للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نظام الحب والبغض
تابع ويتبع

حب القوة والروابط التي تُحدث القوة
إذا رجعنا إلى الأصل والمبدأ في تاريخ كل شيء نصف به أعيان الكائنات
نجد ثمّة إما العدم المحض وإما ذرّة لا تُذكر في جنب ما صارت إليه.
والإنسان واحد من هذه الكائنات الباهرة. فإذا أخذنا الآن لنظرنا أرقى فرد من
أفراده ووصفناه بما هو أهله من العلم واعتدال الخَلْق والخُلُق وصحة الإرادة وقوة
العزيمة وما يتبع ذلك من الفروع التي هي أجزاء التكمل فلا بد من أن نحار وننثني
في دهشة. وخليق بالأفراد الكاملين أن يحيّروا الأفكار. ولكن إذا راجعنا تاريخ هذه
الأجزاء التي حصل بمجموعها ذلك الكمال يجب أن يزيد اندهاشنا حين لا نرى لها
وجودًا في الأطوار والأدوار الأُول من حياة هذا الحيوان الناطق.
نجد علمه الباهر يرجع إلى عدم العلم؛ إذ خلق الإنسان جهولاً. وقوته
الرائعة ترجع إلى عدم القوة إذ خلق الإنسان ضعيفًا. وبالجملة يرجع اعتدال خلقه
وخلقه إلى لا شيء؛ لأنه كان جمادًا؛ بل لم يكن شيئًا مذكورًا. وأين النسبة بين
البشر السوي، العليم القوي، وبين الجماد؟ !
وأَلْصَقُ شيء بموضوع نفس الإنسان هو بيان تدرجه في كل جزء من
الأجزاء التي يكمله اجتماعها ولذلك كان من غرضنا في هذا الفصل الكلام في أعظم
جزء من تلك الأجزاء وهو القوة.
وقسمنا الكلام إلى ثلاثة أبواب:
في الأول نُعرّف القوة ونقسمها ونتكلم على حب الإنسان لها وسببه.
وفي الثاني نبين كيف حدثت القوة للإنسان ونتكلم في الروابط الثلاث: رابطة
الأديان، ورابطة الأجناس، ورابطة الحكومات، وهو أهم الأبواب.
وفي الثالث نذكر ما يحفظ القوة وما يضيعها. وهو صفوة الكلام في هذا
المقام.
(١) القوة:
القوة فاعل ذو أثر. وهي بأنواعها منبثة في كل الموجودات الحسية والغيبية.
ويعبر عنها بحسب اختلاف الموجودات واختلاف الاصطلاحات بعبارات شتى كما
يعبر عن موجود ما بحسب اختلاف اللغات بألفاظ شتى. وأكثر ما يكون الاختلاف
في التعبير عن قوى الموجودات الحسية والتعبير عن قوى الموجودات الغيبية. وقد
نسمي قوة حسية روحًا. وبهذا الاسم نسمي قوة غيبية. وقد نسمي في المحسوسات
مَلَكَة. وفي الغيبيات مَلَكًا. ولا يعلم جنود الخالق إلا هو.
أقسام القوة البشرية:
قبل معرفة قوانا وأقسامها يجمل بي وبكم أن نترنم بكلمة سواء بيننا وبين
البشر أجمعين ليستقيم بها سبيلنا في العلم. وتقرب غايتنا في العمل.
إن القوة الحقيقية هي للخالق وحده، وهي القوة التي لم يسبقها ضعف، ولن
يلحقها ضعف. وهي قوة التصرف ببدء المبروآت وتصويرها ونظم شؤونها ومنح
خواصها بسائط ومركبات. وهي القوة المقدسة من كل شوب. المادة (أي مانحة
المدد) لكل مُصوَّر حتى حين.
هذه هي القوة الربانية التي تخشع لها وحدها قلوبنا وتتوجه تلقاءها وجوهنا
رهبة ورغبة، وإليها تطير الجوانح شوقًا وهيامًا، وتحن لها الأرواح الواردة من
لدنها، وتتنسَّم من كل وجهة إقبال مددها فتحيا برجائها، وتصبر في هذه الدار حتى
يأتيها أمرها.
أما نحن فليس لنا من قوة إلا ودائع أودعها البارئ في خِلقتنا، لنتغلب فيها
على عوالم الأرض التي استخلفنا فيها. ثم لنتغالب فيها فيما بيننا، لنكون فريقين
متضادين، أعلين وأدنين، ومن قبل سبقت إرادته في الخلق أن يكون لكل مخلوق
مقابل، والخالق يفعل ما يشاء وهو العليم الحكيم، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة. ولو
شاء لهدانا أجمعين. ولا يسأل سبحانه عن مشيئته. ولكن عن الودائع تسأل كل
نفس ماذا كسبت. فبشرى للذين يحسنون صنعًا.
أودع الخالق فينا قوى كثيرة. وجعلنا متفاوتين فيها تفاوتًا عظيمًا. فمنا من
يرزق قوة منها تعشى لها أبصارنا ونظنها من خوارق العادة وما هي من الخوارق
وإنما لديه منها فضل عظيم به يصبح ما لدينا كأن لم يكن. وقِس على الواحدة
غيرها.
القوى التي فينا تنقسم إلى حسيّة. وعقليّة. وقلبيّة. أريد بالحسية قوى الجسد
وبالعقلية قوى الإدراك، وبالقلبية قوى الإرادة.
فأمّا القوى الحسية فظاهرة كظهور الجسد. ولحفظها ما وجدت واستردادها إن
فقدت علم خاص من صدد موضوعنا أن نوصي به. وأما العقلية فمعروفة بالتأمل
ويعرض لها من الأمراض أكثر مما يعرض للقوى الحسية فقسم من أمراضها تابع
لطب القوى الحسية. وقسم منها تابع لموضوعنا. وأما القوى القلبية فخفية لا
يعرفها إلا قليل من الذين في أنفسهم يتفكرون. والذين لا يعرفونها يشوبون فيها
الكلام بكثير من الأوهام. ويعرض لهذه القوى القلبية من الأمراض أكثر مما
يعرض للحسية والعقلية. وبيانها وعلاجها هو عين موضوعنا.
حب القوة وسببه:
حب القوة تابع من توابع حب الذات وهو أعظمها. وله سببان: أحدهما تابع
لسبب حب الذات. والآخر مستقل وهو أن الكمال بأصل الفطرة معشوق للنفس،
والقوة جزء من أجزاء الكمال ومِرقاة إلى أجزائه.
ولعل القارئ لم ينسَ القاعدة التي ذكرناها في باب حب الذات وهي:
(متى كان وجود الشيء لازمًا من اللوازم العامة كان طبيعيًّا) .
فإذا حفظ القارئ هذه القاعدة يبقى عليه أن يمعن النظر: (هل حب القوة لازم
من اللوازم العامة؟) ونسعفه الآن بإبداء ما بدا لنا بهذه المسألة:
(إن حب القوة لازم من اللوازم العامة) والدليل عليه من الحس والعقل، أما
دليله من الحس فلأننا نجده من متممات الحياة. ولولاه لعدت علينا العوادي الكثيرة
التي من أيسرها الجوع فإذا نحن هباء في هواء. ولو استقرأنا استقراءً تامًّا لما
ازددنا إلا تصديقًا بهذه القضية. ولنطق لنا كل حي معترفًا بأن هذا الأمر حليف
جوانحه كل حين. ولا يريبنَّكم في هذه القضية فئة ترونهم يسعون في إضعاف
أنفسهم من إدامة جوع ومواصلة سهر وموالاة قعود في بيت مظلم واستمرار على
صمت أو تكرار حروف وكلمات وما أشبه ذلك من أنواع الإضعاف فإن هؤلاء لا
يقصدون بصنيعهم ذلك إلا القوة. أعني أنهم يضعفون القوى الظاهرة ليتوصلوا إلى
قوى وهمية (هي من فروع القوى القلبية) لها تأثير في مرضى العقول والقلوب.
وكم استعبد هؤلاء الموهمون الناس بهذه القوى حتى اتخذوهم آلهة بمعنى أنهم
يفيضون ويصرفون الخير والشر لمن أرادوا وعمن أرادوا متى أرادوا بزعمهم!
وفئة أخرى يقلدون هؤلاء عن غير معرفة بالطريق ليصلوا إلى تلك الغاية
فبشِّرْهمْ بالجنون المطبق إنهم مفتونون!
وأما دليله من العقل فلأننا نعرف من كون الإنسان أعظم عوالم الأرض كونه
مخلوقًا لأمر عظيم. ونعرف من هذا أن القوة لازمة لهذا المخلوق العظيم. ونعرف
من هذا أن حب القوة لازم له لأجل تحصيلها؛ لأنه مخلوق ذو إرادة تسبق الإرادة
عمله.
ويمكننا أن نأخذ الدليل العقلي في هذه المسألة من عين السبب الذي ذكرناه
آنفًا وهو (أن الكمال في أصل الفطرة معشوق للنفس) ولا نبالي بما يتراءى من
شبه الدور فإننا طالما عرفنا شيئًا بآخر ثم ازدادت معرفتنا بالأول بواسطة الثاني
الذي عرفناه بواسطة الأول وقد يتلازم الشيئان حتى يُستدل على أحدهما بالآخر،
ولنا على هذا الأخير أن نستدل على كون الشيء لازمًا من اللوازم العامة بكونه
طبيعيًا وعلى كونه طبيعيًا بكونه لازمًا كذلك. وللمتلازمين تارة حكم المترادفين
ككلمتي (الطبيعة) و (سنة الخالق) جل وعلا.
ومن كونه طبيعيًا أو لازمًا من اللوازم العامة نعرف أنه نافع لأنه تقرّر أن
الأشياء الطبيعية (أي التي اقتضتها إرادة الخالق على سنة مطردة) جميعها نافعة
نفعًا عامًا. ولكن المرض في العقل قد يمنعه عن أن يرى البعض منها نافعًا وقد
يضله عن السبيل المستقيم في الانتفاع منها.
فمَن ثمّة يحكمون بمرض الفطرة على فرد لا يحب القوة حبًا يحمله على
تحصيلها بقدر الطاقة. وعلى أمة تقصر عن غيرها في القوة بمرض عام في تربية
أفرادها تلصق أعراضه بكل واحد منهم وإن كان بعضهم أشد مرضًا من بعض،
ويتكون من مجموعها أعراض عامة قاتلة إن دامت.
خلاصة:
وقد تبين لكم أمران جديران أن يقيدا في لوح الذهن، ذانكم أن:
(١) حب القوة (كحب الذات) لازم نافع.
وأن: (٢) التقصير في حب القوة مرض نفسي واجتماعي. فإنِ امرؤٌ أتاكم
معترفًا بمرضه، مستشفيًا من دائه، فانظروا ماذا ينفعه من العمل ومُروه أن يأخذ
من العلم ما يلزم لإصلاح العمل. وإن كان مهملاً ولم يشأ أن يعمل عملاً صالحًا
للنفس والمجتمع فانتظروا أن تبيده الأقوياء غير مشكور. وإن أمةٌ صُدّت عن
النُّذُر، وكفرت بالسنن، فالتمسوا منها مخرجًا إن كنتم فيها وقُوا أنفسكم البوار
الهون؛ إنهم قوم بور. ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))