ذكرت في النبذة الأولى التي كتبتها لتنشر في (ج ١١ م ١٢) فنشرت في (ج ١٢ ص ٩٥٦) أنني رحلت إلى عاصمة الدولة للسعي في أمرين عظيمين: إنشاء معهد علمي إسلامي، وحسن التفاهم بين عنصرَي الدولة الأكبرين العرب والترك، وأشرت إلى ما صادفته من الارتياح للعملين كليهما عند وزارة حسين حلمي باشا ولكن استقالت تلك الوزارة قبل أن يتم على يدها ما وعدتني به من المساعدة على إنشاء المعهد العلمي الإسلامي والعناية باللغة العربية وأهلها. وكنت أظن أن وزارة إبراهيم حقي باشا تنجز ما كانت عزمت عليه وزارة حسين حلمي باشا لوجود بعض أعضاء الوزارة الأولى في الثانية فكنت أراجع بعض هؤلاء الأعضاء فأسمع كلامًا حسنًا ووعودًا جميلة وعناية شخصية بالدعوة إلى الطعام والسمر كما لقيت من الصدر الأول، ولكن طال الأمر على ذلك فرأيت أن أرفع المساعدة على إنشاء المعهد الإسلامي لتخريج المرشدين إلى الصدر الأعظم رئيس هذه الوزارة ففعلت ووجدت أن عنايته بالمشروع ليست دون عناية سلفه بل أعظم، نعم، قال لي: إن ما كان من السعي على عهد الوزارة السابقة قد ذهب بذهابها وإنه ينظر في ذلك من جديد ولكنه ما أرجأ ولا سوّف بعد ذلك بل أحالني على شيخ الإسلام وناظر المعارف ووعدني وعدًا جازمًا بتنفيذ ما يتفقان معي عليه وكنت قد مهدت السبيل إلى ذلك أمام هذين الركنين العظيمين لعلوم الدين والدنيا في الدولة فلما لقيتهما بعد أن عهد إليّ وإليهما الصدر الأعظم بالمذاكرة شرحت المشروع لكل منهما فصادفت منهما منتهى الإصغاء والارتياح. كنت ذكرت المشروع لمولانا شيخ الإسلام بالإجمال فاهتم به وقال لا بد لنا من تخصيص ليلة للبحث التفصيلي فيه ثم إنه دعاني إلى الطعام والسمر عنده قبل أن يعهد إليه الصدر الأعظم بالبحث معي في المشروع، ثم تكلمنا في ذلك واتفق أن قابلت الصدر يوم موعد دعوة الشيخ فأخبرني بما عهد إليه وذكر ذلك بلفظ الرجاء وكان الشيخ قد دعا في تلك الليلة خالص أفندي وكيل الدرس في المشيخة ليشاركنا في البحث، والمراد بوكيل الدرس مدير المدارس الدينية الذي ينظر في شئونها بالوكالة عن شيخ الإسلام الذي هو الرئيس العام لهذا القسم ولغيره من أقسام باب المشيخة، وقد كان سبق لي الاجتماع بوكيل الدرس أكثر من مرة فرأيته في مقدمة علماء الترك علمًا وفضلا وهمة ومروءة وسعة اطلاع في الآداب العربية، بل لم أر في علماء العاصمة مثله في هذا ولما لقيته للمرة الأولى قال لي بعد التحية والثناء في حضرته الغاصة بالعلماء: لا نقول في مناركم كما قال أبو الطيب المتنبي: على لاَحِب لا يهتدي بمناره ... بل نقول إن مناركم يهتدي به العالَم الإسلامي كله، وقد ذكرت الآن ما تفضل به مولانا شيخ الإسلام عندما لقيته أول مرة في المنار، قال: رفع الله منار العلم والدين على يده ولسانه، إنني أتمنى لو كان كل أحد يعرف العربية ليقرأ المنار، ولسان الشيخ حفظه الله قد صقل اللغة العربية بإقامته زمنًا طويلاً في بلاد اليمن، وقد استنسخ منها كتبًا نفيسة في العلوم الشرعية واللغة والتأريخ والأدب لا يوجد لها نظير في الآستانة ولا في مصر فضلاً عما دونهما من الأمصار، وله عناية عظيمة بنفائس الكتب فهو قد انفرد باطلاع لم يشاركه فيه أحد ممن نعرف من علماء هذه البلاد ولا علماء مصر والشام. كان بدء سمرنا بالفكاهات الأدبية ثم انتقلنا إلى البحث في المشروع فشرحت لهما ولمن حضر السامر وسائله ومقاصده، ومقدماته ونتائجه، فرأيت الوجوه تندى تهلُّلاً، والأسارير تبرق بشرًا وسرورًا، ووافقني الشيخان حياهما الله تعالى، وزادهما إنصافًا وكمالا، على كل رأي رأيته، وكل اقتراح اقترحته، حتى خروج مدرسة (دار العلم والإرشاد) من دائرة المدارس التي تحت رياستهما، بحيث لا تكون تحت إدارتهما ولا مراقبتهما، على أننا لا نستغني في ذلك عن الاستضاءة برأيهما المنير، والاستفادة من علمهما الغزير، ولكن بصفاتهما الشخصية، لا مكانتهما الرسمية، ومن ثَم وعدتهما بإطلاع خالص أفندي على نظام المدرسة الإداري وترتيب الدروس التي تقرأ فيها وعلى قانون الجمعية أيضًا. وقد حدثني خالص أفندي أنه كان منذ سنين سمع من بعض فضلاء مسلمي روسية أنني عازم على إنشاء هذه المدرسة الإسلامية العليا في مصر فسُرّ بذلك سرورًا عظيمًا ولما سافر إلى الحجاز في آخر زمن الاستبداد عرَّج على مصر وأراد أن يزورني متنكرًا ليتحدث معي في ذلك ولكنه بصر عن جنب بعين من عيون عبد الحميد (السلطان المخلوع) يتبعه أينما سار فكان هذا هو المانع له من الزيارة فهذه آية من آيات اغتباط هذا الأستاذ بهذا المشروع الذي هو خدمة عامة للإسلام والمسلمين تقوي وجاءنا في دوام مساعدته الثمينة له، وأذكر له على سبيل الاستطراد خلقين آخرين من أعلا الأخلاق ولا سيما العلماء وهما الإنصاف والشكر وآيتهما أنني زرته فرأيته ساخطًا على ناظر الأوقاف خليل حماده باشا لتأخير إصلاح بعض المدارس التي يريد تنفيذ النظام الجديد للمدارس الدينية فيها، فقلت له إن هذا الناظر محب للإصلاح ولا يرضيه هذا التأخير، وأنا ذاهب الآن لمراجعته في ذلك وأضمن على همته أن يأمر في الحال بإنجاز العمل، وقمت مِن حضْرته فركبة مركبة أوصلتني إلى نظارة الأوقاف وذاكرت ذلك الناظر الحازم في ذلك فأمر من ساعته بإنجاز إصلاح تلك المدارس وبلغ المشيخة ذلك، وإنني لم أر خالص أفندي بعد ذلك في مكان إلا وكان يشكر لي ذلك ويحدث به الناس قائلاً: إن فلانا قد ساعدني في مسألة المدراس مساعدة عظيمة ... وذكر هذا لمولانا شيخ الإسلام وغيره، فما أثمن وأجل مساعدة من كان متخلقًا بهذه الأخلاق مُتصفًا بهذه الآداب. وممن اطلع على حقيقة المشروع من أركان المشيخة الإسلامية الشيخان الجليلان ومن أصحاب الدرجة العليا في علماء العاصمة ولا سيما علوم المعقول محمد أسعد أفندي ناظر الدفتر الخاقاني وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وموسى كاظم أفندي كلاهما من الأعيان والمدرسين في المكاتب العالية؛ كل واحد من هؤلاء الأساطين قد أقرّ المشروع بل أعجب به كل الإعجاب فهو يعد من خير الأعوان والمساعدين عليه فإن مشروعًا دينيًا كهذا المشروع لا يمكن تنفيذه في عاصمة السلطنة والخلافة إذا كان رؤساء العلماء وأساطينهم معارضين له أو غير راضين عنه. هؤلاء هم العلماء الأعلام الذين أسعدني التوفيق بلقائهم ومذاكرتهم في المشروع وصادفت عندهم من العناية والقبول فوق ما كنت أظن وأكثرهم قد كلم ولاة الأمور ورغبهم في إنفاده في الوزارة السابقة والوزارة الحاضرة. وممن ساعدني في هذا العمل بجد وإخلاص الصديقان الفاضلان أحمد نعيم بك بابان مدير المكاتب الرشدية بنظارة المعارف ويوسف ضياء بك في قلم الترجمة بنظارة الخارجية فهذا كان الترجمان بيني وبين الصدر الأعظم وغيره من الوزراء، وله سعي آخر يشكر وإن لم يذكر، وأما أحمد نعيم بك فمساعدته لا تقدر قيمتها، ولا يستغنى عنها بسواها، وإن ما يرجى منه في المستقبل من المساعدة على التأسيس لأجلّ وأكبر مما كان في الماضي من المساعدة على التمهيد، فأسأل الله عز وجل أن يكافئ بكرمه وجوده جميع المساعدين، ويوفقنا جميعًا لخدمة الملة والدولة والدين. ما له حيلة سوى حيلة العا ... جز إما توسل أو دعاء وإنني أبشر قراء المنار في جميع أرجاء العالم الإسلامي بأنه سيشرع في شهر ربيع الأول، الذي ولد فيه المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم، بتأسيس مدرسة (دار العلم والإرشاد) العالية التي يتربى فيها المرشدون الذين يقفون نفوسهم على خدمة الدين من الطريق الذي يجمع بينه وبين العلم والمدينة الصحيحة ويدفع عنه الشبهات بحيث يجمع المسلمون بين حقوق الروح والجسد وحسنتي الدنيا والآخرة وربما ننشر في الجزء الآتي نظام هذه المدرسة العليا، وأسرع الآن بذكر شيء منه. يتربى ويتعلم في هذه المدرسة طائفة من الطلاب على نفقة المدرسة فهي تنفق عليهم لا يكلفون طعامًا ولا شرابًا ولا لباسًا ولا كتابًا، ومما يشترط فيهم أن يكون لهم إلمام باللغة العربية والنحو والفقه، وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم وعبادتهم، وسيكون من الشدة في المحافظة على الأخلاق بالفضائل في المدرسة أن الكذب يكون موجبًا للطرد منها، ويشترط فيها أيضًا حفظ القرآن ولكن يتسامح في هذا الشرط الآن ويكون للمدرسة سنة تمهيدية لحفظ القرآن ولبعض العلوم والفنون التي تقرأ في المدارس الابتدائية، وإدارة المدرسة هي التي تختار هذا القسم الداخلي من طلاب المدرسة وتفضل بعضهم على بعض بالامتحان. *** اللغة العربية في البلاد العثمانية وأما مسألة العناية باللغة العربية وتقوية الرابطة بين الترك والعرب التي سعيت لها سعيها منذ قدمت دار السلطنة فقد بلغني من الثقات أن رئيس الوزارة الحاضرة إبراهيم حقي باشا يقدرها قدرها، ووعد بأن يهتم بها وإنني لم أوافق إلى مذاكرته في ذلك بنفسي ولكنَّني ذاكرت غيره من أولي الشأن. وقد ذكرت جريدة العرب التي نشرت حديثًا في العاصمة أنه تقرر أن تكون اللغة العربية رسمية في الدولة كاللغة العثمانية بحيث يكون للدولة لغتان رسميتان وسمعت أكثر من واحد من الناس هنا يقولون: إن هذا صحيح واستدل عليه بعضهم بوضع مبلغ من المال في ميزانية المعارف للسنة المالية القادمة لمعلمين للعربية وهو لا يدل عليه وإنني متتبع لهذه المسألة وواقف على أطوارها فقد كانت النظارة تذاكرت في توظيف عشرة معلمين ثم في خمسة عشر معلمًا للغة العربية ثم استقر الرأي على خمسة فقط سيعهد إليهم تعليم اللغة نفسه على أسهل الطرق الحديثة لصنفين من الناس أحدهما بعض المرشحين للتعليم في المدارس، وثانيهما بعض عمال الحكومة الذين يراد إرسالهم إلى البلاد العربية لأن الحكومة اقتنعت بأن من لا يعرف لغة قوم لا يستطيع أن يقيم العدل أو النظام فيهم وأكثر المرشحين لأعمالها من الترك الذين لا يعرفون العربية فهي تريد أن تعلم هذه اللغة لمن تريد أن ترسلهم إلى البلاد العربية، نعم إن في تعليم هذه اللغة لطائفة من المرشحين للتعليم في نظارة المعارف تمهيدًا لتعليمها على وجهها وقد كانت تعليمها مقررًا رسميًا من زمن الاستبداد ولكنه لم يكن ينفذ بل كان ولا يزال يعهد إلى من لا علم لهم بهذه اللغة أن يكونوا مدرسين لها في مكاتب الدولة حتي في البلاد العربية فترى المعلم التركي أو الأرمني يعلم النحو العربي لأبناء العرب باللغة التركية. *** المدارس الدينية في الآستانة تألفت في العام الماضي لجنة من العلماء للنظر والبحث في إصلاح التعليم في المدارس الدينية الإسلامية وقد رغب إليَّ الصدر الأعظم للوزراة الماضية أن أكون عضوًا فيها، وقال: إنه يكلم شيخ الإسلام في ذلك فاعتذرت لأسباب منها أنني لم أكن أريد المكث في الآستانة أكثر من شهر، وقد أتمت هذه اللجنة عملها بهمة خالص أفندي وكيل الدرس وكان من الإصلاح الجديد التوسع في اللغة العربية وفنونها وزيادة الفنون الرياضية والحكمة الطبيعية، والتأريخ وتقويم البلدان، وقد سر أهل الآستانة سرورًا عظيمًا بهذا الإصلاح، وقد احتفل بالشروع في هذا الإصلاح احتفالاً حضره الصدر الأعظم وشيخ الإسلام وكثير من العلماء والوزراء والأعيان والمبعوثين، فنسأل الله تعالى أن يوفق لإنفاذه على وجهه المؤدي إلى إحياء علوم الدين والدنيا. ((يتبع بمقال تالٍ))