نجم بمصر هذه الأيام قرن بدعة (ميرزا غلام أحمد القادياني) بعد أن كانت محصورة في الهند ثم بثت دعوتها في أوروبة والبلاد الأمريكية فصارت كالبهائية ذات دعاة وأتباع يبثون تعاليمهم في رسائل يطبعونها ويوزعونها، ومقالات ينشرونها. كانت مسألة الاعتقاد بالمهدي المنتظر مثار فتن كثيرة وبدع كبيرة، وسفك دماء غزيرة، كان آخر مظاهرها في البلاد الإفريقية مهدي السودان، وفي آسيا (الباب) الذي ظهر في إيران، وكان أمثال هؤلاء المبتدعين غافلين عن مسألة الاعتقاد بنزول المسيح على الأرض في آخر الزمان حتى قام بها البهائية ونظموا دعوتها وجعلوها قاعدة دعوتهم للنصارى، كما كانوا جعلوا قاعدة دعوتهم للمسلمين مسألة المهدي المنتظر، ولكل من الدعوتين عندهم درجات كدرجات سلفهم من باطنية الإسماعيلية، ولكنها مناسبة لحال هذا الزمان، وآخر درجاتها دعوى الألوهية والربوبية لزعيمهم البهاء. ثم ظهر ميرزا غلام أحمد القادياني في الهند فادعى أنه هو المسيح المنتظر، وأن الوحي نزل عليه بذلك، وقد رددنا عليه في عصره، ورد علينا وهجانا في مصنف خاص أملاه عليه وحيه الشيطاني، وكان من وحيه هذا أن صاحب المنار (سيهزم فلا يرى) ولو نزل بنا قضاء الله تعالى بموت أو نكبة يبطل بها المنار، لكان ذلك من أكبر فتن أتباعه الأغرار، ولكن ظهور الكذب والخذلان مما ينساه أو لا يراه أمثال هؤلاء العميان. ضل كثير من المسلمين بدعوتي البهائية والقاديانية، فلهذا كانت الدولة البريطانية مؤيدة ومساعدة لهما في الهند وإيران وفلسطين ومصر، كلهم مخلصون لها، مؤيدون لسياستها، وقد كان حسين روحي أفندي البهائي أمين معتمدها في الحجاز منذ بدء الثورة الحجازية، وقد كنا نظن أن بدعة القادياني لا تتجاوز بعد موته ما نسخه من أحكام الشريعة - وأهمها وجوب الجهاد - ثم علمنا أنهم يدعون استمرار الوحي والنبوة في أتباعه، وقد نشروا في هذه الأيام رسالة مطبوعة في الدعوة إلى دينهم المسيحي الإسلامي، وضعها بالإنجليزية (ميرزا بشير الدين محمود أحمد) زعيم الحركة الأحمدية من قاديان - بنجاب بلاد الهند. وترجمها بالعربية (الرحالة عبد المجيد كامل) صاحب (رحلة في بلاد الناس) وطبع على نفقة الحركة الأحمدية بمصر. موضوع الرسالة (الصلاة عند الإسلام) وصلاتهم صلاة المسلمين في الصورة، وإنما تخالفها في المعنى والعقيدة، فقد علق واضع الرسالة على تفسير {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: ٧) تعليقًا صرح فيه بأصل ارتدادهم عن الإسلام وهذا نصه: (ملحوظة: لقد وضع كل دين من الأديان المتبعة نموذجًا خصوصيًّا، ولا شك أن أفضل تلك النماذج هو ما وضعه الإسلام. إن في هذا الدعاء لإرشاد المسلم بأن يتوسل إلى الله بأن يهديه صراط الذين أنعم عليهم، أو بعبارة أخرى: يتوسل إلى الله أن ينعم عليه بمثل ما أنعم به على أولئك المنعم عليهم الذين قيل عنهم في موضع آخر من القرآن ما يفهم منه أنهم أصحاب النبي والصديقون والشهداء والصالحون، وقيل في موضع آخر: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ} (المائدة: ٢٠) . وجاء في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم إنما هم الأنبياء [١] ، فالنبوة إذًا هي أسمى المراتب التي يتطلع إليها المسلم، لذلك ابتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يحشره في زمرة الأنبياء، وهو نموذج لم ينسج على منواله دين من الأديان على الإطلاق، بل جميعها سدت طريق الوحي الإلهي في وجوه العالم، فالدين الإسلامي وحده هو الذي يرشد تابعيه إلى أن طريق الوحي لا يمكن أن يُسَدُّ في وجوه الناس؛ إذ إن الله الذي خاطب الناس وقتًا ما لن يكف عن هداية شعبه ومخاطبته) . (إن هذا النموذج فضلا عن كونه نافٍ للاستحالة، فإنه يفتح أمام ذوي القلوب الطاهرة طرق النجاح التي لا نهاية لها، ويرسم لهم طريق السعي للاتصال بالله خالق الأكوان ومنبع كل قوة ومحبة) . (لقد أنبأنا النبي الأقدس صلى الله عليه وسلم بظهور أحد أعاظم أولئك الذين أنعم الله عليهم واسمه (المهدي والمسيح) فهو يُدعى (المهدي) لأنه يهدي مسلمي وقته الذين انغمسوا في الخطايا ونسوا أوامر الدين الإسلامي حتى لم يعد في أقوالهم وأفعالهم أثر لجمال الإيمان، ويسمى (المسيح) لأنه يتمم النبوات المختصة بعودة يسوع المسيح إلى الأرض، وهداية العالم المسيحي الذي خالف التعاليم المسيحية كل المخالفة) . (ولقد ظهر ذلك الذات في (الهند) بمحل يقال له (قاديان) وفي ظرف ثلاثين عامًا من حياته الرسولية، قوى دعائم الإسلام بمعجزات جديدة من عند الله، وقد يوجد الآن آلاف من حوارييه يستمعون الوحي الإلهي) . (ولقد عاش عيشة ملؤها الهداية الروحية بين أشياعه الذين فازوا فوزًا مبينًا باتجاه العالم إليهم، فهناك الشيخ (فاتح محمد سيال) وحضرة (عبد الرحيم نيار) يبشران بالإسلام في إنجلترا، ومفتي (محمد صادق) في أمريكا، فلا غرو أن إعلام الناس بأنه من الممكن الحصول على الوحي في أي وقت قد كان من الأخبار السارة التي تدعو إلى تشجيع المسلم الحقيقي في كل آن، وتعد قياسًا للحكم بين الأديان المختلفة) . (إن الدين الصحيح الحي لهو الذي لا يخلو من الثمر أبدًا، ولا ثمرة للدين إلا الاتصال بالله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الوحي) . (ليس الإسلام كغيره من الأديان التي تتمشى بأتباعها إلى أحط الدرجات بل هو يسمو بتابعيه إلى أعلى ذروة الخيال الذي يمكن أن يصل إليه فكر الإنسان، وعلى ذلك فهو أوحد الأديان الذي يشفي غلة الطبيعة البشرية، وأن أكبر حجة يتمسك بها الملحد ضد جميع الأديان إنما هي قوله: إنه إذا كان هناك إله كما يدعون فلماذا لا يظهر بنفسه للناس؟ أما هذا الاعتراض فلا يمكن أن يوجه إلى الإسلام الذي لا يعتمد في براهينه على القصص الماضية، بل يعلن بأن هناك رجال (؟) حتى الآن يُوحَى إليهم عَلَمُهم الزعيم الروحي (ومهدي هذا الزمن) . اهـ. (رد المنار) إن بين مسيح الهند الدجال وبين باب إيران شبهًا في أن كلاًّ منهما كان مصابًا بجنون الهوس الديني حتى لا يبعد أن يكون معتقدًا لما ادعاه، وفي أن تأثيره كان محصورًا في الأعاجم؛ إذ تصدى كل منهما لتأويل القرآن والأحاديث بجرأة وجهل وإسراف في الكلام، فافتُتن بهما بعض جهلة الأعاجم؛ إذ صدقوا أنهما بالإلهام والوحي أمكنهما أن يجولا تلك الجولات الواسعة في كيان الله عز وجل، ولو كانوا يفهمون العربية لسخروا من هوسهما ووصيهما الشيطاني. وكان القادياني أعلم بالعربية وآدابها من الباب، فهو قد عني بفنونها وآدابها كل العناية فكان يحفظ مقامات الحريري والمعلقات السبع وكثيرًا من المنظوم والمنثور، ولكنه على هذا كله لم يحصل ملكة الإعراب ولا ذوق الآداب فيها فكان كثير اللحن والغلط فيما يقول ويكتب، وكثير الخطأ والشطط فيما يفسر به الكلام، وكان لصًّا جريئًا على السرقة بمزج شعره ونثره بما يحفظه بعينه أو بتغيير ما فيه، فكان أتباعه يخدعون الأعاجم بذلك، وتجرأ هو على دعوة إعجاز كلامه كالقرآن العزيز ولذلك عظم عليه الأمر عندما قلت في ردي على كتابه: (إعجاز أحمدي) إنه كثير اللحن والغلط، واللغو الذي لا يفهم له معنى صحيح في هذه اللغة، وألف كتابًا خاصًّا في الشكوى والتبرم من رَدِّي ظهر فيه من ضعف نفسه، واضطراب حدسه، ما يدل على أنه مخذول لا مؤَيَّد من الله تعالى، ولولا تناقض هؤلاء الموسوسين لعددت هذا دليلاً على أنه متعمد لقول الزور، غير مخدوع بنفسه ولا مغرور، فقد عُهِدَ مثلُ هذا التناقض من أمثاله: ادعى رجلٌ سوري النبوةَ وجاء ليظهر نبوته في مصر، فلما بلغ بورسعيد أرسل منها برقيات إلى الخديو ولورد كرومر ورئيس النظار ورئيس تحرير الأهرام وصاحب المنار يبشرهم بوقت تشريفه لعاصمة ملكه، وكان يتردد عليَّ ويقول لي: إنك ستكون مني كأبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان يقبل يدي أحيانًا ويتذلل لي لأساعده على إظهار دعوته! مثال ذلك أنه ترجح عنده أن يستبدل الآستانة بالقاهرة، فكلفني أن أكلم رؤوف باشا المعتمد العثماني بأن يطلب له من الدولة أسطولاً أو بارجة حربية لأجل نقله إلى الآستانة، قلت له: إني إن أطلب هذا من رؤوف باشا يعتقد أنني سُلِبْتُ عقلي، ولو طلب هو هذا من الآستانة يعتقدون أنه جُنَّ ويستبدلون به غيره، وأما أنت فيمكنك أن تدفع تهمة الجنون عن نفسك بمعجزة تظهرها للباشا إن كنت نبيًّا كما تقول ... قلت: إن هؤلاء قد ضلوا بجهل العربية، وهذا شاهد قطعي على وجوب هذه اللغة على كل مسلم، فإذا كان من ادعى أنه المسيح المُؤَيَّد بالإعجاز في كتبه يزعم أن البسملة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى مسيحيته هو، فلا عجب إذا ادعى هو وأتباعه أن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: ٦-٧) يدل على طلب النبوة بدليل أن المنعم عليهم (إنما هم الأنبياء) فعلى هذا يكون المفروض على كل مسلم أن يطلب من الله تعالى في كل ركعة من صلاته أن يجعله نبيًّا يوحى إليه هذا الفهم الذي جاءنا به هؤلاء الأعاجم قد فات الصحابة والتابعين من العرب الخُلَّص ومواليهم، وفات جميع واضعي فنون هذه اللغة لضبط ألفاظها ومعانيها وفلسفتها وآدابها وأسرار بلاغتها، وجميع من فسر القرآن من السلف والخلف - حتى قام بعض أعاجم الهند في القرن الرابع عشر يزعمون أنه أصل الإسلام وركنه الأعظم الذي امتاز به على جميع الأديان. لقد كنت أظن أن ضلالة هؤلاء المسيحيين القاديانيين قد وقفت عند حد لا تتجاوزه هو دعوى ظهور المسيح والمهدي المنتظرَيْنِ، وأن هذه الدعوى ستموت ويخجل أهلها منها بظهور كذب مسيحهم في دعواه أنه أبطل الحرب والجهاد من الأرض، واستبدل بهما السلم العام، وقد ادعى البهائية عين هذه الدعوى؛ إذ كان كل منهما يتوهم أن أوروبة تريد ذلك، ثم كذبت أوروبة الدينين الجديدين، بحرب طرابلس الغرب وحرب البلقان، ثم بالحرب العامة التي لم يسبق لها نظير في تاريخ العالم باتساع شرها، وعظائم ضرها، ولكن ظهور كذب دعوى البهاء والقادياني لا يرجع زعماء أديانهما عنها، وترك هذه الرياسة ونعيمها وثروتها، ولا يرجع من قلدوهم تقليدًا أصم أعمى، كما أن رد السواد الأعظم من المسلمين والنصارى لدعواهما لم يمنعهما من الإصرار على ادعاء هداية أهل الدينين وتغيير حال الأرض. وإذ قد ظهر لي أن القاديانية قد ازدادوا ضلالاً، وأنهم نظموا دعوتهم وحاولوا تعميمها كإخوانهم مسيحيي البهائية، فسأجدد الرد عليهم وتفنيد مزاعمهم في مقالات تترى في الأجزاء الآتية، إن شاء الله تعالى.