الفصل الثالث في التوراة والإنجيل التوراة كلمة عبرية معناها الشريعة , وتطلق في الأصل على كل ما أوحاه الله تعالى إلى موسى - عليه السلام - ليبلغه للناس من مواعظ وقصص وشرائع وغير ذلك , وسميت كل هذه الأشياء بالتوراة؛ لأن أعظم شيء فيها هو (الشريعة) . ويرى الناظر في كتب العهد القديم أن موسى- عليه السلام - اعتنى بشريعته اعتناءً كليًّا وجزئيًّا حتى إنه أعاد تبليغ هذه الشريعة لبني إسرائيل بعد أن بلغها لهم المرة الأولى , وكتبها لهم بنفسه وسلمها لهم مكتوبة هي والوصايا العشر التي كانت مكتوبة بقلم القدرة الإلهية على لوحين من الحجر وأمرهم بحفظها , وشدد عليهم في ذلك تشديدًا عظيمًا , والشريعة الموسوية هذه مع الوصايا العشر توجد ملخصة في كتاب على حدتها يسمى الآن (سفر التثنية) لأن موسى أعادها فيه كما قلنا بعد أن كان بلغها لهم من قبل , وهذا السفر يسمى في العهد القديم سفر التوراة وسفر الشريعة (تث ٣٠: ١٠ و٣١: ٩ و١١ و١٢ و٢٤ وتحميا ص ٧: ٨ ودا ٩: ١٣ و٢ أي ٢٥: ٤) ولا يوجد عند أهل الكتاب دليل على أن موسى كتب الأسفار الأخرى المنسوبة إليه غير سفر التثنية. وهذا السِّفر حافظت عليه الأمة اليهودية محافظة شديدة (إلا في أوقات ارتدادها وكثيرة هي) لأنه كان مرجع جميع الأنبياء من عهد موسى - عليه السلام - إلى عيسى - عليه السلام - ومن راجع هذا السفر ظهر له أنه لم يدخله شيء يذكر مما دخل غيره من الفساد الكبير , نعم قد زيد عليه الإصحاح الأخير منه المتعلق بموت موسى - عليه السلام - وغلط في عده الأرنب الجبلي من الحيوانات المجترة (١٤: ٧) وربما زيد عليه بعض كلمات قليلة في أوله , وما عدا ذلك يمكننا أن نقول: إن جل ما جاء فيه هو من التوراة الحقيقية (أو هو ملخص الشريعة الموسوية) التي أوحاها الله تعالى إلى موسى , وهذا السفر هوالذي كان معروفًا بين بني إسرائيل (باسم التوراة) و (سفر الشريعة) كما يظهر من باقي كتب العهد العتيق , ويعرف أيضًا في العهد الجديد بالناموس [١] (متى ٢٢: ٤٠) . أما باقي الكتب المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - فلم تسم (بالتوراة) ولا (بسفر الشريعة) بين اليهود الأقدمين كما هو ظاهر من كتب العهد القديم , والغالب أنها ما كانت كثيرة التداول بينهم قبل أسر بابل , ولا كانت معروفة لجميع الناس اللهم إلا الشرائع التي تتضمنها هذه الكتب , فالظاهر أن فسادها قليل جدًّا كالكلام على اجترار الأرنب الجبلي مع أنه لا يجتر (تث ١٤: ٧ ولا ١١: ٦) ومثل شريعة برص الثياب (لا ١٣: ٤٧ - ٥١) وبرص البيوت (لا ١٤: ٣٣ إلى ٥٥) فإنها كلها شريعة لا فائدة منها ولا يفهم أحد لها معنى للآن. ولا ننكر أن موسى - عليه السلام - بلغهم كثيرًا من القصص التي في تلك الكتب ولكنه لم يكتبها لهم , فهي بمنزلة الأحاديث عندنا , ويجوز أن يكون بعض الناس كتب شيئًا منها في زمنه عليه السلام , كما كُتب بعض الأحاديث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينهى عن كتابتها , وكثير مما في هذه الكتب من التواريخ قد حضره بنو إسرائيل بأنفهسم وعلموه , فهو لا يحتاج لتبليغ موسى بل تناقله اليهود بينهم بالروايات الشفوية أو بكتابة بعضه كما قلنا , فدخله كثير من التحريف والتبديل والنقص والزيادة. وقبل سبي بابل لم تجتمع هذه الكتب على هيئتها الحاضرة كما جزم بذلك علماؤهم (راجع قاموس الكتاب المقدس لبوست مجلد ١ ص ٥٥٩) ولا يعرف باليقين من كتب الأسفار الأخرى غير سفر التثنية , والظاهر أنها كتبت في أوقات مختلفة وتم وجودها بين اليهود قبل سنة ٧٢٠ ق. م أي قبل وجود السامريين , وكانت جمعت من الرويات الشفوية ومن بعض المحفوظات القديمة المكتوبة , فهي ككتب السير والتواريخ عند المسلمين , وليست متواترة عند اليهود بخلاف سفر الشريعة (التوراة) الذي كانت الأنبياء تقيم أحكامه من عهد موسى إلى عيسى عليهما السلام (انظر متى ٥: ١٧ و١٨) . وقد استدل كثير من العلماء بوجود بعض عبارات من حوادث متأخرة , ومن وجود بعض أسماء لم تكن معروفة في زمن موسى , بل حدثت بعده , أنه عليه السلام لم يكتب كل هذه الأسفار المنسوبة إليه (راجع كتاب إظهار الحق تجد من ذلك كثيرًا , وكتابنا الدين في نظر العقل الصحيح , فقد ذكرنا فيه بعض هذه الشواهد) . قال الدكتور بوست في قاموسه صفحة ٤٣٢ مجلد أول: (إنه من المؤكد أن موسى - عليه السلام - لم يكن يعرف دان (تك ١٤: ١٤) ولا حبرون (٣٧: ١٤) (بهذين الاسمين) اهـ؛ فهما من الأسماء التي استجدت بعده ووجودهما في هذه الأسفار , مما يدل على أن واحدًا غيره كتبها بعد وفاته أو غيَّرهما فيها. ونحن نستدل أيضًا من ذكر لفظ (الله) فيها بالجمع (تك ١: ١) [**] وذكر مصارعة الله ليعقوب (تك ٣٢: ٢٤ - ٢٩) وقصة زنا لوط [***] بابنتيه , وشربه الخمر وسردها بطريقة لا تشعر بشناعتها وبشاعتها (تك ١٩: ٣٠ - ٣٨) وندم الله تعالى على خلقه الإنسان , وحزنه لذلك (تك ٦: ٦) , وقصة الحية وأكلها التراب (تك ٣: ١٤) , والكلام على برص الثياب والبيوت (لا ١٤: ٥٥) وغير ذلك , نستدل بهذا أن موسى ما كتب هذه الكتب , بل كتبها أناس مجهولون في أزمنة مختلفة , وما ذكرناه من سفر التكوين يدل على أن الذي كتبه رجل لم يقدِّر الله تعالى حق قدره ولا أنبياءه , وربما كان مشركًا به أي من اليهود المرتدين الذين عبدوا الأصنام , ولا مانع من أن اليهود حوروه بعد ذلك وتوسعوا فيه. فهذه الكتب الأربعة المنسوبة لموسى - عليه السلام - تشتمل على تاريخ اليهود منذ الخليقة إلى زمن موسى , وبعض رواياتها صحيح والبعض الآخر كذب أو خطأ فلذا لا نعول عليها. وكما نسبوا إليه هذه الكتب نسبوا إليه غيرها ومثل (كتاب المشاهدات وكتاب التكوين الصغير وكتاب المعراج وكتاب الأسرار وكتاب الإقرار) وكتاب التكوين الصغير هذا كان باللسان العبري إلى المائة الرابعة بعد المسيح , واستشهد به بعض النصارى الأولين , وترجمته كانت موجودة إلى القرن السادس عشر , ثم رفضوه ففقد , ويجوز أن هذه الكتب المذكورة هنا كانت تشتمل على بعض روايات صحيحة عن موسى عليه السلام. ومما فقد أيضًا من الكتب المنسوبة لموسى عليه السلام كتاب يسمى (حروب الرب) ذكر اسمه في سفر العدد ٢١: ١٤ ولا وجود له الآن , وكذلك ضاع كلامه عن البعث والنشور , فلا يوجد في هذه الأسفار ذكر لهذه العقيدة الكبرى التي تضارع الإيمان بالله ولا يعقل أن موسى لم يخبرهم بها صراحة. والخلاصة أن شريعة موسى - عليه السلام - (التوراة بالمعنى الأصلي) أو ملخصها موجودة مع شيء قليل جدًّا من الغلط كما بينا , وتكاد تكون متواترة بين اليهود في سفر التثنية لولا كثرة ارتدادهم , وأما باقي الكتب فهي تشتمل على روايات منها الصحيح ومنها الكاذب ومنها الغلط. فتوراة موسى بالمعنى الأعم (أي كل ما أوحي إليه وبلغه إلى الناس) لم تصل إلينا , بل بعضها فقد وبعضها زيد فيه وبعضها تحرف فهي كالأحاديث عند المسلمين. وبعد سنة ٧٢١ ق. م أي بعد انقراض مملكة إسرائيل وجد السامريون , وكانت الوثنية فاشية في آبائهم وفيهم وما كانوا يهتمون بالتوراة , ولكنهم بعد ذلك اتخذوا لهم نسخة من هذه الكتب تشتمل على الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى وعلى سفري يشوع والقضاة , وتختلف نسختهم عن نسخة اليهود العبرية في كثير من المواضع: كأعمار القدماء وكجبلي جرزيم وعيبال , ويوجد في السامرية وصية زيادة عن الوصايا العشر [٢] . وفي سنة ٢٨٥ ق. م اجتمعت لجنة من اليهود بأمر بطليموس فيلادلفوس , وترجموا ما عندهم من الكتب العبرية إلى اللغة اليونانية , وكان عددهم ٧٢ نفرًا وسميت هذه الترجمة بالترجمة السبعينية أواليونانية , وكانت تشتمل على كثير من الكتب الأبوكريفية (أي غير القانونية) وهذه الترجمة كانت مستعملة بين النصارى من عهد وجودهم إلى القرن الخامس عشر وهي الآن مستعملة في الكنيسة الشرقية , وبينها وبين العبرية اختلافات كثيرة في كثير من العبارات والفقرات والألفاظ , ومع ذلك لم يقتبس مؤلفو العهد الجديد إلا منها وكانت أيضًا محترمة عند اليهود. أما هذه الكتب الأبوكريفية (أي المكذوبة الموضوعة) بحسب اعتقاد البروتستنت فهي أربعة عشر (١) اسدراس الأول (٢) اسدراس الثاني (٣) طوبيت (٤) يهوديت (٥) بقية إصحاحات سفر استير غير الموجودة في العبراني والكلداني (٦) حكمة سليمان (٧) حكمة يشوع بن سيراخ (٨) باروخ (٩) نشيد الثلاية الفتية المقدسين والإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر دانيال (١٠) تاريخ سوسنة (١١) تاريخ انقلاب بيل والتنين (١٢) صلاة منسى ملك يهوذا (١٣) مكابيين١ و (١٤) مكابيين ٢ , وهذه الكتب موجودة في الترجمة السبعينية كما قلنا وفى الترجمة اللاتينية وفي التوراة الكاثوليكية الرومانية, وكانت مسلَّمة عند جميع فرق النصارى قبل وجود البروتستنت ما عدا كتابي اسدراس وصلاة منسى , ولا تزال كذلك إلى اليوم عند الأرثوذكس والكاثوليك. وأما أبوكريفا العهد الجديد فتحتوى على كثير من الأناجيل والرسائل وعددها ٧٤ كتابًا , ولا يعتقد فيها النصارى الآن وكانت قديمًا منسوبة إلى المسيح - عليه السلام - وإلى تلاميذه وإلى بولس , فانظر كيف كان هؤلاء الناس يدسون الكتب الكثيرة بين كتب الله! أما كلمة (الإنجيل) فهي يونانية ومعناها البشارة , وسمي الوحي إلى عيسى بذلك؛ لأنه جاء مبشرًا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال تعالى عن لسانه: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: ٦) , فعيسى - عليه السلام - بَشَّرَ الناس بقرب مجيء خاتم النبيين لهم بأكمل شريعة وأرقى دين لأرقى أطوار البشر وأنسب شريعة لطبيعة الإنسان في كل زمان ومكان, والتي ترفع ما وضع على الأمم السابقة من الإصر والأغلال , وأجمع دين لمصالح الدنيا والآخرة ولحاجات الروح والجسد , فقال عليه السلام: (يو١٦: ١٢ - ١٤ إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ١٣ , وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه , بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ١٤ ذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم) . وكان عيسى - عليه السلام - وتلاميذه يبشرون دائمًا بمملكة محمد صلى الله عليه وسلم , تلك المملكة المجيدة الجليلة التي زانها الحق وعبادة الله تعالى وحده؛ فلذا سماها المسيح (ملكوت السماوات) و (ملكوت الله) لأنها مملكته تعالى في الأرض وقانونها هو كتابه ورؤساؤها هم خلفاؤه (راجع إنجيل متى ٣: ٢ و٤: ١٧ و٢٣ و٦: ١٥ و١٣: ٣١ و٣٢ و٢٠: ١ - ١٦ و٢١: ٣٣ - ٤٤ ولوقا ١٠: ٩ و١١) وهم الصديقون الذين يرِثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد (مزمور ٣٧: ٢٩) ويدخلون باب الرب (مز ١١٨: ٢٠) ومملكتهم هي المملكة التي لا تنقرض أبدًا كما قال دانيال (٢: ٤٤) وتفنى مملكتي الفرس والرومان (راجع فصل البشائر) . فلذلك سمي الوحي إلى عيسى - عليه السلام - بالبشارة؛ لأن أعجب شيء فيه وأعظمه إنما هو البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم , وقرب مجيئه وهو الذي كانت تنتظره الأمم من قديم الزمان , وهو مشتهى كل الأمم (حجي ٢: ٧) الذي به مُلئ بيت أورشليم مجدًا وعمرانًا , وعادت إليه عبادة الله بدون شرك ولا تشبه , وبمجيئه يعلم قرب مجيء يوم الدين , يوم القصاص العادل بين عباد الله أجمعين وإنصاف المظلومين , ورحمة المتقين الصابرين وخلاص المؤمنين. هذا والإنجيل لم يكتب في زمن عيسى عليه السلام , وبعد زمنه بقليل وجدت أناجيل عديدة (لوقا ١: ١-٣) تشمل كثيرًا من أقواله وأفعاله مع زيادة ونقصان وتحريف وتبديل وكذب , فاختارت النصارى منها أربعة لا يعرف باليقين من كتبها؟ ومتى كتبت , وهي منسوبة لمتى ومرقص ولوقا ويوحنا , واثنان من هؤلاء من الحواريين كما يقولون , واثنان ليسا منهم وهما مرقص ولوقا , وهذه الأناجيل مختلفة اختلافًا عظيمًا , ومشتملة على كثير من الخطأ والغلط والوهم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في كتابنا (الدين في نظر العقل الصحيح) واستقصى هذه المسألة كتاب إظهار الحق فليراجعه من شاء. وهذه الأناجيل الحالية كتب أصلها باللغة اليونانية ما عدا إنجيل متى فإنه كان بالعبرية كما اتفقت على ذلك شهادة جميع الآباء من النصارى الأقدمين , ولكنه فقد وبقيت ترجمته اليونانية , ولا يعرف من ترجمها؟ ولا متى ترجمت؟ وقولهم: إن متى كتبه أيضًا باليونانية، لا يوجد عليه دليل عندهم , وإنما هو ظن لا يوثق به ولم يقل بذلك أحد من قدمائهم. واعلم أنه لا يوجد عند أهل الكتاب نسخة عبرية من كتبهم قبل القرن العاشر, وأهم ما عندهم من النسخ اليونانية القديمة ثلاث: (١) النسخة السينائية , ويظنون أنها كتبت في القرن الرابع. (٢) والنسخة الفاتيكانية , ويقال: إنها كتبت في القرن الرابع أيضًا. (٣) والنسخة الإسكندرية , ويظنون أنها كتبت في الخامس. ولا دليل لهم قاطعًا على شيء من هذه الظنون , واختلف علماؤهم في ذلك اختلافًا كبيرًا. أما السينائية: فوجدت في دير طور سيناء , وتشتمل على كتب العهد الجديد وجزء من العهد القديم , وهي توجد الآن في بطرسبورج. وأما الفاتيكانية: فوجدت في مكتبة البابا بالفاتيكان برومة , وفيها العهد القديم والجديد ولا تزال برومة. وأما الثالثة: فوجدت في الإسكندرية , وتشتمل على العهدين مع كتب أخرى غير قانونية , وتوجد الآن في لندن. ولما قابلوا الكتب التي في أيديهم على هذه النسخ القديمة وُجِدَ بينها ألوف من الاختلافات بالزيادة والنقص والتبديل , وهم يقولون: إنها اختلافات طفيفة وليست جوهرية , ولكنا نورد هنا شيئًا من هذه الاختلافات التي نقول: إنها هامة: (١) ما في مرقص ١٦: ٩ - ٢٠ وهذه العبارات تتضمن ظهور المسيح بعد قيامته لتلاميذه ودعوة العالم كله للنصرانية وغير ذلك , وهي غير موجودة في النسخة السينائية ولا في الفاتيكانية , وعليها علامات الريب في نسخ أخرى قديمة , وأنكرها في القرن الرابع كل من أوسابيوس وأبرونيموس. (٢) ما في يوحنا ٧: ٥٣ - ٨: ١١ وهو قصة عدم رجم المسيح للزانية وهي غير موجودة في أكثر النسخ القديمة ولا في السينائية والإسكندرية والفاتيكانية. (٣) ما في رسالة يوحنا الأولى ٥: ٧ وهي العبارة الصريحة الوحيدة في عقيدة التثليث [****] وهي غير موجودة في النسخ القديمة ولا بمعتبرة، وعند أكثر المحققين منهم أنها زائدة؛ ولذا يضعونها في نسخهم بين قوسين إشارة لذلك , فهذا شيء من الاختلافات التي يقولون عنها: إنها طفيفة. قال صاحب كتاب (الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية) : إن من هذه الاختلافات: (١) ما نتج من فقد جملة صحيحة من النسخة. (٢) ما نتج من مخالفة ترتيب الكلمات. (٣) ما نتج من وضع الكُتَّاب خطأ كلمة عوضًا عن أخرى، إذ لا تختلفان إلا في حرف أواثنين. (٤) ما نتج من إدخال عبارات أوجمل كاملة من (بشارة) أو اثنتين إلى الثالثة لجعل الأناجيل متشابهة. (٥) ما نتج من قصد النساخ أن يجعلوا الاقتباسات من العهد القديم في الجديد مضبوطة. (٦) ما نتج من استبدال بعض جمل بأخرى كانت في الحاشية. (٧) ما نتج من استبدال بعض الألفاظ القديمة بغيرها من الحديثة. (٨) ما نتج من تبديل أوحذف كلمات تحدث تغييرًا طفيفًا في المعنى. (٩) ما نتج من إهمال بعض النساخ في وضع أو ترك أداة التعريف. انتهى باختصار (راجع ص ٥٦ و٥٧ و٥٨ و٥٩) من الكتاب المذكور , وقال في ص ١٠١ و١٠٢ عن قول متى (٢٣: ٣٥) أن زكريا بن برخيا (إن المذكور في كتاب أخبار الأيام الثاني ٢٤: ٢٠ و٢١ أن زكريا بن يهوداع هو الذي قتل , وأما ابن برخيا فلا يعرف أنه قتل , فالأرجح أن ذكر اسم الأب هنا من خطأ الكاتب) اهـ باختصار. فأي برهان يا قوم على تلاعب النصارى بكتبهم أصرَح مما ذكر؟ , وهل بعد ذلك نثق بأي شيء فيها مع أنها مملوءة بخطأ الكُتّاب باعترافهم؟ أضف إلى ذلك أن هذه الكتب ما كانت محفوظة في الصدور , وقل منهم من كان يعرف كل ما فيها وما كانت نسخها كثيرة؛ لجهلهم في الأزمنة القديمة , وما كانت نسخها بأيدي العامة من الناس؛ فلذا كان مجال التحريف والتبديل واسعًا , ولذلك نرى أن غلط النساخ وتحريفهم انتشر فيما بعد في جميع نسخهم , ولولا وجود تلك النسخ القديمة لما عرفوا ذلك. فما يُدرينا أن النسخ التي كانت قبل التي وجدوها وقع فيها مثل هذه التحريفات أيضًا؟ ومن يضمن صحة نسبة هذه الكتب إلى أربابها مع أنه كان لهم كتب مثلها كثيرة , وقالوا: إنها غير قانونية ورفضوها؟ ومن يثبت لنا صدق كَتَبَتها وعصمتهم من الخطأ والغلط؟ كيف وإننا نرى فيها كثيرًا من الغلط كما تقدمت الإشارة إلى بعضه , ويظهر من بعض عبارات كتبهم كمقدمة إنجيل لوقا ١: ١ -٤ أنها لم تكتب بالإلهام بل بالاجتهاد. والخلاصة: أن هذه الأناجيل لا يثق المسلمون بشيء منها الآن، وهم لا يعتدُّون إلا بما قاله المسيح نفسه , وثبت لهم أنه وصل إليهم بدون تحريف ولا تبديل وهيهات أن يثبت ذلك. وكما حرفت النصارى الأناجيل وغيرها كذلك دست على يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير في (التاريخ القديم) كتاب ١٨ فصل ٣ رأس ٣ عبارة مقتضاها (أنه يجوز أن عيسى لم يكن إنسانًا وأنه صلب , وقام من الموت في اليوم الثالث) , وقد جزم المحققون منهم بأن هذه العبارة مدسوسة عليه وأنه لم يكتبها , بل إن يوسيفوس سكت عن سيرة المسيح بأكملها , ولم يشر إليه إشارة تذكر (راجع أيضًا ما قالته دائرة المعارف الإنكليزية في هذا الموضوع) وللعلماء الذين أنكروا صحة عبارة يوسيفوس هذه أدلة كثيرة يطول بنا شرحها في مثل هذا الكتاب , وأهمها أنها لم تكن معروفة لأوريجانوس المتوفى سنة ٢٥٤ بعد الميلاد , وهوالذي كان صارفًا همه كله إلى جمع كل ما جاء في تاريخ يوسيفوس عن المسيح عليه السلام , ومع ذلك لم يذكر هذه العبارة، فإذا كانت موجودة في أيامه في التاريخ المذكور فلمَ تركها وهي من الأهمية بمكان عظيم؟ فترى النصارى كما حرفوا كتب قدمائهم - كما اعترف بذلك لاردنر في تفسيره , وآدم كلارك ويوسى بيس في تاريخه وغيرهم كثيرون - كذلك حرفوا كتب اليهود، فزادوا في تاريخ يوسيفوس ما رأوه يؤيد دعاويهم , ومن ذلك يظهر لنا أن اليهود كانوا في غاية الجهل والضعف والتفرق والذل والبعد عن البحث والقدرة على المعارضة لدرجة جعلت النصارى تلعب بكتبهم كما شاءوا , فلا يبعد أنهم حرفوا أيضًا أشياء في كتبهم المقدسة من غير أن يعرفوها أو يجرؤوا على المعارضة. وإذا كان هذا حالهم باعتراف علمائهم , فهل بعد ذلك نثق بأي شيء نقلوه في دينهم وهم يحرفون فيه ما أرادوا أن يحرفوه، ولو كان موجودًا عند اليهود أيضًا؟ وقد بين هورن في الباب الثامن من المجلد الثاني من تفسيره أسباب اختلافات نسخهم بمثل ما نقلناه هنا عن (كتاب الأدلة السنية على صدق الديانة المسيحية) ومما زاده أنهم كانوا أحيانًا يحرفون قصدًا؛ لأجل تأييد مسألة أو دفع اعتراض وقال: (إنهم كانوا تركوا قصدًا العدد ٤٣ من الإصحاح ٢٢ من إنجيل لوقا) وهو قوله: (وظهر له ملاك من السماء يقويه) لأن بعضهم خشي أن تكون تقوية الملك للمسيح منافية لألوهيته انتهى باختصار [٣] . فإن قيل: إذا كانت كتب اليهود الأخرى المنسوبة لموسى غير سفر التثنية ليست صحيحة , فلماذا لم يوبخ المسيح - عليه السلام - اليهود عليها؟ قلت. (يتلى) ((يتبع بمقال تالٍ))