شذرة من الخطب النبوية (مقتبس من مقدمة ديوان خُطب القاسمي) والحواشي له إلا ما زدناه بعد اسم المنار
(١) أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله تعالى، وأحسن القَصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدي ما اتُّبِع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دَابرًا [١] ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هُجْرًا [٢] ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغُلول من جثاء جهنم [٣] ، والكنز كيّ من النار، والشِّعر من مزامير إبليس [٤] ، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وُعِظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر بآخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب [٥] ، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله [٦] وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه [٧] ، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتبع السمعة يسمع الله به [٨] ، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم رواه البيهقي عن عقبة بن عامر، والسجزي عن أبي الدرداء، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود. *** (٢) أما بعد فإن الدنيا خضرة حُلوة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم شيئًا من ذلك فالأرض الأرض، ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء، وسريع الغضب سريع الفيء فإنها بها [٩] ، ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب، وشر التجار من كان سيئ القضاء سيئ الطلب، فإذا كان الرجل حسن القضاء سيئ الطلب، أو كان سيئ القضاء حسن الطلب فإنها بها، ألا إن لكل غادر لواءً يوم القيامة بقدر غدرته، ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة، ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند أمير جائر. رواه الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد. *** (٣) إنما هما اثنتان: الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي [١٠] هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إن كل ما هو آتٍ قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، إنما الشقي من شقي في بطن أمه، وإنما السعيد من وُعِظَ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة، ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح لا بالجد ولا بالهزل، ولا يَعِد الرجل صبيه ولا يفي له، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإنه ليقال للصادق: صدَقَ وَبَرَّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا. رواه ابن ماجه عن ابن مسعود. *** (٤) يا أيها الناس كأن الموت على غيرنا فيها كُتِبَ، وكأن الحق على غيرنا وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سَفْرٌ عما قليل إلينا راجعون، نأويهم أجداثهم، ونأكل تراثهم كأنا مخلدون، قد نسينا كل واعظة، وأمِنَّا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، واستقامت طريقته، طوبى لمن تواضع لله من غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يَعْدُ عنها إلى البدعة. رواه أبو نعيم عن علي. *** (٥) إن الحمد لله أحمده وأستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على من سواه من أحاديث الناس، إنه لأحسن الحديث وأبلغه، أَحِبُّوا من أحب الله، أحبوا الله تعالى من قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسى قلوبكم، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله عز وجل بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، فالسلام عليكم ورحمة الله. رواه هناد عن أبي سلمة مرسلاً. *** نُخَب من الخطب النبوية في غير يوم الجمعة كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يخطب في غير يوم الجمعة لمصلحة تَعْرِضُ، أو منكر يظهر، أو أمر بصدقة أو إصلاح، كما هو معروف في دواوين السنة ولخدمتها (؟) فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي؛ ولكن أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب) رواه الإمام أحمد، والبخاري وغيرهما. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) رواه الشيخان في صحيحيهما. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول هذا من عملكم وهذا أُهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه؛ فينظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم منها (أي الزكاة) شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه) الحديث (رواه الشيخان) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس اتقوا الله فوالله لا يظلم مؤمن مؤمنًا إلا انتقم الله تعالى منه يوم القيامة) . رواه ابن حميد في مسنده. *** من خُطَب الصديق رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبينًا، أوصيكم بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، فإنه جوامع هدى للإسلام بعد كلمة الإخلاص، السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من حُفظ من الهوى والطمع والغضب، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي، وغدًا ميت؛ فاعملوا يومًا بيوم وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعُدُّوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر، واحذروا فالحذر ينفع، واعملوا فالعمل يُقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته، وافهموا تفهموا، واتقوا توقوا، وإن الله قد بيَّن لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجا به من نجا قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يحب من الأعمال وما يكره، فإني لا آلوكم ونفسي، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم واغتبطتم، وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم، تستوفوا بسلفكم، وتعطوا جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها، ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وأحلوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت، إن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره؛ فإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلوا على نبيكم محمد، صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته.رواه ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن موسى بن عقبة. *** من خطب الفاروق رضي الله عنه [١١] أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته يكرم أولياءه، وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة، تعلموا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه لم تَبْلُغْ منزلةُ ذي حق أن يطاع في معصية الله، واعلموا ن بين العبد وبين رزقه حجابًا؛ فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يدرك فوق رزقه، فأدبوا الخيل وانتضلوا وانتعلوا وتسوكوا وتمعددوا [١٢] ، وإياكم وأخلاق العجم، ومجاورة الجبارين، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر وتدخلوا الحمَّام بغير مئزر، وإياكم والصَّغار أن تجعلوه في رقابكم، واعلموا أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر [١٣] ، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام، ومن أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرافًا فصَدَّقَه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءَتْه سيئته، وسرته حسنته فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وإن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، عليكم بهذا القرآن؛ فإن فيه نورًا وشفاء، وغيره الشقاء، وقد قضيت الذي عليّ فيما ولاني الله عز وجل من أموركم ووعظتكم نصحًا لكم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم رواه الحاكم، وابن عساكر. *** من خطب ذي النورين رضي الله عنه أيها الناس اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت [١٤] ، واكتسب من نور الله نورًا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرًا، وقد يكفي الحكيم من جوامع الكلم، والأصم يُنَادى من مكان بعيد، واعلم أن من كان الله معه لم يخف شيئًا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده - رواه ابن عساكر - *** من خطب الإمام أبي الحسن علي كرم الله وجهه أما بعد فإن المضمار اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام عمل، من ورائه أجل، فمن قَصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خيب عمله، ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها، ألا وإن من لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى جار به الضلال، ألا وإنكم قد أُمرتم بالظعن ودُللتهم على الزاد، ألا أيها الناس إنما الدنيا عَرَض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم، أيها الناس أحسنوا في عمركم تُحفظوا في عقبكم، فإن الله تبارك وتعالى وعد جنته من أطاعه، ووعد ناره من عصاه، إنها نار لا يهدأ زفيرها، ولا يفك أسيرها، حرها شديد، وقعرها بعيد، وماؤها صديد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، ألا لا يستحي الرجل أن يتعلم ومن يُسْأل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. رواه ابن عساكر.
ومن خطبه كرم الله وجهه: حمدت وعظَّمت من عظمت مِنَّته، وسبغت نعمته، وسبقت غضبَه رحمتُهُ، وتمت كلمته، ونفذت مشيئته، حَمْدَ عَبْدٍ مُقِرٌ بربوبيته، متخضع لعبوديته، ويستعينه، ويسترشده، ويستهديه، ويؤمن به، ويتوكل عليه، وشهدت له تشهد مخلص موقن، وبعزته مؤمن، ووحدت له توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه، ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وعن عون معين ونظير، وشهدت ببعث محمد عبده ورسوله، وصفيه، ونبيه، وحبيبه، وخليله، صلى الله عليه صلاة تحظيه، وتزلفه وتعليه، وتقربه وتدنيه، بعثه في خير عصر، وحين فترة وكفر، رحمة منه لعبيده، ومنة لمزيده، ختم به نبوته، ووضح به حجته، فوعظ ونصح، وبلغ وكدح، عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم. وصَّيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم، وذكرتكم سنة نبيكم، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقاة تنجيكم، قبل يوم يذهلكم ويبليكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته، ولتكن مسألتكم وتملقكم مسألة ذل وخضوع وشكر وخشوع، وتوبة ونزوع، وندم ورجوع، وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه وكبره، وسعته قبل فقره، وفرغته قبل شغله، قبل أن تُجذب نفسه، ويحفر رِمْسه، وينفخ في الصور، ويدعى للنشور، في موقف مهيل، ومشهد جليل، بين يدي ملك عظيم، بكل صغيرة وكبيرة عليم، حينئذ يلجمه عرقه فعبرته غير مرحومة، وضرعته غير مسموعة، وحجته غير مقبولة، فورد جهنم بكرب وشدة، ندم حيث لم ينفعه ندمه، نعوذ برب قدير من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضي عنه، ومغفرة مَنْ قَبِلَ منه، فمن زُحزح عن تعذيب ربه جُعل في جنة بقربه، وخلد في قصور مشيدة، وملك حور عين وحفدة، وطِيف عليه بكؤوس، وسكن حظيرة قدس في فردوس وتقلب في نعيم، وسُقي من تسنيم، هذه منزلة من خشي ربه، وحذر نفسه، وتلك عقوبة من عصَى مُنْشِئَهُ، وسولت له نفسه معصيته، لهو قول فصل، وحكم عدل، خير قصص قص، ووعد نص، تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدس على قلب نبي مهتدٍ رشيد، صلت عليه سفرة، مكرمون بررة، يتضرع متضرعكم، ويبتهل مبتهلكم، وأستغفر رب كل مربوب لي ولكم، ثم قرأ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: ٨٣) رواه الخفاف في مشيخته [١٥] *** مختارات من خطب القاسمي
(خطبة في الحذر من التطير والتشاؤم يخطب بها أول صفر) الحمد لله الذي بسط لنا موائد كرمه وأفضاله، وعمنا بجوده وغمرنا بنواله، فسبحانه من إله تاهت العقول في سبحات جلاله، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله أن يجعلنا ممن وفقه لصالح أعماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة موحد له في غده وآصاله، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله نبي ميّز حرام الشرع من حلاله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تمنح قائلها الفوز في مآله، وسلم تسليمًا. أما بعد أيها الناس فاتقوا الله، واعلموا أن جميع ما يتقلب فيه الإنسانُ طول عمره، إنما هو بمحض قضاء الله وقدره، ألا وإنه قد دخل عليكم شهر مباركة أوقاته، ميمونة ساعاته، لا ينسب إليه شر ولا ضير، بل هو صفر الخير، وقد كانت الجاهلية يتشاءمون به وهو مبارك، ويتطيرون منه وليس لله جل جلاله في مشيئته وتقديره بمشارك، وإنما هو إلى شركهم وشرهم، وسخافة عقولهم، ومحض كفرهم، وكيف ينسب فعل إلى شهر أو زمان، والله خالق الزمان والمكان، وقد بطل التطير والتشاؤم ولم يبق له أثر، بما رواه البخاري في صحيحه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر، أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا صفر) وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا) وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب فسُئل صلى الله عليه وسلم عنهم فقال: هم الذين لا يَكْتَوُونَ، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) [١٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك) فمن اعتقد ما يتشاءم به سببًا مؤثرًا في حصول المكروه، فقد أشرك، ولعقيدة التوحيد والموحدين ترك، إذ لا فاعل إلا الله، ولا مؤثر في الكائنات سواه، وإنما الزمان ليالٍ وأيام، تختلف بتقدير العزيز العلام، فلا شؤم لصفر، ولا جمود لجمادى، ولا بلاء، ولا نحس ليوم أربعاء، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} (التغابن: ١١) ، وقال جل جلاله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: ٥١) خطبة لأول ربيع في وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وعلائم محبته الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ومنَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في جلال إلهيته، ولا مثيل له في عز ربوبيته، ولا كفوء له في أحديته، ولا كيف له في صفات مجده وصمديته، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي دعا إلى ثوابه وبشر، وحذر من عقابه وأنذر، وأوضح سبيل الرشاد، وجاهد فيه حق الجهاد، حتى ظهر دين الله وعلت كلمته، وشملت رحمته وتمت نعمته، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار، وسلم تسليمًا. أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن الله تعالى أكمل المنة على المؤمنين، وأتم نعمته عليهم بإرسال خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، فهداهم من الضلالة، وأنقذهم بمكانه (؟) من الجهالة، وفتح به أعينا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا منة وطَوْلاً، وأرشد به السبيل، وأقام به معالم البرهان والدليل، نعمة وفضلاً، ورفع به للتوحيد أعلامًا، ومحا به من الشرك ظلامًا، ثم جعل محبته مشروطة بمحبته، وطاعته منوطة بطاعته، وذكره مقرونًا بذكره، وبيعته مقرونة ببيعته، فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) وقال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} (النساء: ٨٠) وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: ٤) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه} (الفتح: ١٠) ثم بين جل جلاله أن مخالفة أمر نبيه ضلال وخسران، وأوعد عليه بالعذاب والخسران [١٧] فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣) وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) فحذر سبحانه وأوعد، وأقسم، وأكد، ليعلموا أن من شُعب الإيمان، وكمال الإسلام، والإيقان، اتباع سنته، والتسليم لقضيته، وتوقيره وتعظيمه، وإجلاله وتكريمه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: ٤٥) ، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (الفتح: ٩) قال ابن عباس: وغيره: أي تبالغوا في تعظيمه، ألا وإن من تعظيمه وتوقيره المطلوب، إيثار حبه على كل محبوب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ومن توقيره وحبه ذكر شمائله التي تهز أعطاف المحبين، ونشر فضائله التي تزيد في إيمان المؤمنين، وإيراد سيرته وما كان عليه من الأخلاق تسليكًا للمتَّبِعين، ثم هل تدرون مَنْ المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والصادق في محبته وإجلال قدره المعظم؟ المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو القائم بامتثال أوامره، ونشر هديه الأكمل، والاعتصام بسنته، والحض عليها، وإحيائها بالطلب والعمل، المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المتخلق بأخلاقه الجليلة، والمتحقق بآدابه الجميلة، المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو من تظهر علامات الحب على أحواله، من الاقتداء به واتباع أقواله وأفعاله، فليتخلق بأخلاقه الطاهرة من كان صادق الحب، مخلص اليقين، سليم القلب؛ ولكن ما أكثر المدعين، وما أقل المخلصين، عجبًا لابن آدم يفهم ما يضره مما ينفعه، ويسمع ولكن قلما يعمل بما يسمعه، ويحضره العزم في مجلس الذكر، إلا أنه يقوم ويدعه، فإلى كم تهزه العبر وهو كالطفل كلما حُرِّك نام، ويقتحم المعاصي الكبر، ويقول إن الله ذو مغفرة، وينسى أنه ذو انتقام، فواخجل المقصرين من التوبيخ في محفل القيامة، ويا سوء منقلب الظالمين عند حلول الندامة، ويا حسرات الهالكين إذا عاينوا أهل السلامة، ويا هوان المتكبرين إذا حرموا دار الكرامة، فرحم الله امرأ رجع إلى ربه سريعًا، قبل أن يقع لجنبه صريعًا، وألقى إلى الموعظة قلبًا وسمعًا سميعًا، قبل أن لا يسمع في مقام السؤال إلا توبيخًا وتقريعًا، اللهم تداركنا برحمتك إنك أرحم الراحمين، وجُد علينا بمغفرتك إنك خير الغافرين. *** خطبة في شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه المأثورة الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، نبي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه، ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه، وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه، فصلَّى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليمًا، أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة أخلاق، ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه، ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية، لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية، وقد أُدِّبَ صلوات الله عليه بالقرآن، وأُدِّب الخلق به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق، ولما أكمل تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) فكان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، وأشجع الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس، لم تمس يده قط امرأة لا يملك رقها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه، وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسْأَل شيئًا إلا أعطاه، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد، ويجيب دعوة العبد الحر، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، يأكل ما حضر، ولا يرد ما وجد، يركب ما أمكنه، ويردف خلفه، يحب الطيب ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل، ويتألف أهل الشرف بالبر لهم، يصل رحمه، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، ولا يقول إلا حقًّا، يضحك من غير قهقهة، يخرج إلى بساتين أصحابه ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم، ما لعن خادمًا ولا امرأة، ولا ضرب بيده أحدًا إلا في سبيل الله، يبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة، يكرم من يدخل عليه، حتى ربما بسط له ثوبه يجلسه عليه، وكان أفصح الناس منطقًا، وأحلاهم كلامًا، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يتكلم في غير حاجة، إذا سكت تكلم جلساؤه، وكان أحسن الناس نغمة، يعظ بالجد والنصيحة، وكان إذا لبس ثوبًا جديدًا أعطى خلق ثيابه مسكينًا، وكان أرغب الناس في العفو مع القدرة، أبعد الناس غضبًا، وأسرعهم رضاء، يمر على الصبيان فيسلم عليهم، وكان أزهر اللون ليس بالطويل ولا بالقصير، بين كتفيه خاتم النبوة، وكان لا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد منه من صلاح نفسه، وبالجملة فأخلاقه الكاملة لا تحصى، وشمائله الحسنى لا تستقصى، وكل من أصغى إليها علم علو منصبه، وعظم مكانته، وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما استفاضت به الأخبار، وكان أعظمها معجزة القرآن الكريم، والذكر الحكيم، أعجز البلغاء عن مماثلته في عبارته، وأفحم الحكماء عن محاكاته في عظته وهدايته وتشريعه للناس أحكامًا تنطبق على مصالحهم ما دامت الدنيا، وانتظام السعادة بالمحافظة عليها في الأولى والأخرى، ولما لم يدع قاعدة من أصول الفضائل إلا جلاها، ولا أما من أمهات الصالحات إلا أحياها، ختمت النبوات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وانتهت الرسالات برسالته، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: ٤٠) ، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: ١٦٤) . (للخطب بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))