تكلمنا في النبذة الأولى من هذه الترجمة على فطرة سعد الزكية، وغريزته الاستقلالية، ووراثته للسجايا العربية، كالفصاحة والشجاعة والحرية، وحاجته إلى تربية حكيمة وتعليم نير يكمل بهما استعداده لعظائم الأمور. ثم تكلمنا على هداية الله له , وسوقه إياه عند إرادته طلب العلم إلى حضن الأستاذ الإمام , فكان له تلميذًا عنه يتلقى العلم، ومريدًا إليه ألقى مقاليده في تربية النفس، كما أنه أدرك معه أواخر عهد حكيم الأمة السيد جمال الدين الأفغاني، فكان يختلف إلى مجالسه، ويلتقط بعض ما ينثر من درره، وتنفعل روحه بما يتجلى في شكل خلقته، وعلو همته، وملامح نظرته، من شعاع ينبعث من عينيه، وحرارة تفيض من بين جنبيه، وحكمة تتدفق من بين ماضغيه، وهمة تتضاءل أمامها العظائم، وشجاعة تجبن دونها الضياغم، وناهيكم بفصاحة لسانه، وقوة عارضته، وتأثير خطابته. حدثني حفني بك ناصف وهو كسعد ومحمد باشا صالح من الرعيل الأول من تلاميذ الأستاذ الإمام قال: كنا إذا قيل لنا: إن السيد سيخطب الليلة نفضل سماع خطبته على سماع أطرب المغنيين (كالسي عبده) فنؤثرها عليها حتى إن المدعو منا إلى وليمة عرس يترك الإجابة لها، وكنا نجد في أنفسنا من سماع خطبته (وكذا سائر كلامه في الإصلاح) أن الواحد منا جدير بإصلاح مديرية أو إصلاح مملكة اهـ. قد صار جميع الذين اختلفوا إلى مجلسه خطباء يتفاوتون بقدر معارفهم ولسنهم، وكان الأستاذ الإمام أوسعهم علمًا وأصحهم حكمًا وأفصحهم لسانًا وأحسنهم بيانًا وأبلغهم قلمًا، وكان يليه في سلاسة الإنشاء ودقة التعبير إبراهيم بك اللقاني، وانفرد إبراهيم بك المويلحي ببلاغة الترسل ونكت النقد، فخلف وراءه فيهما كل أحد، وخطابة إبراهيم بك الهلباوي معروفة للجماهير لأن الشيخوخة لم تنل من منته، ولم تضعف من شرته، ولم تخفض من جرس صوته، وقد اشتهر السيد عبد الله نديم بخطابة التهييج في عهد الثورة العرابية فكان مسعر نارها , ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، فإنه ذو خلابة وغلو، ولا يهيج العوام إلا الغلو، وأما سعد فقد بز الجميع في الخطابة الجدية بعد أن زاولها في عهد اشتغاله بالمحاماة، وإن أصعبها مركبًا، وأعزها مطلبًا، وأعلاها على العقول منالاً، وأعصاها على فصاح الألسنة مقالاً، لهي الخطابة السياسية، في متنازع المصالح الدولية والمطامع الاستعمارية، كما هو شأننا مع الدولة البريطانية، وقد أصاب سعد القدح المعلى منها، حتى شهد له أشهر خصومه الإنكليز وغيرهم بنبوغه فيها، وكانت أفعل مواهبه في زعامته، وكان مع هذا كاتبًا مجيدًا، والأستاذ الإمام هو الذي علمه الإنشاء، ثم مرنه عليه بجعله أحد المحررين بالقسم الأدبي في الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) في عهد توليه لرياستها مع إدارة المطبوعات العامة. وقد رأى القراء نموذجًا من مكتوباته العادية لأستاذه وأستاذنا إذ كان في بيروت عقب نفيه من مصر [١] . *** (٣) إيمان سعد وخلائقه وتأثيره في عمله قد علم مما تقدم أن سعدًا تربى في حجر الأستاذ الإمام تربية إسلامية استقلالية , فكانت عقيدته الدينية راسخة , وآدابه الإسلامية عالية ظهر أثرهما في أعماله الكسبية , ونزاهته فيها عن الطمع والدناءة وأهل السحت، بل كان يقيد في دفاتره ما يأخذه من مقدم جعل الوكالة في المحاماة في دفتر الأمانة لا في دفتر الدخل والإيراد، ليردها إلى صاحبها إذا لم يقدر على عمل شيء له.. ولم يكن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها على الباطل، وربما كان ينصح لبعض الذين يطلبون توكيله عنهم نصائح يستغنون بها عن توكيله، حدثنا عن نفسه أن رجلاً عرض عليه أن يوكله في قضية ذكرها له , فقال له: إنني لا أقبل جعلاً منك أقل من مائتي جنيه، وقضيتك هذه بسيطة لا يحتاج المدافع فيها عنك علمًا واسعًا , ولا حججًا تعجز أنت عن الإدلاء بها كما ألقنك، فأنا أذكر لك ما أدافع به عنك إذا قبلت الوكالة , وأرجو أن يحكم لك به كما يحكم لي إذا كنت صادقًا فيما ذكرت لي من موضوع القضية، فاسمع ما أقوله لك , ووفر على نفسك مبلغ ٢٠٠ جنيه , وذكر له ما يجب أن يدافع به , فقال الرجل: بل أرجو أن تقبل الوكالة عني , وتدافع لي في المحكمة بنفسك وتأخذ الجعل حلالاً طيبة به نفسي. قال سعد: فقلت له قبلت , وسترى وتسمع صدق ما نصحت لك به، وذهب إلى المحكمة في بنها ومعه الموكل , وقال فيها عند الدفاع عنه ما كان ذكره له بعينه , وحكمت له المحكمة على خصمه , (قال) : وكان دفع لي نصف الجعل فلما جاءني بالنصف الآخر قال لي: أتظن أني أبله (عبيط) لم أفهم نصيحتك لي أو لم أصدقها؟ كلا إنني فهمتها وصدقتها , ولكنني رجل ذو نعمة وأطيان واسعة , وقد كثر المعتدون علي , فأردت أن يعلموا أن وكيلي (سعد زغلول) ليكفوا عن الاعتداء علي , فأنا وفرت بهذا المبلغ مالاً كثيرًا أو تعبًا لا يُعْرَف آخِره! . اهـ وهذا القول يدل على بعد مدى الصيت الذي وصل إليه سعد في أثناء اشتغاله بالمحاماة. ثم إن سعدًا دخل في أطوار التفرنج في معيشته وأفكاره الاجتماعية والقانونية، وغلبت نزعة الوطنية المصرية عنده على فكرة الجامعة الإسلامية، وظل يقول بأن المسلمين لا يرتقون ارتقاء صحيحًا إلا بالإصلاح الديني الذي كان يدعو إليه الحكيمان أستاذه وأستاذ أستاذه، وأما العبادات فلا نعلم أنه كان يذهب إلى المساجد إلا في بعض الاحتفالات الرسمية في عهد وزارته وبعض صلوات الجمعة في زمن زعامته، وأنكر عليه أهل الدين أمورًا منها عمله في تجرئة النساء على السفور المتجاوز للحد الشرعي، ولكنه قاوم الدعوة إلى لبس البرنيطة. وأما إيمانه بالله وتوحيده له وتوكله عليه فلم يزدد في هذه السنين الأخيرة إلا قوة وثباتًا، حتى إنه صار حالاً له ووجدانًا، وقد بلغ من الإيمان بالقضاء والقدر أن صار من قبيل من يسميهم الصوفية أهل الفناء في التوحيد , أو ممن يسميهم المتكلمون بالجبرية , فكان كثيرًا ما يصرح في الكلام على كل ما مسه من مصيبة، وكل ما أُوتي من فلج على الخصوم في حادثة، بأن هذا فعل الله وحده، وأنه لا حول له فيه ولا قوة، حتى إنني ناظرته في بعض كلامه هذا , وبينت له فيه مذهب السلف ومذهب متكلمي السنة , فكان يقول: إنني أعبر عما أشعر به , وأراه ضروريًّا لا اختيار لي فيه مهما تكن المذاهب، وكان أول عهدي بهذه الحال فيه عقب فوزه المضاعف في انتخابه للجمعية التشريعية في دائرتين، بعد أن تصدى لمناهضته في الانتخاب صاحبا السلطتين، سلطة الأمير الشرعية، وسلطة عميد الاحتلال الفعلية. وقد جرى بيني وبينه مناظرات كثيرة في بعض المسائل الشرعية الاجتهادية , وبعض المشكلات في تفسير القرآن , فكان فيها كلها متحليًا بالاستقلال والإنصاف لا يتعصب لرأيه ولا فهمه، ولا يجد أدنى غضاضة في قبول ما يظهر له أنه الصواب وكان يسأل عن بعض المشكلات سؤال استفهام لا يشوبه رأي يحتج له أو يدافع عنه. جلست بجانبه في مأتم صديق الجميع حسن باشا عاصم رحمه الله تعالى , وكان القارئ يقرأ سورة النمل , فسألني عدة مسائل في بعض الآيات , وقبل مني كل ما أجبته به عنها , وربما كان يكون الجواب كلمة واحدة. مثال ذلك أنه سأل عند قوله تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} (النمل: ٣٤) الآية , قال: إن الأمر ليس كذلك الآن، وكم يحفظ التاريخ مثل ما تراه الآن من زيارة الملوك لعواصم غير بلادهم , فما المراد من الآية؟ قلت: المراد إذا دخلوها فاتحين , قال: ظاهر. وسألني مرة عن الإنجيل المنزل على عيسى بن مريم كما ورد في القرآن أين هو؟ وإنما عند النصارى أربعة أناجيل هي عبارة عن تواريخ وجيزة كالسيرة النبوية عندنا، قلت: إن الإنجيل المفرد المذكور في القرآن مذكور في هذه الأناجيل الأربعة أيضًا , وفي غيرها من كتب تلاميذ المسيح ورسله المعبر عنها عندهم بالعهد الجديد كقوله للحواريين (التلاميذ) : (واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) كما ترى في أواخر إنجيل لوقا عنه عليه السلام. وأول كلمة في إنجيل مرقس: (بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله) , فهذا الإنجيل المفرد في كلامهم هو الذي يعنيه القرآن , وهو ما كان يعظهم ويبشرهم به , ولم يوجد كله في كتاب كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٤) إلخ ما فصلته له , فأعجبه , ومن شاء الوقوف عليه فليراجعه في أول تفسير سورة آل عمران وغيره من تفسيرنا. فمن كان يسمع منه إشكالاً مثل هذا أو ذاك يظن أنه معترض على القرآن وهو لا يبالي ذلك، والأقرب أن يقال: هو مستشكل لا معترض، ولولا أنه كان صريحًا في أمثال هذه الإشكالات إذا عرضت , ومجاهرًا بما أنكرنا وأنكر غيرنا عليه لما ذكرناه. وأرجى ما يرجى له عند الله تعالى قوة إيمانه به وتوحيده إياه توحيدًا علميًّا وجدانيًّا لا يشوبه شرك في ألوهيته تعالى ولا في صفاته ولا في أفعاله، حتى كاد يكون منكرًا للأسباب أن يكون لها تأثير في الوجود كما علمت , وأنه كان إذا ظهر له الحق يذعن له وينقاد , فهو حسن النية فيما أخطأ فيه. لهذا أنكرت على الذين كانوا انشقوا عليه من الوفد , وطفقوا يطعنون عليه بأنه متكبر مستبد، وعلى من قلدهم في ذلك، أنكرت على هؤلاء كلهم قولاً ومناظرة لبعضهم في المجالس وخطابًا على المنابر وكتابة في المنار، وقد كتبت مقالاً طويلاً في تلك الأثناء نشرته في الجزء ٧ من المجلد ٢٢ (سنة ١٣٢٩ هـ ١٩٢١م) بلغت صفحاته ٢٧ صفحة عنوانه (الطور الجديد للمسألة المصرية) ومما ذكرته فيه من خطبة لي في إحدى الاحتفالات بعد عودته من أوربة إثر تولية عدلي باشا للوزارة وظهور الشقاق في أثنائها ردًّا على من اتهم سعدًا بالكبرياء والاستبداد بالرأي (إن الذي نعهده فيه بالاختبار هو الاستقلال في الرأي , واحترام الحقيقة , والاعتراف بها إذا ظهرت له، وطالما شهدنا له في داره محاورات في مسائل علمية وشرعية واجتماعية كان ينصف فيها مناظريه ومحاوريه بكل ارتياح، ويعترف بصحة رأيهم إذا ظهر له أنه الصواب، وربما كنا معهم أو منهم في بعض الأحيان) اهـ. على أنه كان شديد الإعجاب بنفسه، وعدم المبالاة بخصمه؛ بل غلبت عليه في المدة الآخرة المحاباة السياسية، على ما سبق له في الأولى من العدالة القضائية، فصار يؤثر المتملقين له على المتنزهين عن التملق والدهان حتى من محبيه الناصحين , وكنت ذكرت في مقالي المذكور آنفًا (الطور الجديد للمسألة المصرية) ما ينتقد عليه من ضعف السياسة بغلب ملكة القضاء عليه، ولما قرأ تلك المقالة في المنار قال: هذه مقالة تحفظ للتاريخ، سمع هذا منه محمد بك يوسف المحامي المشهور , وهو الذي نقله إلي. وجملة القول أن سعدًا قد ربي تربية إيمان وعقل، واستدلال واستقلال، وحب للحق والعدل، وعزيمة قوية، وشجاعة أدبية، فكانت هذه التربية سبب نجاحه في كل عمل تولى أمره، وكانت أعماله في الكتابة والتحرير , ثم في المحاماة , ثم في القضاء في وزارتي المعارف والحقانية , ثم في الجمعية التشريعية هي المكملة لاستعداده الفطري لزعامة الأمة , واضطلاعه بما حمل من أعبائها، والاستهانة بأعظم الأخطار في سبيلها، وكان استعداد الشعب مع استعداده هما السبب فيما نال من الفلج والظفر في مكافحة بريطانية العظمى فقد صرحت الجرائد الإنكليزية المشهورة بأن كفاحه كان هو السبب في رفع الحماية الرسمية عن مصر والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة القومية، ولما كان هذا الاعتراف مقيدًا بما سموه التحفظات الأربع لم يعتد ولم يزده إلا مضاء في جهاده. والأمة لم تأل جهدًا في تأييده وتفويض أمر قضيتها له، ولولا ذلك لذهب استعداده كما ذهب استعداد أستاذه الذي كان أكبر من استعداده كما سنفصله في النبذة الثالثة من هذه الترجمة إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))