للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد السميع البطل


كيف تنهض اللغة العربية
(٢)
(تتمة ما جاء في الجزء الماضي)

فقه اللغة ومتنها:
يضطر التلميذ كثيرًا إلى تصوير بعض الأشياء أو وضعها أو معرفة مرادفها
أو ضدها؛ فيتعاصى عليه ذلك، ولا يجد في خزانة فكره ما ينفق منه، وهنا يظهر
عجزه عن إبراز ما في نفسه، فيطوي صحيفته، ويكسر قلمه، ويتنفس الصعداء،
أو يركب متن التعسف والركة، ويؤدي مراده على أية صورة تهيأت له , فلا يكاد
يبين.
ولو درس فقه اللغة؛ لتدفقت عليه الألفاظ تدفقًا، ولوجد من ثوبها الفضفاض
خير حلة يجمل بها فكره، ويجلي ما في نفسه.
ومع أهمية هذا العلم لا تسمع به في مدارسنا ولا تحس له وجودًا، وحسبك
ذلك في جهل التلامذة وفقرهم المدقع في اللغة.
وأما متن اللغة؛ فيكفي فيه ما يحفظه الطلبة في تضاعيف الكتب التي
يدرسونها , والقطع التي يحفظونها مع الضبط ومعرفة المعنى الصحيح واشتقاقه،
ولكي تكون الفائدة محققة؛ يحسن تجريد الألفاظ من الكتب وتدوينها في كراسات
الطلبة لسهولة حفظها والرجوع إليها عند الحاجة.
وهنا أنبه إلى شيء مهم جدًّا يجدر بالمعلم الالتفات إليه، وهو تعويد التلامذة
مراجعة الكلمات , والكشف عليها في معاجم اللغة، فإن جلهم إن لم يكن كلهم يجهل
ذلك.
وأقول - والأسف شديد -: إن معاجمنا أصبحت بحاجة إلى تهذيب كبير،
ولم تعد أداة صالحة مع بقائها على ما هي عليه بل أقول: إننا في أشد الحاجة إلى
معجم عصري (وأريد أوسع معنى لكلمة عصري) .
ولعل جماعة المؤتمر تفترض الوقت لبحث هذا الموضوع , وترغيب حكومة
مصر في العمل لذلك بالمساعدة والتنشيط , فهي أحرى الحكومات بذلك لوجوه كثيرة
لا محل لبسطها الآن.
***
المطالعة
هي إحدى الأركان الثلاثة المهمة في تكوين اللغة , أعني الإنشاء والمحفوظات
والمطالعة، ويجب الإكثار منها مع الفهم والتطبيق، وإنما تفيد المطالعة حيث تكون
كتبها منتقاة من أعلى الكلام وأبلغه ككلام الله ورسوله , وما دونهما من كلام
الفصحاء في الجاهلية والإسلام، ولا أرى لذلك كتبًا تصلح من كل الوجوه، فينبغي
وضع كتب لذلك يراعى فيها الشروط السابقة، وملاءمتها لحال الطلبة وأسنانهم.
***
الإنشاء
يكتب الطلبة ما يستطيعون كتابته في الموضوعات المختلفة، وتصحح كتابتهم
بدقة وعناية، ويقفون على أخطائهم اللفظية والمعنوية والأسلوبية والتعابير العامية
والمبتذلة والدخيلة، ويرشدون إلى مواضع الصواب فيها؟ , ويحسن بالأستاذ أن
يقرئ بعض الطلبة موضوعاتهم ليوازن بين جدها ورديئها، ويشجع المجد بإظهار
استحسانه، لتدب روح الغيرة في نفس المقصر؛ فيجتهد في اللحاق به، كما يحسن
أن يقرأ التلميذ موضوعه غير مصحح؛ ليصلحه بإرشاده.
ولا بأس أن يتخولهم بدرس عناصر الموضوع قبل الكتابة فيه بطريقة
المحاورة والاستنباط.
***
المحفوظات
هي الركن الضخم في تكوين ملكة اللغة والبلاغة، وما نبغ خطيب أو شاعر،
أو كاتب إلا بعد أن كان له من محفوظه مدد لا ينفد، وهؤلاء شعراء الجاهلية
والإسلام قضوا عهد الثقافة والمرانة رواة ناقلين، قبل أن يكونوا شعراء مبرزين ,
وما قلناه في المطالعة من حيث الاختيار والفهم والتطبيق نقوله هنا، وأنفع المختار
للحفظ وأولاه بالتقديم كلام الله ورسوله , فينبغي الإكثار منهما.
***
العروض والقوافي
لا أقول: إن درس هذا العلم يتوقف عليه قرض الشعر , فكثير من الشعراء
المفلقين يجهلونه جهلاً تامًّا، وأكثر الذين يعرفونه يتعاصى عليهم معالجة النظم؛ لأن
قرض الشعر ملكة تقوى بالعكوف على دواوين الشعراء وحفظ الكثير المتخير منها
وفهمه، ثم تقليده ومعارضته، وتلك طريقة المتقدمين والمتأخرين , وحسبك
بالبارودي رحمه الله مجدد الشعر في العصر الحديث , فقد كان فحلاً من فحول
الشعراء دون أن يتعلم اصطلاحات العروض والقوافي , بله النحو والصرف
والبلاغة.
نعم إن هذا العلم يفيد من لم يكن شاعرًا بطبعه أن يقرأ ما يقرأ من الشعر
صحيحًا سليمًا من الاضطراب، فيسهل عليه فهمه، ولا يعزب عنه مراد الشاعر،
وقد يكون منشطًا له إلى معالجته , ثم التبريز فيه.
لذلك يحسن وضع مختصر فيه؛ ليدرس على الطريقة التي رسمناها في
القواعد كأن يقرأ الأستاذ البيت أمام الطلبة، ثم يبين لهم وزنه، ويسنده إلى بحره،
ويرشدهم إلى ما فيه من زحاف أو علل، ويساعدهم بمعرفة الأسباب والأوتاد على
طريقة الوزن، ثم يأتي بآخر من نوعه ويطالبهم بوزنه , وهلم جرًّا , حتى يثبت
ذلك في أذهانهم.
ولا بأس أن يطرح أمامهم بيتًا من الأبيات , ويطالبهم بمعارضته، أو يضع
معنى من المعاني , ثم يطالبهم بالنظم فيه، فإن في ذلك تنشيطًا لأفهامهم، وشحذًا
لقرائحهم، ومعينًا على قرض الشعر لمن عنده استعداد لقرضه.
***
الكلمة الأخيرة
هذه فكرتي في تعليم اللغة , أقدمها لجماعة العلماء المحتفلين بتكريم أمير
الشعراء , وكلهم إمام في اللغة غيور عليها، وفيهم كبار رجال التعليم في وزارة
معارفنا المصرية، وهم الذين يسند إليهم وضع نظم التعليم ومراقبة سيره في
المدارس , ووضع التقارير الضافية له، بل هم أجدر الناس بلمس عيوب التعليم
وتلافي ضررها، وقد أصبحوا الآن والحمد لله أحرارًا لا تسيطر عليهم رقابة أجنبية،
ولا تغل أيديهم عن العمل قوة دنلوبية.
ولعل هذه الكلمة الهادئة المتواضعة تتقبل بقبول حسن، فتكون نواة لأبحاث
مستفيضة في هذا الباب، بل جذوة لإضرام ثورة أدبية تأتي على الأخضر واليابس
من نظم التعليم العتيقة الرثة.
والله يوفق من شاء لخير الأشياء , والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
... ... ... ... ... ... ... مدرس الأدب بالمدارس الثانوية