(٢) من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى. ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها أكثر من سائر علماء المذاهب الأخرى تابع ما نشر في الجزء الماضي وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (محمد: ٢٦) على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} (محمد: ٢٥) ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، وفي قصة صلح الحديبية وما طلبه المشركون واشترطوه وأجابهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم. *** فصل وهنا أصول (أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها، وكذلك الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت الوجوب واشتراط الحلول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطها ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه ونوعه وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواية الثقات العدول عن مثلهم إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أهمل هذا وإضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنزيل والقرآن. (الأصل الثاني) أن الإيمان أصل له شُعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيمانًا فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعًا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعًا كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوته منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكفر أيضًا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء، والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة [١] كما جرى لحاطب، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. (الأصل الثالث) أن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه وعمل الجوارح كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة، فإذا زال تصديق القلب ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه لابد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده، والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط ويكون به مؤمنًا، والخلاف - في أعمال الجوارح - هل يكفر أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، والقول الثاني أنه لا يكفر إلا من جحدها، والثالث الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرًا وما لم يسمه، هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. (الأصل الرابع) أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) [٢] وقوله: (من أتى كاهنًا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -[٣] فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به، وكافرًا بما ترك العمل به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} (البقرة: ٨٤) إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: ٨٥) الآية، فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقًا آخر وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أُخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب. وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فرق بين سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به والآخر كفر ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس في قول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه. رواه عنه سفيان وعبد الرزاق وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بَيّن في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرًا، وسمى الكافر ظالمًا في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٥٤) وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا، وقال: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: ١) وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: ٨٧) وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: ٢٣) وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (القصص: ١٦) وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقًا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦) وقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: ٩٩) وسمى العاصي فاسقًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: ٦) وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: ٤) وقال: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} (البقرة: ١٩٧) وليس الفسوق كالفسوق [٤] . وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: ٧٢) وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: ٣١) الآية وقال في شرك الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: ١١٠) وفي الحديث (من حلف بغير الله فقد أشرك) [٥] ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل) [٦] . فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا اؤتمن خان) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد خلف) [٧] قال بعض الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم [٨] فإن الإيمان ينهي عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقًا خالصًا. (الأصل الخامس) أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنًا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرًا، وإن كان ما قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أو من أجزاء الطب أو من أجزاء الفقه أن يسمى عالمًا أو طبيبًا أو فقيهًا، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها اسم الكفر كما في الحديث (ثنتان في أمتي هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت) [٩] وحديث (من حلف بغير الله فقد كفر) [١٠] ولكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق، فمن عرف هذا عرف فقه السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم، قال ابن مسعود من كان متأسيًا فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها وأقلها تكلفًا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: إحداهما: الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط، قال ابن القيم لما ذكر شيئًا من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وعد رحمة الله كثيرًا من هذا النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة. هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين، والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.