للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة السورية الثانية
(٧)

الحالة السياسية والاحتلال في السواحل
نكتب في هذا الفصل كلمة حق وما كل ما يُعلم يُكتب في مثل هذا الوقت؛ لأن
الزمن الذي يلد التاريخ لا يدونه كما قال بعض حكماء الغرب ولأن الكلام في
السياسة يراعى فيه مصالح كثيرة يقع التعارض فيها، فيرجح كل ناظر المتعارضات
باجتهاده.
قد اشترطت علينا السلطة الإنكليزية في إعطائنا جواز السفر إلى سورية
شروطًا ثقيلة أشرنا إليها في الفصل الثاني من هذه الرحلة (ص ٤٢٨ م٢١)
خلاصتها أن نتحامى إحداث تهييج سياسي بالكتابة أو الخطابة فوفينا بالشرط
واكتفينا من الإفادة والاستفادة أن نعرف حقيقة الحال ونقول ما نرى أنه الحق النافع
للبلاد مع النصح للناس بما يجب عليهم من الاتفاق والاتحاد، والعلم والاقتصاد.
أما أهل البلاد فقد كان التغاير بين المسلمين والنصارى منهم في السواحل بالغًا
أشده، فالنصارى كانوا يرون أن مَلك البلاد سَلب من المسلمين وصار لهم بقوة
فرنسة وحمايتها، والمسلمون يبكون أسى وحزنًا على الدولة العثمانية ويعلقون
آمالهم بالأمير فيصل الذي ضمن لهم استقلال البلاد وجعلها دولة عربية بمساعدة
بريطانية العظمى، فلهذا كانوا في منتهى النفور من الفرنسيس، وكان من هؤلاء من
يتودد إليهم ويجتهد في استمالة زعمائهم وأصحاب المكانة منهم فلا يزيدهم ذلك إلا
نفورًا منهم ومبالغة في التعلق بفيصل فيضطرهم ذلك إلى حصر ثقتهم بالنصارى
ومن يتقرب إليهم ويتعلق لهم من طلاب المنفعة من المسلمين وإن كانوا لا نفوذ لهم
ولا تأثير في أهل ملتهم، وقد فصلنا في الفصل السادس من هذه الرحلة ما أخطأ
فيه كل من المسلمين والنصارى في هذا الأمر وما كان يجب على كل منهم من
السعي إلى الاتفاق والاتحاد على مصلحة الوطن المشتركة، وما سعينا إليه قولاً
وعملاً وكتابة في هذه السبيل وقد كان هذا السعي كله بعد اضطرار السلطة الفرنسية
إياي إلى الإقامة في بيروت وفي طرابلس عدة أشهر بعد أن كنت عازمًا على أن
أقيم فيهما عشرة أيام فقط.
ذلك بأنني عقب إلمامي ببيروت (في ٤ المحرم سنة ١٣٣٨) قد أصابتني
زكمة معوية فتأخرت عن زيارة طرابلس إلى ١٦ المحرم ولما أردت العودة منها
إلى بيروت عرض لي تصدي السلطة الاحتلالية ما سأذكره بعد ذكر اجتماعي في
بيروت بالمندوب الفرنسي السامي.
مقابلة المندوب السامي مسيو جورج بيكو
جاءني في يوم الإثنين (١١ المحرم ١٧ أكتوبر سنة ١٩١٩) شرطي
بيروتي وقال لي: إذا كنت تحب أن تقابل القومسير السامي مسيو جورج بيكو، فهو
مستعد لمقابلتك بين الساعة التاسعة صباحًا والظهر في الدار التي كانت للوالي،
فوعدت بالذهاب، وذهبت في الساعة العاشرة وقابلته فمكثت معه من الساعة
الحادية عشرة إلى ما بعد الظهر فاحتفى بي وتلطف غاية التلطف ودار الحديث بيننا
في ثلاث مسائل:
(المسألة الأولى) : ما ينكره المسلمون من السلطة الفرنسية، سألني عن
عهدي برؤية البلاد وكيف رأيت حال المسلمين اليوم؟ فقلت له: إن المسلمين على
كونهم لم ينسوا ما انتابهم في آخر زمن الترك من الرزايا والمصائب يبكون عليهم،
وإن لم تجف دموعهم من البكاء منهم؛ لأنهم يهانون في هذا الوقت حتى في دينهم،
فأجاب بأنه وقع من رجالهم أغلاط كثيرة ينكرونها ولكنهم سيتلافونها، وأنه على ما
ينويه من المساواة بين جميع الطوائف والملل في الوظائف وغيرها سيجتهد في
مراعاة شعور المسلمين الديني بدقة وعناية تامة، وذكرت له أن أهم ما يهم
المسلمين (كما يهم غيرهم أيضًا) جعل التعليم باللغة العربية وجعلها هي الرسمية
وعدم تعرض السلطة للأوقاف وللتعليم الديني فوعد بذلك وعدًا مؤكدًا، وإنما ذكرت
له هذا لأسمع منه ما يقوله فيه لا لاقتراح شيء عليه.
(المسألة الثانية) : ما ينوون عمله في المنطقة الشرقية، سألته: هل تظل
على حالها؟ فقال: لا بد من توحيد الإدارة في البلاد كلها ومن وجود المستشارين
الفرنسيين في الداخل كالساحل إلا أن الاحتلال العسكري يبقى في الساحل فحسب.
قلت: وهل يكون لسورية كلها حاكم واحد كالأمير فيصل أم تجعل قسمين لكل منهما
أمير أو حاكم وطني عام؟ قال: لا بد من قسمة البلاد إلى عدة ولايات أو مقاطعات،
ولا يعلم الآن كيف يكون ذلك لأنه يتوقف على ما يكون عليه الصلح مع الترك لأن
البلاد لا تزال لهم (بلاد العدو المحتلة) .
هذا ما قاله وهو أعلم بغرض حكومته على أنهم قسموا البلاد قبل الصلح مع
الدولة فجعلوها بضع دول أكبرها وأخصها ما سموه (لبنان الكبير) .
(المسألة الثالثة) : المقابلة والتنظير بين الفرنسيس والإنكليز والسياسة
الحاضرة، وما ينتظر من التحول والانقلاب فيها، وقد أطلنا فيها ما لم نطل فيما
قبلها.
قال هو: إن الفرنسيس أرق طباعًا وألطف معاشرة من الإنكليز؛ فهم يحترمون
الشرقيين وغيرهم ويقابلون أهل الفضل والمكانة بما هم أهل له من الحفاوة والإكرام،
وأما الإنكليز فمتكبرون يزرون بأقدار الناس، أو ما هذا معناه.
قلت: إن لطف الفرنسيس وحسن معاشرتهم وقربهم من الشرقيين في ذلك
مشهور كشهرة الإنكليز بالجفوة والانكماش والعجب بأنفسهم، وإننا قد اختبرناهم في
مصر فألفيناهم كما يقال عنهم إلا أن آدابهم جلية في معاشرة من يرضون معاشرته
ولقاء من يودون لقاءه، ولكن ما جبلوا عليه من الترفع والعجب والأثرة، والطمع
ومحاولة الانفراد بالسيادة سيبغضهم إلى جميع الأمم والشعوب ويؤلبها عليهم، وذكرت
طمعهم في بلاد العرب والعجم والآستانة وما يقصدون من مد ظل سلطنتهم
(إمبراطوريتهم) من الشطر الإفريقي من أفريقية والغربي من آسية إلى حدود الصين
وسيادة سائر البحار وإزالة ملك الإسلام من الشرق، وجعل جميع الدول العظمى في
أوربة عالة عليهم وتبعًا لهم في سياسة العالم (قلت) : حتى إنني لأتوقع مجيء يوم
ترون فيه من مصلحتكم محالفة الألمان على الإنكليز!! فوافقني على آرائي في هذه
الأمور بعد مناقشة في بعضها، وقال في توقع الانقلاب في سياسة الحلفاء: إنه محال
أو غير بعيد، ولكننا الآن متفقون في كل شيء.
وبهذه المناسبة ذكرت له خلاصة من مذكرتي التي أرسلتها إلى مستر لويد
جورج في هذا الموضوع ليعلم أنني لم أقل له ما قلت في الإنكليز تقربًا إليه كما
يفعل أنصارهم في سورية وإنما هو شيء قلته بل كتبته لأعظم رجال الإنكليز لأنني
أعتقده وأعتقد أن استمرارهم على تقاليدهم السياسية القديمة شر لهم وأنه سيفضي
إلى عداوة الأمم لهم والخلاف مع حلفائهم الذي اضطرهم إلى محالفتهم الخطر
الألماني المهدِّد للفريقين المتأصل تعاديهما في بطون التاريخ وقد تجددت بينهما
عداوة حسد المهضوم حقه في هذه المحالفة بكثرة خسارته للآخر الذي زاد ربحه
على خسارته أضعافًا، ولم يرو غليل مطامعه، أعني عداوة اللاتين للإنكليز، وقد
صرحت بهذا في مذكرتي للوزير البريطاني التي نوهت بذكرها في مقالة (الحقائق
الجلية في المسألة العربية) وكان غرضي منها إقناعه بترك قسمة تراث الإسلام؛
لأنه لم يمت والاعتراف باستقلال العرب والترك والفرس وكذا مصر، ولا تزال
الأيام تصدق بأحداثها كل ما كتبته في تلك المذكرة كما صدقت ما كتبته لهم فيما قبلها،
ولكن جمود اللورد كرزون على سياسة الطمع القديمة والتعصب الديني والجنسي
الذي يشاركه فيه مستر لويد جورج على مرونته وتقلبه - من أكبر أسباب ما تفاقم
على إنكلترة من الكوارث السياسية وعجزها عن حل شيء منها.
بعد هذه الاستطراد أقول: إنني لم أكن أحاول إقناع مسيو جورج بيكو برأيي
لأجل عمل يرجى أن يأتي منه، كيف وقد كان هذا الكلام في أيام تنفيذ معاهدة
١٩١٦ التي وضعها هو وصديقه السير مارك سايكس بين الدولتين؟! وكانت والجنود
البريطانية تخرج بذخائرها وسلاحها من سورية الشمالية كلها وتتركها للجيش
الفرنسي بعد تنازع وقع بينهما في سبيل تنفيذها ظهر أثره في سورية كما ظهر في
باريس ولندن حتى قال بعض دهاقين السياسة: إنها نُقضت نقضًا، ومنهم مسيو
كلمنصو رئيس الوزارة الفرنسية لذلك العهد وكانت فرنسة يومئذ تريد أن تتخذ اتفاق
الأحزاب السورية على طلب وحدة البلاد وسيلة لجعلها كلها تحت سيطرتها باسم
الانتداب، فعارضتها السياسة الإنكليزية بحزب سوري تألف في مصر يطلب أن
يكون الانتداب لحكومة الولايات المتحدة ويحمل الأمير فيصل لحزبه في الشام على
طلب جعل الانتداب لإنكلترة وحدها، فإن لم يمكن فلها ثم لحكومة الولايات المتحدة
الأمريكية إذا هي لم تقبل، وقد كان المظهر الأكبر لهذا التنازع بين السياستين في
البلاد أيام إلمام الوفد الأمريكي بها لاستفتاء أهلها في مستقبلهم وفي اختيار الدولة
المنتدبة.
وفي السابع عشر من المحرم (١٢ أكتوبر) ذهبت من بيروت إلى طرابلس
والقلمون في سيارة فأقمت فيهما ستة عشر يومًا طلبت في أثنائها من الحكومة إعادة
وقف جامع القلمون إليَّ؛ إذ كنت الإمام والمتولي الشرعي لها وكانت إدارة الأوقاف
تولت أمره منذ بضع سنين وحال انقطاع المواصلات بالحرب العامة دون مطالبتي
إياها بإعادته إليَّ كما كان في عهد والدي - رحمه الله تعالى - فوافقت لجنة
الأوقاف بطرابلس على إعادته، وقررت باتفاق الآراء أنني المتولي الشرعي وكتب
مأمور الأوقاف بذلك إلى مدير أوقاف الولاية في بيروت فأزمعت الذهاب إلى
بيروت لإتمام هذا الأمر الذي جرى لي فيه من العبر ومعرفة الخلل في الحكومة
وأخلاق رجالها وسيرتهم ما يعلم به أن جل ما تشكو منه البلاد فهو من أهلها أو
بمساعدتهم ويستحق أن يفرد له فصل خاص، وإنما كلامنا الآن في الحال السياسية.
حادثة تَعَرُّض السلطة الفرنسية لنا
في الثالث من صفر (٢٨ أكتوبر) أخذت ورقة للسفر من طرابلس إلى
بيروت في باخرة فرنسية تسافر من الميناء ليلاً وكنت في الميناء فأردت النزول
إلى الباخرة فقيل لي إن السفر يتوقف على توقيع السلطة الفرنسية على جواز السفر-
وهذا لم يكن من قبل - وكان من التسهيل غير المنتظر أن الشرطة وقّعت على
الجواز إذ عرضه عليها من تبرع لذلك من معارفنا ومعارفهم، ولا أدري أكان في ذلك
دخل متوخى أم لا، ولكننا لم نكد نضع متاعنا في الزورق مع متاع كثير من
المسافرين إلا وفاجأنا الشرطة ففتحوا جميع صناديقي والأسفاط ومحفظة الورق
ومحفظة النقود وبطائق الزيارة وفتشوا كل ذلك تفتيشًا دقيقًا لم يغفل فيه طيات
الثياب ولا جيوبها ثم فتشوا جيوبي وأخذ شرطي جميع الأوراق ودعاني إلى الذهاب
معه إلى إدارة المكس (الجمرك) فذهبنا وأعيد المتاع إلى حيث كان، وطفقوا هناك
ينظرون في الأوراق نظرًا دقيقًا وكان جل عنايتهم وأشد دقتهم فيما ظنوا بجهلهم
وغباوتهم أن فيه أسرارًا سياسية ينال مكتشفها أسنى الجوائز عند السلطة الفرنسية
وهو فهرس وضعته للجزء الثامن من تفسير القرآن راعتهم أرقامه، فظنوا فيها
الظنون على أنني أخبرت الباحث فيه بأنه فهرس لكتاب في التفسير، فقال: يمكن
أن يكون كتب في أثنائه شيء سياسي! !
ولما طال هذا البحث استأذنت الشرطي في الذهاب إلى دار نسيبي الشيخ
حسن الصفدي لأجل العشاء وصلاتي العشاءين وتغيير الثياب فأبى وقال: إن رئيسه
(لبنان بك) أمر أن أبقى ثَم إلى أن يجيء هو من المدينة إلى الميناء.
ثم في أثناء الساعة الثالثة بعد الغروب جاء شرطي (أوقومسير) اسمه (حنا)
على ما أتذكر، وقال إن لبنان بك أرسله بالنيابة عنه ليأخذني إلى دار الحكومة
في المدينة لأجل توقيفي فيها (التوقيف في عرف الحكومة التركية هو الحبس
المؤقت) فاستأذنته بما استأذنت به الأول فلم يأذن وذهبنا إلى المدينة بالترام
فوضعوني في حجرة من حجر الشرطة نوافذها مكسرة الزجاج وكان فيها مصباح
صغير فيه قليل من زيت البترول نفد فانطفأ ولم يجد من في الحجرة من الشرطة
غيره وكان الماء مقطوعًا عن دار الحكومة، وليس في المراحيض ورق للاستنجاء
فكان التخلي فيها متعذرًا على أمثالنا كما كان النوم متعذرًا لأن هواء الليل في
طرابلس يأتي من ناحية الجبل الذي يعلوه الثلج فيكون باردًا جدًّا كما يكون هواء
النهار حارًّا بالنسبة إليه، ولا سيما في تلك الأيام من فصل الخريف.
ثم جاءنا الشرطة بفانوس كانوا ينقلونه من حجرة إلى أخرى، ثم قالوا: إن
الحاكم العسكري قد حضر فأخذوا الفانوس وأصعدوه على نوره إلى حجرته وتركوه
لهذ فيها، وقد بلغني بعد ذلك أن سبب مجيئه ليلاً على خلاف العادة أن بعض
المقربين إليه من الوجهاء علموا بمسألة توقيفي فبلغوه ذلك إذ كان يريد النوم
وأنذروه أنه إذا بقي هذا الرجل موقوفًا إلى النهار وعلم الناس بذلك فلا يؤمن أن
يثوروا ويهجموا على دار الحكومة لإخراجه عنوة وتكون فتنة كبيرة، وقد ظل
الحاكم مع ترجمانه ينظران في الأوراق ساعة و٣٠ دقيقة وبلَّغني ترجمانه عنه ما
يأتي:
إنك جئت إلى هنا وكان البوليس السري يتعقبك، ولما نزلت إلى البحر أخذوا
أوراقك فوجد فيها شيء يدل على أنك تشتغل بالسياسة وفيها ما يدل أيضًا على أنك
رجل مهم غير عادي [١] فأنا لا أريد أن أوقفك هنا وإذا كنت تريد السفر إلى بيروت
فتابع سفرك إليها وأنا أرسل أوراقك إلى حاكمها الإداري ليرى رأيه فيها.
قلت: أحسنت صنعًا فرجالكم في بيروت أجدر بمعرفتي وإنصافي منك
وإني لأشهر مما تدل عليه الأوراق، قال: إنك لم تزرني لأعرفك.
ثم قال الترجمان للشرطي (أو القومسير حنا) الذي صحبني: خذ هذه
الأوارق (وكانت قد وضعت في ظرفين كبيرين خُتِما بالشمع الأحمر ولا يزالان
عندي) وهذا المكتوب وأعطوها لبوليس يسافر مع الشيخ إلى بيروت إلى دار
الحكومة فيها ويجب أن تُفهموا هذا البوليس أن يكون رفيقًا بغاية الأدب لا كما كانوا
يفهمون من قبل أنهم مسيطرون على من يصحبونه يتحكمون فيه ويهينونه، وأعطاه
ورقة أخرى من الحاكم إلى رئيسهم بلبنان.
ثم صافحت الحاكم ونزلت معه إلى خارج دار الحكومة حيث ركبت عربة
وركب معي نسيبي الشيخ حسن وأخي السيد إبراهيم أدهم وهما لم يفارقا دار
الحكومة منذ جاءا معي، وركب معنا شرطي يحمل الورق وقصدنا الميناء فألفينا
(لبنان) في الطريق عائدًا منها فأعطاه الشرطي رقعة الحاكم له فأرجعنا إلى دار
الحكومة ولم يرض أن أسافر في البحر، وأمر حنا بأن يستأجر لي عربة من مالي
ويرسلني في البر وكان يتكلم بغلظة وخشونة وعظمة الحاكم القاهر المستبد، ووكل
إلى حنا تنفيذ الأمر وذهب.
وفي أثناء الساعة الثالثة الزوالية بعد نصف الليل أحضرت المركبة (وأجرتها
٤٥٠ قرشًا مصريًّا صحيحًا كما زعموا وليس لي أن أعارض) والشرطي الذي
يحمل الورق فأوصاه حنا بما يأتي:
إذا صادفت في الطريق أحدًا يريد أخذ الأوراق فأطلق عليه الرصاص وإذا
أراد أحدٌ أخذ الشيخ منك فأطلق الرصاص على رجل الشيخ (أو قال رجليه)
وعلى من يحاول أخذه.
ثم ركب معنا حنا نفسه وجندي مسلح إلى أن تجاوزنا بساتين طرابلس لئلا
يكون أحد من الأهالي علم بأمرنا وكمنوا بين الأشجار ليأخذوني عنوة، وهو يجهل
أن مثلي لو كان جانيًا لترفع عن الهرب، فكيف وهو يعلم أنه ليس في أوراقه ما
يمكن أن تعاقبه عليه السلطة الفرنسية مهما يكن ضغطها على المسلمين شديدًا في
ذلك الوقت مقاومة للفكرة العربية والتعلق بفيصل، ولو عاقبته لما زاده عقابها إلا
رفعة قدره، على أن الشرطي الذي أرسل معي كان مسلمًا فلم يكن محتاجًا إلى
التوصية بالتأدب معي بل كان من أولياء بيتنا ويتمنى لو يكون في خدمتي طول
عمره، وكان إرساله معي مما أثار عجبه وعجبي فكيف وقد أوصي بتلك الوصية
الحمقاء التي كان يتلذذ بمثلها أولئك المتعصبون من أوشاب اللبنانيين الذين يعتقدون
أن فرنسة حكَّمتهم في أشراف المسلمين وعلمائهم - بله عامتهم - تقربًا إلى يسوع
المسيح والرسل والقديسين فكانوا حجة على فرنسة بأنها إما ظالمة سيئة الإدارة وإما
متعصبة سيئة النية، وسببًا لشدة نفور المسلمين واستيائهم منها وتفضيل الإنكليز
عليها وشرًّا على وطنهم بإلقاء البغضاء والتفريق بين الفريقين الكبيرين من أهله كما
يعلم مما مر في هذه الرحلة، ومن بقية هذا الفصل منها، على أن هذا كان مفيدًا
للمسلمين من حيث إنه قوَّى فيهم نزعة الجنسية العربية وحب الاستقلال ومعرفة
قيمته كما قوَّى فيهم روح الدين وأعاد إليهم بعض ما فقدوا من هدايته، وكان جميع
المشتغلين بالسياسة من خصوم الاحتلال الفرنسي يسرون بسوء تصرفها وتصرف
أعوانها ولا يحبون أن تحسن الإدارة لئلا يميل إليها الجمهور.
ولو كان أمثال (لبنان وحنا) ممن اصطفاهم الفرنسيس من بيوتات لبنان
المعروفة أو من الأفراد الذين تربوا تربية ترفع من خسة المنبت ووراثة السوء لِما
كانوا يعاملون مثلي بهذه المعاملة وإن أُمروا بها أمرًا بل كانوا ينصحون للأجنبي
الذي يأمرهم به بمثل ما ينصح لحاكم طرابلس العسكري من حملوه على خروجه
من داره ليلاً ليتلافى بنفسه ما كان أمر به، فأما أبناء البيوتات فإنهم ورثوا الأدب
الشرقي في احترام الأسر الشريفة والعشائر المحترمة، وأما أبناء التربية الحسنة
فيعرفون قيمة العلم والأدب ويحترمونه بالطبع فينزهون أنفسهم معهم عن سوء
الأدب.
وأما ما كان من أمر هذه الحادثة في بيروت فهو أننا لما وصلنا إليها وكان ذلك
بعد المغرب من يوم الأربعاء صادفنا في الطريق إلى دار الحكومة بعض الأصدقاء
فسار أحدهم معنا إليها وانتظر آخرون ما يعود به من الخبر ليبنوا على ما يقع لنا ما
يجب أن يعمل لتلافيه إن كان شرًّا، ولمَّا دخلت دار الحكومة لقيت فيها لدى الباب
الشيخ عبد الكريم اليافي نقيب أشراف بيروت من أصدقائنا الأولين [٢] وهو موالٍ
للسلطة الفرنسية فسألني بعد التحية عما جاء بي إلى دار الحكومة في ذلك الوقت
فأخبرته فأخبر حاكم بيروت أو نائبه بخبري مقرونًا بالثناء والتزكية والضمان غير
الرسمي، فرضي بأن أخرج وأكون حرًّا في بيروت إلى أن ينظروا في هذه
الأوراق وينصفوني فيها بشرط أن لا أعمل أعمالاً سياسية مضادًا لهم فيها.
تقريري للمندوب الفرنسي السامي
كان هذا الحدث وسيلة لي إلى كتابة تقرير للمعتمد الفرنسي بدأته بالتذكير بما
دار بيني وبينه وشرحت فيها ما كنت أجملته في الحديث معه يوم لقائه من اضطهاد
المسلمين بما لم أكن أعلمه يومئذ لقرب العهد بالوصول إلى بيروت ومنها كون
النسبة إلى العرب من كبار الذنوب السياسية مع كونه هو وكثير من كبار رجال
فرنسة قد صرَّحوا بأنهم يريدون إحياء الجنسية العربية ولغتها ومدنيتها.
ثم ذكرته فيه بتفضيله الفرنسيس على الإنكليز في معرفة أقدار الناس من
أفراد أو شعوب وقفيت على ذلك بإعلامه بأنني كنت في مصر أنتقد سياسة الإنكليز
كتابة وخطابة وقولاً في المجالس العامة والخاصة وقدمت لهم في أثناء الحرب
وبعدها مذكرات في تخطئة سياستهم في المسألتين العربية والإسلامية (حتى
التركية) وآخرها المذكرة التي أرسلتها إلى وزيرهم مستر لويد جورج وأنذرته فيها
بعداوة العالم الإسلامي لهم، وأنه قدمت إليهم تقارير كثيرة في أمثال هذه المسائل
(علمت هذا من نائب الملك وغيره) وكانوا يعلمون أن لي علاقة ودية بأمراء
العرب وزعمائهم وجمعياتهم، بل عثروا على رسالة تعد تحريضًا للعرب على
الأجانب وقيل لهم إنني أنا الذي طبعتها ووزعتها - ومع هذا كله لم يفتشوا لي
منزلاً ولا مطبعة ولا أهانوني بقول ولا عمل ولم يقابلني أحد من كبار رجالهم إلا
بالاحترام اللائق، فأين هذا مما عاملتني به السلطة الفرنسية في طرابلس؟
وذكرت له بهذه المناسبة أيضًا كلمة عن ذهابي إلى الهند سنة ١٩١٢ بدعوة
جمعية ندوة العلماء فيها لرياسة المؤتمر الإسلامي وأن الإنكليز كانوا كارهين لهذه
الدعوة وبلغني في الهند أن جواسيسهم كانت تتبعني كما فعلت وتفعل جواسيس
فرنسة بطرابلس وبيروت، ولكن لم يتعرض أحد لحريتي الشخصية ولا فتحوا
صناديقي ولا فتشوا أوراقي! وختمت هذه المسألة بقولي له: (وليس هذا بكثير على
حرية الإنكليز التي قسروا بها من يختبرهم ويختبر غيرهم على تفضيلهم على جميع
الشعوب الأوربية في الحرية ومعرفة أقدار الناس) .
قلت: بل كان الغريب ما عاملني به أحمد جمال باشا الاتحادي الشهير في
بغداد - وكان يومئذ جمال بك - إذ ألممت بها منصرفي من الهند وكنت مجاهرًا
بالطعن في الاتحاديين والتنفير عنهم وكانت (مجلة العالم الإسلامي) التي
يصدرونها في الآستانة تنشر بقلم الشيخ عبد العزيز شاويش أنني أقصد العراق
لأجل تأليب العرب وإثارتهم على الدولة - ولكن جمال باشا لم يأخذ هذا الكلام
قضية مسلَّمة، بل سأل نقيب السادة الأشراف السيد عبد الرحمن المحض الكيلاني
(رئيس وزراء بغداد لهذا العهد) وبعض كبار العلماء عني فبالغوا في الثناء (وكان
هو يعرف عني شيئًا وكتب إلي قبل سفري ذاك) فأكرمني وزارني ودعاني إلى
طعامه، فأين هذه المعاملة من أقسى الاتحاديين الذي اشتهر بلقب السفاح من معاملة
الفرنسيس لي في بلدي وأنا لم أفعل شيئًا يخالف القانون ولا يخل بالأمن، ولم أدخل
في غمرة الأحزاب السياسية إلخ.
وختمت المذكرة بسوء تأثير هذه الحادثة في أنفس المسلمين الذين صاروا
يتعجبون لما كانوا يسمعون من حسن سيرة فرنسة وسوء سيرة الدولة العثمانية، وقد
تبين لهم أن الترك أعدل وأرحم وأبعد عن التعصب وأحسن إدارة من الفرنسيس،
فصاروا يسألون عن سبب سوء صيت الترك وحسن صيت الدول الأوربية إلخ.
اعتذار المندوب السامي وغيره
أرسلت المذكرة إلى المندوب (القومسير) السامي فلم ألبث أن دعيت إلى
مقره الرسمي (القومسيرية وكان ذلك في ٨ نوفمبر) فقابلني فيها (مسيو
رودريكس) معاون مدير الأمور السياسية؛ لأنه يحسن العربية وكان هو المترجم
بيني وبين المندوب عند تلاقينا منذ شهر فرحَّب بي أجمل الترحيب وبلغني شدة
أسف المندوب السامي لوقوع الحادثة وأنه كان يود لو يلقاني ليعتذر لي بنفسه لولا
أنه أصيب منذ ثمانية أيام بإسهال تحول إلى دوسنطارية وأنه كلفه الاعتذار باسمه،
وأن يخبرني أن الحاكم العام مسيو (نيجر) سافر أو يسافر إلى طرابلس لأجل هذه
الحادثة ليحقق الأمر فيها ويعاقب المسيئين وأنه سيعزل حاكم طرابلس لأجلي،
وكلفه أن يخبرني أيضًا بأن الحكومة الفرنسية مستعدة للقيام بكل ما أطلبه من
التعويضات المالية والأدبية - وكرر عليّ ذلك قائلاً مهما تطلب من التعويض يؤدَّ
بكل ارتياح.
قلت: إنني لا أطلب تعويضًا ماليًّا وإنني لم أخسر من المال شيئًا يذكر وأما
معاقبة المسيئين من الشرطة وغيرهم فهو لمصلحتكم؛ لأنه يرفع عنكم تهمة تعمد
إهانة المسلمين وظلمهم وأنا لم أخسر شيئًا من مقامي الأدبي بظلمكم إياي بل ذلك
مما يرفع مقامي في نظر أهل وطني وغيرهم، إلا أن حاكم طرابلس أمسك عنده
أوراق وقفنا فأنا أطلبها للسعي في إنجاز العمل فيها.
قال: إذا أنت لم تطلب لنفسك شيئًا فأنا أطلب منك باسم الوطن السوري أن
تترك مصر وتقيم هنا وتشتغل بإصلاح بلادك فهي أولى بك؛ لأنها فقيرة من
الرجال ونحن في حيرة من هذا الفقر، نريد إنشاء مجمع لغوي وأن تكون أنت
العضو الأول فيه، وفي البلاد مصالح إسلامية خاصة أنت أولى بإصلاحها أو إدارتها
ونود أن تكون مستشارًا للحكومة العليا في البلاد لتكون خدمتنا لها على الوجه
المُرضي للمسلمين أصحاب الأغلبية في البلاد وأن إدارة هذه البلاد من أشق الأمور
وأصعبها لكثرة الأديان والمذاهب المتعادية فيها (وذكر أكثرها وأطال في استمالتي
والثناء عليّ بلطفه وبشاشته) .
فشكرت له هذه العناية والثناء واعتذرت عن الانتقال من مصر إلى سورية
بما لا حاجة إلى الإطالة به.
وكان اتفق في هذه الأثناء أن دعا الحاكم العام للولاية (موسيو نيجر) أكابر
وجهاء المسلمين المعارضين لتأليفهم وسماع ما ينكرون على السلطة الفرنسية وما
ينقمون منها، فكان أشد ما ذكر له مما نقموا وأنكروا حادثتنا هذه، تكلم فيها في ذلك
الاجتماع وغيره أكبر العلماء مفتي الولاية الشيخ مصطفى نجا والشيخ أحمد عباس
وأيدهما كبار الوجهاء المشهورون بالشجاعة الأدبية كالمرحوم أحمد مختار بيهم
وأبي علي سلام، فأكبروا من شأن صديقهم خادم الإسلام والوطن فحمل ذلك الحاكم
على أن يطلبني ليسمع تفصيل الحادثة مني فاتفق أن طلبني مدير الأمن العام في
الوقت الذي حدده لي كتابة.
جئت دار الحكومة بعد العصر من ذلك اليوم فقابلت مدير الأمن أولاً فأعطاني
أوراقي وبلغني عن حاكم مدينة بيروت الإداري أنه يجب أن أسافر إلى مصر في
أول باخرة تسافر من بيروت إلى الثغور المصرية، ثم دخلت على الحاكم العام
فرحب بي واعتذر عن الحادثة متأسفًا لوقوعها وقال: إنها بلغته من مصادر مختلفة
فأحب أن يعرف الحقيقة مني قبل سفره إلى طرابلس فلخصتها له، فأعاد التلطف
في الاعتذار ووعد بالتحقيق ومعاقبة المسيئين فقلت له: ذلك شأنكم، ولكن مدير
الأمن العام بلغني الآن أنكم حكمتم علي بالنفي من البلاد ولم يبين لي سبب هذا
الحكم القاسي، فهل هذا ما وعدتم به من العدل؟ وأنا لا يهمني عقاب أحد بعزل ولا
غيره لأجلي، فإن هذه الإساءة رفعت من قدري في نظر أبناء وطني، ولكن حاكم
طرابلس أرسل إليكم جميع أوراقي ما عدا الأوراق الرسمية المتعلقة بالوقف،
ولخصت له خبرها، فأنا لا أطلب إلا استرجاعها لأجل إتمام المعاملة الرسمية في
الولاية بها، فظهر الاستياء على وجهه وكتب أمرًا بإلغاء حكم النفي معتذرًا عنه
وأما أوراق الوقف فوعد بأن يحضرها معه، ثم ذهب إلى طرابلس وبحث مع
حاكمها العسكري في ذلك وبلغني أن هذا قد احتج لنفسه بأن البوليس فعل ما تقتضيه
وظيفته إلا إساءة المعاملة، وأما هو فلما علم بحقيقة الحادثة حولها إلى الولاية ولم
يسئ في شيء - وقد صدق في هذا - وبلغني أنه وبّخ لبنان وصاحبه حنَّا وهدَّدهما،
وهكذا كان شأن السلطة الفرنسية بسوء اختيار الموظفين، تقع في المشكلات وتحاول
تلافيها فلا تحسنه ثم تعود إلى مثل ما اعترفت بقبحه لأنها لم تُزِل سببه وعلته. على
أن إزالة ذلك ليس بالخطب السهل ولا محل لبيان ذلك هنا؛ لأننا لا نكتب ما نراه
لتحسين الإدارة وإنما نكتب خلاصة تاريخية.
تعلق مسلمي الساحل بفيصل وتأثيره
قد كان استغرابي لاغترار المسلمين بالإنكليز وفيصل عظيمًا جدًّا ولا سيما بعد
تنفيذ الإنكليز لمعاهدة سنة ١٩١٦ فاقتسام البلاد العربية بينهم وبين فرنسة، وأغرب
من ذلك استغرابهم لتخطئتي إياهم في ذلك وإعلامهم بما لم يكونوا يعلمون من أمر
ثورة الحجاز وحقيقة حال ملكها والأمير فيصل، وطمع الإنكليز في السيادة على
جميع البلاد العربية ما عدا هذه الحصة التي أعطتها لفرنسة من سورية، ولجزمي
بأنها لن تعود إلى منازعتها فيها وانتزاعها منها لتعطينا إياها، وإنما يجوز بل
يرجح أن تأخذها منها في يوم من الأيام إذا استقرت قدمها الاستعمارية فيما حولها
من البلاد، وأن تستخدمنا في ذلك كدأبها في ضرب الأمم بعضها ببعض.
كنت أقول في كل مجلس يدور فيه البحث في أمر البلاد أن مثل إنكلترة مع
فرنسة في المسألة العربية كمثل جبار غاصب انتزع ضيعة لأسرة غنية من أيديها
وأعطى بستانًا أو دارًا منها لرجل كان مساعدًا له فأي الرجلين أولى بخصام
أصحاب الضيعة؟ آلذي اغتصبها أم صاحبه الذي أخذ دارًا واحدة أو بستانًا منه
ولولاه لم يأخذ شيئًا؟ وهل يليق بالأسرة المالكة للضيعة أن تتعادى وتتنازع في
تفضيل أحد الغاصبين على الآخر أم الواجب عليهم أن يتفقوا على ما يجب عمله
لاسترداد المغصوب؟
ثقل على كثير من وجهاء المسلمين قولي هذا من حيث كان مزلزلاً أو مزيلاً
لما كانوا يمنون به أنفسهم ويسلون به همومهم وزاد ثقله على تلك الأسماع ووقعه
في تلك القلوب إن كان ممن يوثق بعلمه ولا يُتهم في إخلاصه وحسن قصده، وأنه لا
سبيل إلى نقضه أو رده، فمنهم من كان يقول: وكيف العمل، وإذا لم يعمل لنا فيصل
وولده فمن؟ ومنهم من يسألني بإدلال المودة والصداقة أن أكتم هذا لئلا ييأس الراجون
ويشمت المخالفون.
ذلك بأن أعضل أمراضنا الاجتماعية أننا تعودنا التواكل بيننا، والاتكال على
غيرنا، ولا تزال الأحزاب والجمعيات السياسية في سن الطفولة وقد رسخ خلق
التنازع بين أهل الأديان والمذاهب، وإذ كان النصارى معتزين بالفرنسيس لم ير
المسلمون بدًّا من الاعتزاز بالأمير فيصل وبأنصاره الإنكليز، وكنت أرى هذا
التناظر ضارًّا في الحال وسيئ العاقبة في الاستقبال، وأن الأولى بالفريقين أن
يتركوه ويرجعوا إلى أنفسهم فيعطوها حقها ولا يمتهنوها ويجعلوا جل اعتمادهم أو
كله على غيرهم، وأن يعرفوا حق وطنهم عليهم، وأنه يستحيل أن يعمر ويعتزوا
به ما داموا متناظرين متنابزين بسبب اختلاف الأديان والمذاهب، والاتكال على
الأجانب، وكنت أرى أن إظهار المسلمين لذلك التعلق بفيصل، وإن كان له ما لا
أنكر من الباعث الطبيعي، قد زاد في كره أبناء وطنهم النصارى له ولهم،
ونفورهم منه ومنهم، وحمل الفرنسيس على اتخاذه عدوًا مبينًا وتوطين أنفسهم على
مقاومة نفوذه في البلاد السورية وفي أوربة معًا، وإنما كان يمتاز فيصل على
وجهاء الوطن السوري في السعي السياسي لاستقلاله بكونه قد عُد من قواد الحلفاء
وأنصارهم، فكلامه أجدر بالقبول لدى حكوماتهم، فكان من المصلحة أن لا يخص
بعضهم بالولاء وبعضهم بالعداء، وأن لا يجعل أنصاره من المسلمين ما كانوا
يظهرون من التعلق به والاحتفال بغدوه ورواحه إغاظة للنصارى المعتزين بفرنسة،
وكنت أرى الصواب في هذه المسألة ألا يغتر المسلمون به ويتكلوا عليه، وأن لا
يخاف النصارى منه، فصرحت في بعض المقالات التي نشرتها في جريدة الحقيقة
للتأليف بين الفريقين على المصالح المشتركة بينهم في البلاد بأن فيصلاً لا ينبغي
أن يخيف أحدًا من أهل البلاد إذا كانوا متفقين على القيام بشؤون بلادهم؛ لأنه ليس
من أهل دولة أجنبية قوية يمكنه أن يستعين بمالها وجندها على جعل سورية تابعة
لها إذا هو ولي إمارتها بل يكون هو تابعًا لها حتى إذا فرض أن عادت بلاده
الأصلية أو حاربتها لا يسعه إلا مجاراتها أو الاستقالة من إمارتها والخروج منها،
وضربت لذلك مثلاً ملك البلاد الرومانية إذ اضطر إلى قتال أبناء جنسه النَّسبي وهم
الألمان اتباعًا لإرادة أمته السياسية، وقد كان هذا القول مقنعًا لخصوم فيصل، فلم
يرد عليه أحد، بل لم يكن أكثرهم يعلم أن الأمر كذلك، بل كانوا يظنون أن إمارة
فيصل على سورية وترك فرنسة لها يستلزم إلحاقها بالحجاز، وأن ملك الحجاز
رئيس ديني للمسلمين كالبابا عند الكاثوليك، وقد صرحت في ذلك المقال بتخطئتهم
في هذا الاعتقاد أيضًا.
وقد رضي المسلمون بما كتبت في هذا المقال وسرَّهم عدم انتقاد النصارى له
ولو جَرَوا على هذه الخطة قولاً وكتابة وكَفوا عن ذلك المسلك الذي سلكوه في شأنه
لوقفت المعارضة له من الفرنسيس وأعوانهم عند حد ولم تنته إلى ما انتهت إليه،
ولَما كان تأثير عاقبة أمره في المسلمين أليمًا شديدًا كما كان، ولكن ذلك البيان لم
يكرر ولم يعمم فظل السواد الأعظم من النصارى يعتقد إلى اليوم أن فيصلاً كان
يريد جعل سورية تابعة للحجاز، وأنه كان قادرًا على ذلك لو تم له الاستواء عليها،
وكل من الأمرين خطأ، ولم أكن أريد بهذه الخطة تأييد فيصل لذاته أو مشايعة
لحزبه - وأكثرهم من إخواني وأصدقائي - وإن كنت أعلم أنها أمثل ما يؤيَّد به،
وإنما كنت أقصد أن لا يتعادى أهل وطني بسببه وأن أدلهم على ما تحفظ به مصلحة
الوطن إذا أتاح القدر له أن يكون أمير البلاد أو ملكها بنفوذ حلفائه.
وجملة القول أنني كنت أتحرى في كل ما كنت أقوله وأكتبه النصح لجميع
أهل وطني مع المحافظة على ما ألزمتني إياه السلطة البريطانية بمصر وجعلته
شرطًا في الإذن لي بالسفر، وإن كان ظلمًا واعتداء على حريتي الشخصية في
بلادي التي أنا أولى بالحرية فيها منهم، ولم أكن أتشيع لسلطة من السلطات التي
قسمت البلاد ولا متحاملاً على واحدة منهن تحيزًا لخصيمتها، ولا مهيجًا على
السلطة الاحتلالية.
الدين والقوة والمصلحة في سياسة أوربة
وإني أرجو أن يكون الزمان قد أثبت لأهل البلاد على اختلاف أديانهم أن
جميع ما قلته في فرنسة وإنكلترة والحجاز هو الحق، وأن جميع ما اقترحته هو
المصلحة وإن لم يتذكروا أقوالي، فمن لم يكن ظهر له ذلك إلى اليوم كله أو
بعضه فسيظهر له عن قريب، فيعلم السوريون وهم شعب غير مسلح أنه لا قوة لهم
إلا بالاتحاد وجمع الكلمة، وأن الشعوب لا تنال من الحرية والاستقلال ولا من
الكرامة والارتقاء مع احتلال أجنبي إلا بقدر قوتها، وأن دول أوربة وإن بنيت
سياستها القديمة في الشرق الأدنى على دعوى حماية المسيحيين وإنصافهم أو إنقاذهم
من سلطة المسلمينَ فهي تتخذ الدين وسيلة إلى مصالحها ولا تبالي بما يعارضها وإن
نسف الدين وأهله في اليم نسفًا.
والدليل على ذلك أن الدولة الفرنسية حامية المسيحيين الأولى في الشرق لا
دين لها، وأنها قد قوضت الآن بنيان القاعدة الأساسية للسياسة الأوربية في
الشرق - أعني قاعدة التنازع بين الهلال والصليب - وسبقت حلفاءها إلى الاتفاق مع
الترك الوطنيين الأقوياء في الأناضول وصرَّحت بأن لهم الحق في الاستقلال
التام واستعادة ما أخذه الحلفاء المنتصرون منهم، ورضيت بأن تنجلي لهم عن
جميع كليكية، وعن جزء عظيم الشأن من سورية والأمة الفرنيسة ترفع صوتها
بتأييد حكومتها في سبيل إعادة المودة بينها وبين الإسلام وخليفة المسلمين، وإذ
رأت أن هذا من مصلحتها لم يصدها عن تنفيذه حماية المسيحيين في تلك البلاد،
ولا قاعدة ما أخذ الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال.
وإن الدولة البريطانية ترجح المصلحة على الدين أيضًا وهي ذات الصبغة
المسيحية الرسمية والملك الحامي للإيمان وواضعة قاعدة الصليب والهلال التي
ملأت الدنيا عنفًا وتثريبًا على فرنسة لاتفاقها مع مصطفى كمال باشا ناسخة للقاعدة
الأوربية المذكورة آنفًا بعد أن كانت متفقًا عليها وتاركة حماية الأقليات المسيحية في
كليكية فإنها قد سبقت إلى خطبة مودة الكماليين فلم تظفر بها، وضحت بالأرمن
الذين دفعتهم إلى عداوة دولتهم، وتركتهم يذوقون جزاء ثوراتهم وعصيانهم، ولم
تقبل أن تكون منتدبة لحمايتهم، بل لتأمين ما اعترفت به من استقلالهم، ثم إنها
تريد أن تعيد سلطان اليهود القومي إلى مدينة المسيح - عليه السلام - ومهد دينه
وهي تعلم أن ذلك يسوء كل مؤمن بالمسيح ولا يرضاه حتى من شعبها نفسه إلا
مَن يفضل الجنيه عليه وعلى إنجيله وأهل دينه، وأن كل ما يشكو منه أعداء الحجاز
من المسيحيين ويسوؤهم من نفوذ أمرائه لأنه مهد الإسلام، ولحسبانهم أن سلطة
شريف مكة كسلطة البابا، فهو من أعمال بريطانية العظمى وإنما الحجاز معبد ليس
مقر سلطة ولا يصلح أن يكون كذلك، وليس فيه قوة جندية ولا مالية يفتح بها سورية
أو يحفظ بها نفسه لو حاربته هي أو غيرها. وسيرون هذه الدولة مهتمة بالصلح مع
الترك والاعتراف لهم بحق الاستقلال في بلادهم واحترام سلطة الخليفة التركي وإظهار
الرغبة في مساعدته كما فعلت فرنسة إذا هي عجزت عن إقناعها مع إيطالية ثانية
بالاتفاق معها على الإجهاز على هذا الاستقلال.
وأما أمراء الحجاز فقد ظهر فيهم ما كنا نقوله لأبناء الوطن السوري فيهم وهو
أنهم لا رجاء فيهم للمسلمين، ولا خوف منهم على المسيحيين؛ لأنهم لا حول لهم
ولا قوة بأنفسهم وإنما هم مسخرون لخدمة بريطانية العظمى ينال كل منهم من
الحظوة عندها بمقدار خدمته لها وتمكين نفوذها في بلاده وسائر البلاد العربية كدأبهم
في جميع البلاد التي مدوا إليها أيدي مطامعهم.
فلما كان فيصل أكثر مواتاة لهم جعلوه ملكًا لمستعمرة العراق الجديدة، وكم لديهم
من السلاطين والأمراء والألقاب الأخرى في المستعمرات والأملاك التي هي أوسع
من العراق استقلالاً، ونفوذهم فيها أضعف وإن لم يُسمَّ انتدابًا، ولو واتاهم أخوه
الأمير عبد الله من قبل لسبقه إلى ملك العراق، وليته إذ لم يقبل لقب الملك في
العراق لأنه بغير ملك، لم يقبل ما دونه في شرق الأردن، ويا ليت، ويا ليت،
ويا ليت.
وهل ينفع شيئًا ليت ... ليت شبابًا بيع فاشتريت
فعسى أن يثوب أهل سورية عامة إلى رشدهم من قريب ويغسلوا عنهم ما
لحقهم من عار التعصب وعدم الوطنية ويتحدوا اتحادًا يضطر الأجانب إلى
احترامهم والرغبة في صداقتهم بدلاً من استعبادهم، ولا يأبى المسلمون حينئذ أن
تكون حكومة لبنان مسيحية مستقلة لا سلطان عليها، وإنا نضمن ذلك لمن شاء بما
يقنعه، إن شاء الله.
نصيحتي للفرنسيس بتغيير سياستهم في سورية
قلت: إنني قد اضطررت بسبب حادثة طرابلس لإطالة المكث في بيروت
واشتغلت بمسألة الوقف بعد أن كنت وكلت من يقوم بذلك، وفي أثناء هذه المدة
جمعني بعض معارفي بموسيو (مرسيه لوي) وهو يحسن العربية، وكان قد
زارني بمصر فكان مما ذكره لي أنه يبلغهم عني غلو عظيم في شدة المعارضة
والمقاومة لهم ولكنهم لا يأخذون الكلام على عِلاته بل يتروون ويحققون إلى أن
يقفوا على الحقيقة، فقلت له: إن عندي قاعدة أتحرى تطبيق عملي عليها وهي أن
الرجل من لا يقول قولاً يحتاج إلى إنكاره، وإنني أعدك وعدًا مؤكدًا بشرفي بأنك لو
سألتني عن كل ما نقل إليكم عني لصدقتك في الاعتراف الصحيح وإنكار ما عداه
لتعلموا مقدار غش جواسيسكم، وإلا فإنني أخبرك إجمالاً بسيرتي في البلاد: إنني
لست قائمًا بدعوة إلى مقاومتكم ولا إلى تأييد خصمكم ولكنني من رجال الاستقلال
ومعارضي السلطة الأجنبية ومشهور بهذا، فأنا أصرح برأيي ومشربي إذا اقتضت
الحال ذلك ولا أنتقدكم بأكثر مما أنتقد به الإنكليز والشريف حسين والشريف فيصل،
وإنني معتقد أن محاولتكم استعمار سورية ليس خيرًا لكم ولا لها ولو فرض أنني
اعتقدت أن استعماركم لها خير لها لما كان لي أن أصرح بهذا الاعتقاد المخالف؛ لما
يعلم كل الناس من مشربي وثباتي عليه، إذ يكون التصريح مظنة ريبة في كونه
اعتقادًا عرض، قال: هذا كلام صحيح.
ثم شرحت له رأيي في بيان كون اقتسام سورية والعراق بينهم وبين الإنكليز
شرًّا لهم لما سيكون من عاقبته في عداوة العالم الإسلامي لهما وكون رغبتهم في هذه
القسمة أعظم من غبن حلفائهم بصغر حصتهم وعسر التصرف في أهلها وما يتوقع
من انقلاب النصارى عليهم وقد بدت بوادره، وإن الخير لهم في حصتهم من
سورية أن تكون مستقلة استقلالاً صحيحًا وجعلها صديقة لهم وحينئذ ينتفعون منها
باختيار أهلها من غير خسارة فوق ما ينالهم من النفع بسبب السيادة العسكرية فيها
ويربحون صداقة الأمة العربية كلها ويأمنون ضرر عداوتها وجعلها آلة بأيدي
الإنكليز، وذكرت له أنني نصحت للإنكليز بمثل هذه النصيحة [٣] فمنعهم الغرور
والطمع والتعصب الديني من الإصغاء، ولخصت له معنى مذكرتي لرئيس الوزارة
البريطانية، وقد سبق ذكرها في المنار غير مرة فأعجبه كلامي واقترح عليّ أن
أكتب مذكرة للجنرال غورو بذلك وهو يترجمها له ليرسلها إلى باريس فامتنعت عن
الكتابة وقلت له بلِّغه أنت ذلك.
بعد هذا ذهبت إلى دمشق إجابة لطلب الأمير فيصل ثم عدت إلى بيروت في
أول مارس سنة ١٩٢٠ لإقناع وجهاء بيروت المنتخبين للمؤتمر السوري بالذهاب
إلى دمشق لحضور جلسة المؤتمر التاريخية التي تعلن استقلال سورية، وفي ٤
مارس جاءني كتاب من مسيو (مرسيه لوي) يقول فيه بعد رسوم الخطاب: (إن
سعادة الجنرال غورو قد عين لكم ٥ آذار الساعة ٦ أفرنكي مساء ميعاد استقبالكم في
السراي) وكان هذا الطلب بسبب أن مخاطبته إياه بموضوع حديثنا لا بطلب مني
ولا علم فجئت في الموعد فبُلِّغتُ أن موسيو مرسيه الذي سيترجم بيني وبين الجنرال
قد
ذهب إلى قنصل أمريكة في عمل رسمي أبطأ فيه فانتظرناه متوقعين مجيئه في كل
دقيقة زهاء ساعة ونيف، فلما حضر دخلنا حجرة الجنرال فتلقانا أمين سره
(السكرتير موسيو روبير دوكيه) وبلغنا بعد التحية أن ميعاد الجنرال ذهب ببطء
(موسيو مرسيه) فهو يعتذر عنه باسمه ويحل محله فيما طلبني لأجله إذا كان لدي
سعة في الوقت، قلت: ليس لدي مانع من البحث. وإنما ذكرت هذه القصة ولم
ألخص حديثي معه بدونها للإعلام بأن الجنرال نفسه كان حريصًا على البحث في هذا
الموضوع المهم وهو كون استقلال سورية وحريتها خير لفرنسة من استعمارها باسم
الانتداب وقد يتعجب كثيرون من نتيجة ما أقصه من حديثنا ويرون فيه دليلاً على
تقصير السوريين في السعي المعقول لدى الفرنسيس يأسًا منهم، وأن رضاهم باستقلال
سورية ممكن.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))