(س ١٢) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية. سيدي الحكيم قدوة العلماء وتاج الفصحاء. من لا أسميه إجلالاً وتَكرمة ... فقدره المعتلي عن ذاك يغنيني أتطفل على مائدتكم العلمية التي أبهرت العقلاء وأعجبت الفصحاء لما عليها من أصناف المعارف الحية وأنواع التعاليم الصحيحة- راجيًا من علو آدابكم ومكارم أخلاقكم أن تفسحوا لي المقام، فإن لي قلبًا يصبو إلى ما يفوه به فوكم من الدُّرَر، وما ينطق لسانكم من الحِكم والعِبَر وما ينزه قلمكم من الفكر. في هذه الأيام كثر الجدال حتى كاد يُفضي إلى الهلاك في مسألة (انشقاق صدر الرسول -عليه الصلاة والسلام- وإخراج قلبه وتطهيره من حظ الشيطان الذي وجد معه من يوم أن ظهر على الأرض ونزل من بطن أمه وامتلائه حكمة) اختلفت آراء القوم وتباينت في تلك المسألة فمن مصدِّق عليها مقر بحدوثها ومن مكذب لها مفنِّد لا يلوي إلا على ما يثبته البرهان ويقبله الوجدان ويقر به العقل الرجيح - أما المصدق لها فأدلته ما جاء في البخاري بما معناه: أن النبي بينما كان يلعب في الصغر مع أقرانه؛ إذ نزل عليه جبريل فصرعه وشق صدره فأخرج قلبه وطهره من خبائث الشيطان أو بالأحرى من موضع يوسوس له فيه الشيطان وملأ قلبه نورًا وحكمةً. ولم يكتف جبريل بشق صدره مرة بل شقه مرات تبعًا لازدياد الحكمة ونموها فيه كلما كبر حتى كان ليلة الإسراء، وهو نائم ناداه من أحد الثلاثة منادٍ (كما يقول البخاري) فقام إليه وأتى، فإذا جبريل، وقد أفرج صدره ونظف قلبه ثم أسرى به- وقد قال النبي بما معناه: كل مولود يستهل معه الشيطان. فسئل: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: (حتى أنا، ولكني تغلبت على شيطاني) قال الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج: ٥٢) الآية. وأما المكذب لها فإنه باقٍ على تكذيبها، وها هو قد كتب إليكم؛ ليسترشد بنور علمكم الساطع لاعتقاده بأنك الزعيم الأكبر للمسلمين. تلك هي المسالة التي أرجو من حضرتكم إما تأييدها لنسير على مقتضاها، وإما نفيها وبذلك تنتفي الشُّبه والأباطيل التي تشوه سُمعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- والأمل وطيد في أن يكون الرد سريعًا لا زلت محفوظًا من الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم الخاضع ... ... ... ... إسماعيل حسن خليه *** (ج) لا بد أن يكون مرادكم بتكذيب المسألة تكذيب الرواية أو الروايات الواردة فيها التي أوردتم بعضها بالمعنى فخالفتم اللفظ والمعنى، وقرنتم به آية الحج وليست من معناه في شيء بل معناها أن الرسل والأنبياء إذا تمنوا لا يتم لهم موضوع أمانيهم بسبب وسوسة الشيطان للناس ولا محل لتفصيل ذلك هنا. وقد صرحتم بأن سبب التكذيب اعتقادكم أن مضمونها يعد طعنًا في سمعة الرسول - صلى الله عليه وسلم- يجب أن ينزه عنه. ولكن لا ينبغي لمسلم أن يرد حديثًا مرويًّا إلا بعلة في سنده، أو معارضة ما هو أقوى منه لمتنه بشرطه، ومن أشكل عليه فهم شيء من الأحاديث فعليه أن يبحث ويسأل لا أن يرده بهواه، ويكذب من لا يعرف سيرته من الرواة. وإننا نورد هنا مما روي في هذه المسألة أصحها سندًا ونبين ما في أسانيدها ومتونها مما يمكن أن يتعلق به من ينفي وقوع شق الصدر حقيقة، ثم نبين ما ينبغي أن توجه به المسألة على تقدير صحة وقوعها فنقول: روى حديث شق الصدر في الصغر مسلم - لا البخاري- قال: حدثنا شيبة بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقًا فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأَمَه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره (أي: مرضعته حليمة السعدية) فقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون. وأقول: إن في هذا السند مقالاً قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب في شيبان بن فروخ: صدوق يهِم (أي يخطئ) ورُمي بالقدر. قال أبو حاتم: اضطر الناس إليه أخيرًا. من صغار التاسعة. وقال في شيخه حماد بن سلمة: ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، ومن كبار الثامنة اهـ. وقال في تهذيب التهذيب بعد ثناء الأئمة عليه: وقال البيهقي: هو أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه؛ فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا ذكرها في الشواهد. ثم قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وأقول: يؤخذ من هذا الكتاب ومن ميزان الاعتدال أنهم أنكروا من روايته عدة أحاديث شاذة في الصفات قيل: إنها دُست في كتبه. هذا أصح ما رُوي في هذا الباب، وقد علمت ما في سنده، ثم إن أنسًا لم يرفعه وما كل ما يرويه الصحابي عن مجهول يُحتج به بل يفرق في روايته بين أحكام الدين وبين الأخبار عما كان قبل الإسلام؛ إذ يمكن أن ينتهي الخبر إلى بعض المشركين، وقد رُوي خبر شق الصدر عن حليمة السعدية مرضعته -صلى الله عليه وسلم- من طرق أخرى عند أهل السيَر والطبراني والبيهقي وأبي نعيم وابن عساكر كلها دون طريق مسلم منها الضعيف والموضوع كرواية البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس عن أبيه من طريق محمد بن زكريا الفلاني وكان كذابًا يضع الحديث. ورواية أبي نعيم وأبي إسحق وغيرهما عن عبد الله بن جعفر عن حليمة من طريق جهم بن أبي الجهم. قال الذهبي: لا يُعرف، له قصة حليمة السعدية. فإذا كان السائل يرى أن هذا الحديث لا يصح لما رآه في متنه غير لائق بمنصب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد علم أيضًا أن في سنده مقالاً، وليس هو من عقائد الدين ولا من أحكامه القطعية. وقد ورد خبر شق الصدر في أحاديث المعراج أيضًا المروية في الصحيحين والسنن وغيرها، وقد استشكلها بعض العلماء فنورد منها ما لا بد منه لبيان هذه المسألة. أحاديث قصة المعراج في الصحيحين مدارها على أنس بن مالك، فمنها ما رواه بنفسه، ومنها ما رواه عن غيره. وقد ذكر في بعضها شق الصدر دون بعض، فأما حديث أنس فلم تُذكر قصة شق الصدر في طريق من طرقه إلا طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عنه وهو في صحيح البخاري وتفسير ابن جرير، قال أنس: ليلة أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، وقال أحدهم: خذوا خيرهم [١] ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى [٢] فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أبقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًّا [٣] إيمانًا وحِكمة فحشى به صدره ولغاديده- يعني عروق صدره- ثم أطبقه ثم عرج به. إلخ الحديث، وفي آخره (واستيقظ وهو في المسجد الحرام) وهذه الرواية صريحة في أن ذلك كله كان في النوم وليس فيها ذكر لحظ الشيطان، واحتج بها من قالوا: إن المعراج كان رؤيا منامية. وأولها من قال: إنه كان في اليقظة بالروح والجسد. ولا يحتاج إلى تأويلها من قالوا: إنه مشاهدة روحية. وفي نسخة من صحيح البخاري (فاستيقظت) بدل واستيقظ، وهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري التفات من الغيبة إلى حكاية قول النبي -صلى الله عليه وسلم -والتور الذي ذكر أنه كان في الطست إناء صغير يُشرب فيه. وفي رواية شريك هذه مخالفة لغيرها في عدة أمور استشكلوها وأنكروها عليه وغلطوه فيها أهمها قوله: (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى) مع أن الثابت في الصحيح أن آية (ثم دنا) نزلت في جبريل - عليه السلام- وهاك ما في فتح الباري للحافظ ابن حجر في ذلك: قال الخطابي: ليس في هذا الكتاب- يعني صحيح البخاري- حديث أشنع ظاهرًا وأبشع مذاقًا من هذا الفصل فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما- هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل (قال) فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعًا عن غيره ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله، وإما الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما. وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الاستشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله: (وهو نائم) وفي آخره (استيقظ) وبعض الرؤيا مثل يضرب ليتأول على الوجه الذي يجب أن يصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض لا يحتاج إلى ذلك بل يأتي كالمشاهدة. (قال الحافظ بعد نقل ما تقدم) قلت: وهو كما قال، ولا التفات إلى من تعقّب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: (إن رؤيا الأنبياء وحي) فلا يحتاج إلى تعبير؛ لأنه كلام من لم يُمعن النظر في هذا المحل. فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير. وذكر الحافظ الأمثلة من الصحيح على تأويل النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الرؤى بغير ظاهرها. ثم ذكر أن الخطابي تُعقّب في جزمه بأن ما ذكر كان في المنام وقوله: إن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي إما من أنس، وإما من شريك فإنه كثير التفرد بمناكر الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة انتهى- أي كلام الخطابي، ثم أطال الحافظ البحث فيه، ولا يعنينا من بحثه إلا قوله بأن للحديث حكم المرفوع؛ لأنه مرسل صحابي فيما لا مجال للرأي فيه، ويفسر هذا ما يأتي. وأما ما رواه أنس عن غيره مشتملاً على مسألة شق الصدر فليس في الصحيح منها إلا حديث مالك بن صعصعة الأنصاري المرفوع الذي رواه أنس عنه ولم يرو أحد عنه غيره. وأوله كما في البخاري (بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحِجر- مضطجعًا، قال الحافظ: زاد في بدء الخلق (بين النائم واليقظان) إذ أتاني آتٍ فقد قال: سمعته يقول: - فشق ما بين هذه إلى هذه.. [٤] فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أُتيت بدابة دون البغل) إلخ الحديث. والظاهر أن أنسًا روى هذه القصة غير مرفوعة عن مالك هذا فصرح باسمه مرة وأرسلها مرة أو مرارًا عند ما كان يحدّث بها وذكر في بعض المرار ما سكت عنه في بعض. وهذه تؤكد أن القصة كانت في النوم وتضعف تأويل المئولين إلا من قال بحصولها مرة في اليقظة ومرة أو أكثر من مرة في الرؤيا إن أثبت ذلك. وقد روى أنس مسألة شق الصدر في أحاديث المعراج عن أبي ذر مرفوعة في الصحيحين قال: كان أبو ذر يحدّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء) الحديث، فهذه الرواية لم يصرح فيها بأنه كان نائمًا، ويمكن حملها على المصرحة بذلك دون العكس. ولذلك جزم الحافظ بأن القول بتعدد المعراج في اليقظة بعيد جدًّا تنافيه المُراجعة في مسألة فرض الصلاة منافاةً ظاهرةً. وإذا كان الجمع بين تعارض الروايات الصحيحة السند متعذرًا بدون القول بالتعدد، وكان القول بالتعدد في اليقظة بعيدًا، بل غير معقول، فلا مندوحة عن القول بأنها كانت رؤيا منامية إما كلها أو يُستثنى واحدة منها كانت في اليقظة، والأكثرون على هذا، فيمكن أن يقال إذًا: إن شق الصدر كان في الرؤيا المنامية التي تكررت دون واقعة اليقظة إلا أن تكون هذه مشاهدة روحية كما قال بعضهم. وأما حديث مس الشيطان للمولود فهو مروي في الصحيحين عن أبي هريرة باستثناء عيسى في بعض الروايات، وعيسى وأمه في بعض، والحديث واحد، وسيأتي نصه في تلخيص الجواب. وقد استشكل بعض العلماء معناه قال الحافظ في شرحه من الفتح ما نصه: (وقد طعن صاحب الكشاف في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال: إن صح هذا الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومَيْن. وكذلك من كان في صفتهما لقوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} (الحجر: ٤٠) قال: واستهلال الصبي صارخًا من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه. وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخًا انتهى. وكلامه متعقب من وجوه والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء، بل ظاهر الخبر أن إبليس ممَُكّن من مس كل مولود عند ولادته لكن من كان من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلاً، واستثنى من المخلصين مريم وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين. وأما قوله: لو ملك إبليس إلخ فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد. وقد أورد الفخر الرازي هذا الإشكال وبالغ في تقريره على عادته وأجمل الجواب فما زاد في تقريره على أن الحديث خبر واحد ورد على خلاف الدليل؛ لأن الشيطان إنما يغوي من يعرف الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك وأنه لو مكن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك من إهلاك وإفساد وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك دون غيرهما إلى آخر كلام الكشاف. ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر انتهى قد فتح الله تعالى بالجواب، كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يُعرف مما تقدم أيضًا وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ. وأما حديث قرناء الناس من الشياطين الذي ذُكر فيه إسلام شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم- أو سلامته من وسوسته فهو مروي في صحيح مسلم من حديث عائشة وعبد الله بن مسعود ولفظ هذا: (ما منكم أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير) وقد ضبط بعضهم (فأسلم) برفع الميم واختاره الخطابي ومعناه، فأنا أسلم من شر وسوسته، وضبطها بعضهم بفتح الميم، ومعناه فصار هو مسلمًا وقيل: مستسلمًا. وهما روايتان، وقوله: (فلا يأمرني إلا بخير) يرجّح الثانية بل يوجب الجزم بها. قال النووي في شرحه: قال القاضي (أي عياض) : واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحذر من وسوسته بحسب الإمكان اهـ. أقول: وفي رواية أخرى لهذا الحديث (وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) ويوضح هذا حديث ابن مسعود عند الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه: (إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم وللمَلَك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق) إلخ وهذا الملك الذي يقابل الشيطان يسمى مَلَكُ الإلهام، وهو الذي عبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (واعظ الله في قلب كل مؤمن) وقد بينا مسألة انقسام الخواطر النفسية إلى شيطانية وملَكية في الجزء الأول من التفسير وفي هذا الجزء (السابع) منه أيضًا، فليراجع السائل تفصيل ذلك في تفسير {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} (الأنعام: ٩) من جزء المنار الثالث من هذا المجلد (ج٣ م١٩) فهو يقرب لذهنه ما لعله يراه بعيدًا عنه إذا لم يكن قرأه. وملخص الجواب أن حديث شق صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- في طفوليته وتطهيره من حظ الشيطان منه في سنده مقال ومتنه ليس مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس له حكم المرفوع. وليس متنه لا ينافي عصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن حاصل معناه أن روح القدس قد طهر قلبه وقدسه منذ الطفولية وقبل أن يصل إلى السن التي تكون فيها الوسوسة، وأن حديث شقه في قصة المعراج كانت رؤيا منامية في الراجح ولا ذكر فيها لحط الشيطان، فحاصل معناها أنها رمز وتمثيل لتأييد الروح القدس والملائكة له -صلى الله عليه وسلم- وإعدادهم إياه لمناجاة الله عز وجل مناجاة خاصة. وأما حديث مس الشيطان للمولود عند ولادته فسنده صحيح لا عبرة بمن تكلم في صحته، ولكن استثناء عيسى وحده مرة فيه واستثناؤه هو وأمه مرة أخرى إن كانتا غير متعارضتين فلا عموم في الصيغة، وينافي ذلك قولهم الاستثناء معيار العموم. وإن كانتا متعارضتين سقط الاستدلال بهما أو يقوم الدليل على ترجيح أحدهما. وقد علمت ما قاله الزمخشري في الحديث وأقواه معارضة قوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} (الحجر: ٤٠) له فإنه صريح في أن الشيطان لا سلطان له على إغواء عباد الله المخلصين. وعلمت ما أجاب به الحافظ عن هذه المعارضة، وهو أن هؤلاء العباد لا يضرهم ذلك المس؛ إذ لا يدل الحديث على أن كل من مسه الشيطان يغويه. ونقول: إنه يجوز أن يكون المراد بالمس بيان توجه الشيطان إلى التعرض للوسوسة للمولود واستعداد المولود لقبوله الوسوسة التي هي تزيين الباطل والشر في النفس، وكيفية المس على القول بأنه حقيقة لا تمثيل بحث في عالم الغيب وهو مما أجمعوا على تفويض كيفيته إلى الله تعالى إذا صح الخبر به وكان ممكنًا في نفسه. وأما حديث القرين من الشياطين والقرين من الملائكة فهو أصح سندًا وأقوى متنًا؛ لأن له شاهدًا من القرآن {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: ٣٦) والأحاديث التي وردت في توضيحه تدل على أن الأنفس البشرية فيها داعيتان: إحداهما للحق والخير، والأخرى للباطل والشر، وأن الأولى ترجح بإلهام ملكي، والأخرى بإغواء شيطاني. ولكن الإنسان هو الذي يزكي نفسه ويهذبها حتى ترتقي إلى التناسب مع روح الشيطان وتلقي وسوسة الباطل والشر منها، فمثل ملك الإلهام كمثل القرين الصالح من الناس لا يعاشر إلا من يشاكله، ومثل الشيطان كمثل قرين السوء لا يصاحب إلا من يشابهه، فكل قرين بالمقارن يقتدي، و (الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) كما ورد في الحديث الصحيح، وإذا قارف الرجل الصالح خطيئة كان تأثيرها في نفسه معدًّا لوسوسة الشيطان أو بمحوه بعمل صالح يضاده (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: ١١٤) .