفين من المسلمين، والطبقات الرفيعة في المجتمع الإسلامي قد أخذت في الابتعاد عن الدين، أو عدم الاكتراث به بداعي الإقبال على الحضارة الأوروبية والنسج على على منوالها، بل إننا ليمكننا أن نذكر دليلاً واحدًا يؤيد العكس، وذلك في مصر حيث تزدهر حركة عظيمة للإحياء الديني إلى جانب حركة اقتباس الحضارة الغربية، فمجلة (الرسالة) - وهي مظهر التقدم للفكر العربي الحديث، والثقافة العربية الحديثة - تنشر في كل عام عددًا خاصًّا بذكرى العام الهجري الجديد، يمده زعماء الفكر - وبينهم رجال المدرسة الجديدة - بمقالات في الموضوعات الإسلامية تظهر بوضوح روح احترامهم لشخص النبي وللقرآن، وهكذا فالتوفيق الظاهر بين الحركة الإصلاحية الدينية وبين النظريات القومية، هذا التوفيق الذي يكون اليوم عاملاً قويًّا في نهوض الأقطار الإسلامية، يجب أن ينظر إليه - كما ألمحنا - كظاهرة زائلة لا تتعارض مع النزعة إلى إحياء ديني خالص. وفي الحق أن في العالم الإسلامي اليوم جهودًا فردية تحاول أن تنظر إلى الدين نظرًا صحيحًا، ولكن أصحاب هذه الجهود جميعًا يدركون ضرورة الإخلاص للقرآن والحديث , وليس هناك مسألة إصلاح ديني على أساس مذاهب أو (كنائس) مستقلة كما كان الحال في الغرب؛ لأنه ليس في الإسلام مكان لعقيدة (الكنيسة) هذه، إن الإسلام اليوم - وغدًا - لن يقف في وجه التطور الإسلامي فحسب، بل سيكون هو ملهم هذا التطور، وبكلمة ثانية، فإن الصبغة الدينية تطبع التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية كلها. إن الرابط الديني، وهو أعمق ما يشد بين الشعوب الإسلامية على رغم الفروقات العنصرية واللغوية، سيظل الأساس لتطور البلدان الإسلامية الاجتماعي، وهكذا تزداد المعتقدات الدينية قوة على قوة لدى الأفراد، ولدى الأمة كمجموع. (المحرر) ننشر هذا المقال، وندع للكاتب رأيه الخاص في الأشخاص والحوادث التي ورد ذكرها فيها، ولكنا نستخلص منها هذه الحقائق، التي نريد أن ينعم النظر فيها دعاة النهوض والإصلاح. (١) إن المسلمين الآن قد خالفوا تعاليم الإسلام الصحيحة. (٢) إنهم بذلك ليسوا على نهج أسلافهم. (٣) إن طبيعة الإسلام تأبى السبات والركود، فلا يأس من الإصلاح. (٤) إن فكرة القوميات في بلاد الإسلام - أنى كانت - رد فعل للتعصب الأجنبي. (٥) إن التطور في البلاد الإسلامية كان دائمًا على أساس من الدين (ولا يكون إلا كذلك) . (٦) إن الإتجاه الديني اليوم قوي، حتى بين من تثقفوا ثقافة أوربية بحتة. (٧) إن الرابط الديني سيظل دائمًا هو الأساس والملهم للنهضة الحديثة. ... ... ... ... ... ... نقلا عن مجلة (الإيمان) البيروتية * * * من خطبة لمستر ماكدونالد وزير المستعمرات الإنجليزية (إن العالم الإسلامي دخل في مرحلة جديدة، بقوته المتزايدة، وبكل ما يتضمنه الدين الإسلامي العظيم من قوة مضافًا إلى التعاليم الحديثة، إن تطورًا جديدًا قد طرأ على العالم الإسلامي، وهو تطور يجب أن نحسب له حسابًا دقيقًا) .