للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نقل كلام المخالفين أو المبطلين

(س١) من صاحب الإمضاء في دمشق حضرة مولانا أوحد الأعلام نفع الله بعلمه الأنام.
اطلعت على كتاب لأحد علماء فاس ينتقد فيه ما جاء في مقدمة شرح نهج
البلاغة لابن أبى الحديد (صحيفة ٤ من طبعة الحلبي الجديدة) من نقله مذهب
البغاة والخوارج، ومقالة أبى القاسم البلخي في عبد الله بن الزبير (فى الصفحة
نفسها) يقول الفاسي: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقبح الله قائله فكيف يليق نقل
هذه العبارة ونشرها بين أهل الإسلام والزمان كما ترى، وأهله إلى ورا (ثم قال
الفاسي) ولما ذكر العلامة الأبي في شرح صحيح مسلم ما ذكره أهل السير من
الأمور التي نقمت على سيدنا عثمان رضي الله عنه في خلافته. قال العلامة
السنوسي في اختصاره ما نصه: قلت وقد نقل الأبي هنا كلامًا في عثمان رضي الله
عنه لا يحل له أن يفوه به، ولا أن يكتبه، وأخاف أن لا يفي بسيئته حسنة ما تعب
في تأليفه كله فنعوذ بالله من سوء الأدب في حق الطاهرين المطهَّرين، وأسأل الله
لي وله العفو والصفح والمغفرة، والواجب على من نسخ تأليفه هذا أن لا يكتب فيه
هذا المحل، ومن اطلع عليه فلا يحل له أن يفوه به ولا أن يعتقد صدقه بلا شك،
وبالله التوفيق اهـ كلام السنوسي.
فهل من ملام على إمام ينقل مذاهب الفرق وأقوالها ومعتقداتها وما تدين الله به
مما تراه حقًّا وصوابًا وطاعة مشيًا مع اجتهادها وما أداه إليه نظرها؟
وهل يلام من ينشرها ويعد مسيء الأدب مع أنه أوردها إيقافًا على المذاهب
والآراء، وإراءة لوجوه الخلاف، وإرشادًا لمواضع الشبه التي منها أتى من أتى.
وهل للسنوسي مستند في حظر التفوه به وكتابته وعده سيئة وجريمة تُحبط
عمل المؤلف في تأليفه كله؟
وهل يسلم له دعواه وجوب حذف مثل ذلك من التآليف حتى يفتح باب
التلاعب في مؤلفات الأعلام بالحذف والزيادة والنقص؟ وكان السنوسي لم يرَ كتب
المقالات والمؤلفات في الملل والنحل لمثل الإمام أبي منصور البغدادي وللإمام ابن
حزم والشهرستاني وأمثال ما جاء في آخر المواقف للعضد , فما سبب هذا الجمود
ونبذ مشرب سلفنا المحققين؟
وهل هذا يؤيد ما يرمى به القطر المغربي من التعصب الذي سبب له ما سبب
مما حاق به ويحيق.
وقد اطلعت على جواب كتبه بعض الأساتذة عندنا إلا أني رغبت أن أزداد من
العلم فيما يهم الوقوف عليه من ذلك لذا أرجو شرح هذا والتفضل بجوابه -لا زلتم
مظهرًا للإفادة-، وكوكبًا في أفق الفضل.
حامد بن أديب الشهير بالتقي.
(ج) تختلف آراء الناس باختلاف معارفهم ومشاربهم، وحال الذين يعيشون
معهم، حتى إن الرجلين ليحكمان في مسألة واحدة بحكمين مختلفين، أو يريان فيها
رأيين متضادينٍ، وكل منها صحيح القصد، متوخٍّ للمصلحة والنفع، وربما يرد كل
منهما على الآخر ويقع التعادي بينهما أو بين أنصارهما فيصدق على كل من
الفريقين أنه يجاهد في غير عدو , ومن هذا الباب وضع بعض علماء السلف
الصالحين لعلم الكلام وردهم على المبتدعة، وإنكار آخرين عليهم وعد علمهم بدعةً
ضارةً، حتى قال بعضهم لبعض: ويحك ألست تحكي بدعتهم ثم ترد عليها؟ أي
أن ذلك كافٍ في ذم علم الكلام وتحريم التأليف فيه لئلا يرى البدعة من لم يكن
يدري بها.
إنني أرى ما قاله العالم المغربي المشار إليه في السؤال، وما نقله عن
السنوسي يدخل في هذا الباب، على أن السنوسي من المصنفين في علم الكلام الذين
نقلوا عقائد الكفار والمبتدعة وردوا عليها.
لو كان ذلك المغربي عائشًا في مصر أو الشام أو الأستانة أو تونس يرى كتب
الملاحدة والنصارى في مدح دينهم والطعن في غيره، ويرى جرائدهم منشورة
متداولة أيضًا لما تهيج عصبه وتبيغ دمه لجملة أو جمل قرأها في شرح نهج البلاغة
لبعض فرق المسلمين. وسيرى في بلاده، وقد أوقعها الجهل والتعصب للمألوف في
قبضة فرنسة ما يهون بالإضافة إليه كل ما رآه في شرح نهج البلاغة مخالفًا لرأيه
ومذهبه، سيرى الكتب الكثيرة في الطعن في نفس القرآن العظيم، والنبي الكريم،
عليه الصلاة والتسليم، والكتب الداعية إلى الإلحاد، المؤلفة لهم كل اعتقاد،
وسيرى أن شبهات هذه الكتب ومشاغبات دعاة النصرانية من جهة ودعاة الإلحاد
والتفرنج من أخرى قد راجت في أذهان بعض قومه، وأن كشفها بالتسليم لقول
أمثاله من العلماء المعاصرين، أو التقليد لما في بعض كتب الميتين، غاية لا تدرك،
وأمنية لا تُنال.
إن اطلاع العوام والطلاب المبتدئين على العقائد الباطلة ومقالات المبتدعة، لا
ينكر ضرره، ولا تؤمن فتنته، كاطلاعهم على سيرة أهل الفسق والفجور، وطول
استماعهم لما يزينها للنفوس، كالأشعار والأغاني المشتملة على المجون، فإذا كنا لا
نستطيع منع افتتان أولادنا وعَوَامَّنا بالباطل إلا بإزالته وإزالة أهله من الأرض، ولا
منعهم من الفسق إلا بإعدام كل مبذولة العِرض، فما نحن بحافظيهم من الكفر ولا
من الفسق.
إن الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - قد حكى في كتابه المجيد كفر الكافرين
وإلحادهم في آياته: وطعنهم في كتابه ورسوله، ولم يمحهم بقدرته من الأرض
ليحمي المؤمنين من أباطيلهم، ويحول بينهم وبين شرورهم، وهكذا فعل حماة الدين،
وحراس عقيدة الموحدة، نقلوا عقائد المخالفين ومقالاتهم وردوا عليها بالدلائل.
إنما يُشدِّد النكير على من يكتب ما يخالف عقيدته أو مذهبه أحدُ رجُلين رجُل
شديد التعصب لما هو عليه، يرى أنه يجب على جميع الناس موافقته فيه، وأن
يتبعوا من اتبعهم، ويقلدوا من قلدهم، ورجل حريص على عقيدته ومذهبه، وهو
على غير بصيرة منه، ولا ثقة به، فهو يخاف أن تطير به كل ريح، وأن تذهب
به كل شبهة، ولا يليق هذا الضيق في الذرع، والحرج في الصدر، بالمسلم
البصير في دينه، المعتصم بيقينه، وهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يُعلى، وأنه متى
جاء الحق زهق الباطل، وأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،
وأن بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وإنما اللائق بصاحب هذا الحق واليقين أن
يقذف بحقه على باطل غيره ليدمغه، لا أن يشكو منه ويلعن من قاله أو كتبه،
ويوجب تحريفه والتصرف فيه.
من الصواب أن نمنع أولادنا وتلاميذنا من قراءة كل ما نعتقد أنه ضار أو
باطل إلى أن نكمل تربيتهم وتعليمهم ونثق بمعرفتهم للحق، واستقلال عقولهم في
الحكم، وإذًا نبيح لهم أن يقرءوا ما أحبوا فلا خوف من الباطل الضعيف اللجلج
على الحق القويِّ الأبلج؛ لأن الحق هو صاحب السلطان والفلج، ومن الصواب أن
ننصح للعوام بأن يتحاموا كتب الكافرين والمبتدعين حفظًا لأذهانهم من الاضطراب
ونأيًا بنفوسهم عن مهابِّ الأهواء، وأن نرشد محبي المطالعة منهم إلى الكتب
النافعة لهم، التي لا تفسد عليهم نعمة الطمأنينة، وهي النعمة التي لا تساميها نعمة.
لنا أن نُعْنَى بهذا وذاك، وأن نجعل لما نكتبه أو نطبعه حواشي ننبه بها على
مواضع الخطأ والصواب، وليس لنا أن نطلق القول في تحريم قراءة كل ما يخالف
اعتقادنا وحرمة كتابته وطبعه، ولا أن ننقل كلام مؤلف فننقص منه أو نزيد فيه،
فإن هذا من الكذب والخيانة، وإن قومًا يأتونه أو يستحلونه لا يثق أحد بنقلهم، ومن
زعم أن هذا جائز في الشرع فقد أهان الشرع، وصد عنه جميع العقلاء من الخلق،
وجعله دينًا خاصًّا ببعض البلداء، ووقفًا على من تلقنه من الجهلاء، وإن كان لا
يقصد شيئًا من هذه المفاسد، ويا لله العجب من شدة جرأة المتحمسين على التحريم،
والافتيات على الدين بقصد حماية الدين.
لو جرى المتكلمون والمؤرخون ونقلة اللغة ورواة الأخبار والآثار على فتوى
السنوسي والمغربي لبطلت ثقتنا وثقة جميع الناس بجميع العلوم النقلية لجواز أن
يكون كل ناقل قد حذف من منقوله شيئًا مما يخالف اعتقاده أو يرى نشره ضارًّا
ببعض أهل مذهبه ونحلته، أو حرفه واستبدل به غيره، وحينئذ لا يبقى عند
المسلمين شيء يمكن أن يحتج به أحد على آخر إلا القرآن الكريم، وما عساه يوجد
من حديث متواتر مجمع على تواتره. فظهر مما تقدم أن السنوسي مخطئ في
تحريمه التفوه بما قاله أهل السِّيَر في عثمان وكتابته، وفي إيجابه على من نقل
كتابًا فيه شيء من ذلك أن يحذفه منه، فإننا نقرأ في كتاب الله مثل قوله تعالى:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: ٨٨-٨٩) ، وقوله جل
ذكره: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: ٥) وقوله تبارك اسمه:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا
ظُلْمًا وَزُورًا} (الفرقان: ٤) وقوله - صدق وعده -:
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: ٢٤) والشواهد على هذا كثيرة , وليست
حكاية الطعن في عثمان - وهو غير معصوم - بأعظم من حكاية هذه الأقوال ,
والمسألة واضحة، وهذا ما رأينا في كتابته من العبرة والفائدة.