حمص وحالها الاجتماعي: سافرت في اليوم الثاني من شوال من بعلبك إلى حمص، والمسافة بينهما في القطار الحديدي ثلاث ساعات، وقد وصل القطار إلى محطة حمص الساعة ٨.٤٥ دقيقة مساء، فإذا بالصديق الكريم والولي الحميم السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي ينتظرني فيها مع طائفة من أهل العلم وكرام البلد في مقدمتهم الشيخ أحمد نبهان الذي حببه إلينا على البعد ما نمي إلينا من عقله وحبه للإصلاح مع علمه وحسن سيرته. أقمت في حمص أربع ليال وثلاثة أيام في دار الزهراوي، ولقيت فيها أكثر أهل العلم والمكانة من المسلمين والنصارى، إذ كانت الدارغاصَّة بهم ليلاً ونهارًا، وقد رأيت في هذه البلد من الوفاق بين الفريقين وحسن الألفة، ما لم أر له نظيرًا في سائر البلاد السورية ولا بيروت، فإن جل ما مدحناه من أهل بيروت هو ترك التقاتل والتسافك، ولا يزال كل فريق بعيدًا عن الآخر في المعاشرة والمعاملة إلا ما لا يخلو منه مكان بحكم طبيعة الاجتماع وحاجة بعض الناس إلى بعض، حتى إنني قلت لكثيرين منهم: إنني أرى الوفاق الذي حمدناه لكم على البعد سلبيًّا لا إيجابيًّا، وصرحت بذلك في نادي الجامعة العثمانية، ودعوت الناس في خطبة خطبتها في ذلك إلى التزاور والتعامل وغير ذلك من أعمال الوفاق الإيجابي. وقد كنا توهمنا ونحن بمصر أن الشقاق بين مسلمي حمص ونصاراها شديد؛ لحادثة جرت في الاحتفال بعيد الحرية كبرتها الجرائد، فوجدنا الأمر على ضد ما كتب في ذلك. فإنني ما رأيت في بيت من بيوت طرابلس ولا بيروت مثلما رأيت في بيت الزهراوي من اجتماع الفريقين كل ليلة من ليالي الشتاء للسمر ومبادلة الآراء. ثم إنني لم أر في حمص ما رأيت في غيرها من الاضطراب والاعتصاب والافتيات على الحكام، والتبرم من جمعية الاتحاد والترقي. ومن أسباب ذلك أن أعضاء لجنة الجمعية المركزية كانت مؤلفة من أناس مؤتلفين متعارفين، لا ينقم الناس منهم شيئًا، ولا يشكون منهم إهانة ولا شذوذًا، وقلما اتفق هذا للجنة أخرى كما يعلم مما نكتبه بعد عن الجمعية. نعم إنه ينتقد على أهل حمص ما ينتقد على أهل طرابلس من الخمول والسكون، فهم لم يشرعوا في عمل مفيد للبلاد , وقد حثثت طائفة من الوجهاء على تأليف جمعية خيرية إسلامية؛ لأجل إنشاء المدارس الأهلية، ومساعدة الفقراء على تربية أولادهم وتعليمهم، فألفيت منهم ارتياحًا واستحسانًا، وقد مرت الشهور ولم يشرعوا في العمل. ولكننا لم نيأس من همتهم وغيرتهم، فعسى أن يسمع منهم عن قريب ما تقر به العين. هذا وإن عمران حمص ينمو نموًّا عظيمًا، والزراعة والصناعة تتقدم فيها تقدمًا مبينًا. ولكنها متخلفة عن طرابلس في ترف الحضارة، وإن كانت سابقة لها في مضمار العمران، بل هي وسط من التأنق في الأطعمة بين مثل طرابلس وبيروت ودمشق، وبين القرى الكبيرة التي يوجد فيها أغنياء يعيشون في بلهنية، فالظاهر أن التأنق في حمص خاص ببعض أهل السعة والبيوت المطروقة، وإن الفقير في طرابلس ليتنوق في طعامه ما لا يتنوق الأغنياء في كثير من المدن. وإني لأعلم أن المصري المقيم في القاهرة نفسها الذي يزيد دخله في الشهر على دخل الطرابلسي في السنة، لا يأكل من الحلوى في السنة كلها بقدر ما يأكل الطرابلسي منها في شهر واحد، فقلة التنوق في الأطعمة بحمص محمدة لها عندي إذا كانت تحفظ ثروتها من التلف في غير ذلك من ضروب السرف، وتجعل حظًّا منها عظيمًا للتعليم والتربية. طرابلس أيضًا سافرنا من حمص قبيل الفجر من يوم السبت سادس شوال (٣١اكتوبر) في مركبة من مركبات (شركة الشوسة) فوصلنا إلى طرابلس بعد العصر، وطفقت أتهيأ للسفر إلى مصر، وكنت عازمًا على السفر في يوم السبت التالي لهذا السبت (١٣ شوال و٧ نوفمبر) . ولكن عرض ما حال دون ذلك. جمعية خيرية إسلامية بطرابلس وفي يوم الأربعاء (١٠ شوال) رغبت إلى مفتي طرابلس أن يقوم بتأليف جمعية خيرية إسلامية كالجمعية التي بمصر، وذكرت له موضوعها وأعمالها ووجوه الحاجة إلى مثلها في طرابلس، وأهمها إنشاء المدارس لتعليم أولاد الفقراء على نفقة الجمعية، وأولاد الأغنياء بالأجرة. فأجاب بأنه مستعد لذلك بماله وحاله واستحسن أن أدعو الوجهاء والأغنياء إلى ذلك، فقلت له: أنت كبير البلد وزعيمها وأنا قد صرت غريبًا أو كالغريب؛ لأنني مسافر بعد ثلاث، فإذا لم تقم أنت بهذا العمل لا ينجح. ثم رضي بأن يكون هو الداعي لهم إلى الاجتماع، على أنهم متى اجتمعوا أخطبُ فيهم، فإن أجابوا الدعوة التي أوضِّحُها لهم، أُبَيِّن وجه الحاجة إليها كان هو أول العاملين والمساعدين في التنفيذ. وأقول ههنا: إن رشيد أفندي كرمي مفتي طرابلس على كونه سيد بلده، وأوسع أهلها ثروة وجاهًا؛ هو أقرب وجهائها وأغنيائها إلى الخير، وأبعدهم عن كل شر، وأطيبهم نفسًا، وأبسطهم مع القصد والروية يدًا، كما يظهر ذلك لمن يعاشره، وخلافًا لما عليه أكثر الأغنياء في بلادنا، فهو لا يدع لطالب الإصلاح في العلم أو العمل حجة عليه، بل يجيب كل داعٍ إلى خير كعبد الرحمن باشا اليوسفي في دمشق. ولكن لا يقدم واحد منهم على ابتكار العمل والنهوض به، بل يقولان مثلما كان يقول هنا حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -: أوجدوا العمل وطالبوني بالمساعدة أجبكم إليها. وإنما كان هذا يساعد بالعمل، وذانك يساعدان بالمال فهما خير أغنياء بلادهم. وكان عذر حسن باشا عاصم في عدم الإقدام على الابتكار وإيجاد (المشروعات) : هو عدم الثقة بإجابة الناس وثباتهم على العمل. ولابن اليوسف في دمشق وابن كرامي في طرابلس مع مثل هذا العذر أعذار أخرى؛ ككثرة أعمالهما، وما لا حاجة إلى بيانه الآن من حال البلاد وغير ذلك. ذهبت في ذلك اليوم (الأربعاء) إلى القلمون، فهيأت ثيابي وحاجي وأرسلتها إلى الميناء في يوم الجمعة، وعدت إلى طرابلس مع كثرة الأمطار مساء؛ لأن المفتي كان وعدني بجمع الوجهاء ليلة السبت؛ لأجل تأسيس الجمعية الخيرية، فألفيته قد أرجأ دعوتهم؛ للاشتغال بانتخاب المبعوث عن طرابلس؛ لأن الولاية أمرت بإتمام الانتخاب يوم السبت، ولكثرة الأمطار التي كان يظن أنها تحول دون عودتي من القلمون على قرب المسافة، وقال: إن أقرب وقت يمكن أن يجتمعوا فيه، إذا نحن دعوناهم بعد انتخاب المبعوث غدًا هو ليلة الثلاثاء، فرأيت أن أرجئ السفر أسبوعًا؛ لأجل إتمام هذا العمل الشريف. ملخص خطبته وفي ليلة الثلاثاء اجتمع في دار عمر باشا المحمدي نحو من عشرين رجلاً؛ إجابة لدعوة المفتي، وهم من وجهاء لواء طرابلس لا المدينة نفسها فقط. فخطبت فيهم خطبة بينت فيها فوائد الجمعيات وأنواعها وتأثيرها في ترقية البشر في العلوم والأعمال الدينية والدنيوية، وكون الخيرية منها من الضروريات التي لا يخلو منها بلد من البلاد المرتقية، حتى إن الرجل الإفرنجي إذا مر في سياحته على بلد وأراد أن يبذل شيئًا من ماله لمساعده فقراء أهله، فإنه إنما يرسله إلى الجمعية الخيرية في ذلك البلد، وربما وضع أحدهم حوالة مالية في كتاب وكتب عليه (الجمعية الخيرية) ووضعه في صندوق البريد؛ من غير أن يسأل هل يوجد في هذا البلد جمعية خيرية أم لا؟ كأن الجمعيات الخيرية من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن يخلو بلد منها. وذكرت ذلك المشعوذ الذي جاء القاهرة، وأراد بعد أن ربح بألعابه فيها ربحًا عظيمًا؛ أن يخصص ليلة يجعل دخلها للجمعية الخيرية الإسلامية فيها، فكان ذلك سبب تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية. ثم قلت: أيها السادة، إن حكومتكم قد دخلت في طور جديد، فصارت ديمقراطية أمرها بيد الشعب بعد أن كانت استبدادية شبه الأرستقراطية؛ بما للأغنياء والشرفاء من النفوذ فيها. واعلموا أن كثيرًا من الأحرار الذين انقلبت السلطة الاستبدادية بسعيهم متطرفون في الديمقراطية، وأن معظم الأحكام ستكون في أيديهم عاجلاً أو آجلاً، وأن الشعب سيشعر بهذا، فندب إليه كراهية الكبراء والأغنياء فيكرههم، وتنفخ فيه روح الاشتراكية فيهيج عليهم بالفعل، فإذا جاء طرابلس متصرف متطرف من الديمقراطيين الذين أشرت إليهم، وكان والي الولاية منهم أيضًا، فاعلموا أن ما تعودتموه من الجاه والكرامة في وطنكم لا يبقى لكم؛ إلا إذا كان الشعب يحبكم بتحببكم إليه قبل ذلك، وإلا دهوركم أسقطكم كما فعلت قبله الشعوب الإفرنجية بأولئك النبلاء الذين كانوا يملكون أوروبا؛ ويتصرفون فيها تصرفًا لم تصلوا إلى مثله من كونت ودوق ومركيز، ثم يقوم من طبقات الشعب الدنيا من يتولى الزعامة في البلاد بحق أو بغير حق. وما أظن أن صدوركم تنشرح لتلك الحال، ولا أن أعينكم تبتهج برؤيته. وإنني أحب أن تكونوا أنتم زعماء بلدكم في زمن الحرية وتحت ظل الدستور؛ بأن تتحببوا إلى الشعب مذ اليوم بنشر التربية والتعليم فيه، ومواساة الفقراء والمساكين من أهله. إنني لا أحب الأرستقراطية وإن كنت من بيت شريف، وإنني مازلت من دعاة الديمقراطية بلسان السياسة ولسان الدين، وإنما أميل إلى بقاء زعامة وطني في وجهائه وإياكم أعني؛ لاعتقادي أنه لا يوجد في دهمائه من يصلح للزعامة كما وجد في فرنسا عندما صارت ديمقراطية. الفرق بيننا وبين فرنسا بعيد، إن فرنسا كانت قبل ثورتها المشهورة قد استعدت ما لم نستعد بمثله نحن اليوم، حتى نبغ فيها من دهماء الشعب من يصلحون للزعامة: بعلومهم وأعمالهم وآرائهم وأخلاقهم. إنني لعلمي بهذا الفرق، ولما رأيت في بلاد مصر التي تمتعت بالحرية قبل بلادنا من العبر وهبوط قوم وصعود آخرين، أقول ما أقول عن خبرة وبصيرة وأحب أن نعتبر نحن العثمانيين بحال الأمة الإنكليزية التي هي أعرق الأمم في الحرية وأكثرهن استفادة منها، فهي الأمة التي حافظت على كرامة النبلاء وحرمة البيوتات فيها بعد الديمقراطية الراسخة، واستفادت من ذلك كثيرًا. ورأى أن إسقاط الشعب لكرامة أصحاب البيوتات منا، وتسلق أفراد الطبقات الدنيا للزعامة فينا مع ما هم عليه من الجهل يقف في طريق نهضتنا، وإن عناية وجهائنا بحفظ كرامتهم وحرصهم على أن يكونوا هم زعماء الشعب، يكون أسرع في تقدمه إذا هم أتوا البيوت من أبوابها، فإنهم في الغالب على شيء من الأخلاق والعلم أو الاختبار. ثم قلت: إن خدمة الأمة والتحبب إليها، إنما يكونان بالتعاون على تربية أولادها، وتعليمهم ما به قوام حياتهم، ومواساة المنكوبين والمعوزين من فقرائها، وذلك لا يتيسر إلا بتأليف جمعية خيرية، يجعل معظم ريعها لإنشاء المدارس وباقية لإعانة المنكوبين والمعوزين، وهذا ما أدعوكم إلى الاكتتاب له بلسان فضيلة المفتي الحريص على هذا العمل المبرور، الراغب في هذا السعي المشكور، وسيجمعكم في ليلة أخرى؛ لأجل المذاكرة في القانون الذي يوضع لذلك، وانتخاب الأعضاء العاملين. ثم شرعنا في الاكتتاب، وافتتحه المفتي في ورقة كتبت في أعلاها ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: ٢) . هذا بيان ما تبرع به الذوات المذكورة أسماؤهم بخطوطهم أدناه؛ لتأسيس جمعية خيرية إسلامية في طرابلس الشام؛ لنشر التعليم الديني والدنيوي على الطريقة العصرية؛ ولإعانة المصابين والمنكوبين المعوزين بمقتضى قانون يجري العمل بموجبه بعد إقرار المكتتبين له في اجتماع خاص، وقد جرى هذا في ليلة ١٦ شوال سنة ١٣٢٦ للهجرة الشريفة. أسماء المكتتبين لتأسيس جمعية خيرية إسلامية بطرابلس الشام
ونذكر أسماء المكتتبين مع الألقاب، وهم كتبوها مجردة كما هي العادة، ونرتبها على حسب قيمة الاكتتاب. ليرة عثمانية ١٠٠ مفتي اللواء رشيد أفندي كرامي. ١٠٠ عمر باشا المحمد من أعيان اللواء. ٠٣٠ عثمان باشا المحمد. ٠٢٠ علي باشا المحمد. ٠٢٠ مصطفى أفندي عز الدين من كبار التجار. ٠١٠ عبد القادر باشا الملا رئيس شركة الترام والشوسي. ٠٠٥ إبراهيم بك الأحمد من الأعيان.
ليرة عثمانية ٠٠٥ أحمد أفندي سلطان وكيل الدعاوى (المحامي) . ٠٠٥ خير الدين بك عدره من كبار التجار. ٠٠٥ عبد الحي أفندي الملك من الوجهاء. ٠٠٥ عبد القادر أفندي القباني البيروتي الشهير (وكان في طرابلس) . ٠٠٥ عبد القادر أفندي الذوق من كبار التجار. ٠٠٥ محمد فؤاد أفندي الذوق. ٠٠٥ محمد سعيد بك (مميز قلم متكوبجي الولاية) الذي كان وكيل المتصرف يومئذ. ٠٠٥ محمد كامل بك البحيري صاحب جريدة طرابلس. ٠٠٣ عبد اللطيف أفندي الغلاييني وكيل الدعاوى. ٠٠٣ محمود أفندي الحداد من التجار. ٠٠٢ الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ رئيس كتاب المحكمة الشرعية. ٠٠٢ صبحي بك شريف. ٠٠١ عبد الرحمن أفندي أديب من التجار. ٣٣٦ المجموع وقد وعدني بعض هؤلاء بأن يدفعوا أكثر مما كتبوا، منهم مصطفى أفندي عز الدين، والشيخ إسماعيل أفندي الحافظ، كما وعد بعض من حضر وكتب اسمه ولم يعين مبلغًا كعبد الله أفندي الثمين من كبار الوجهاء أصحاب النفوذ الأدبي في اللواء وعضو مجلس الإدارة الآن. هذا وإن الذين أجابوا الدعوة وحضروا الاجتماع هم زهاء خُمْس من دعاهم المفتي , وقد أَبَى حضورها بعض المفتخرين بالمجد التليد الذين يرون أنهم يستغنون به عن المجد الطريف، ومنهم من صار يسعى بعد ذلك في إبطال العمل ويثبط عنه، وكان لسعيهم هذا تأثير أوقف التنفيذ إلى أجل، ولولا ذلك لما ذكرت من أمر هذه الجمعية إلا أن جماعة من أهل الفضل في طرابلس أسسوا جمعية خيرية إسلامية، فلهم الشكر والثناء. يوجد في كل بلد أفراد مجردون من حب الخير، ويرون أنهم أهل لأن يوصفوا بكل خير، ويؤلمهم منظر الخير في غيرهم؛ لأنه بعمله تحلى بما أعوزهم وأعجزهم، فهم يقعدون بكل طريق من طرق الخير يصدون عنها ويبغونها عوجًا. لأجل هؤلاء أحب مفتي طرابلس أن لا تؤسس الجمعية الخيرية إلا بعد دعوة جميع الوجهاء، حتى لا يعتذر بعد ذلك أعداء الخير بأنهم لا يساعدون هذا العمل؛ لأنهم لم يدعوا إليه عند التأسيس، ونِعْم ما أحب وما رأى. على أن بعض من دُعِي ولم يجب ممن ذكرنا وصفهم، انتدبوا لإحباط العمل والتثبيط عنه، حتى إن منهم من لم يستح من مخاطبة المفتي نفسه بذلك، ولما لم يجد وجهًا وجيهًا للتثبيط قال له: إنه لا ينبغي لسماحتكم أن تقوموا بهذه الجمعية عن دعوة فلان، فأجابه المفتي جواب العاقل الفاضل، فقال أولاً: إن هذا العمل خير لا ريب في نفعه وفائدته، فسواء كان من دعاني إليه دوني أو مثلي أو فوقي لا فرق في ذلك، وثانيًا: أن الداعي إلى ذلك هو واحد منا، ومن أهل العلم والشرف فينا، وليس له منفعة شخصية ولا غرض ذاتي حمله عليه، ولا هو يريد الإقامة في هذه البلاد، فنقول: إنه ينفرد بشرف العمل فيه حبًّا بالشهرة ... إلخ. إنني لما علمت بمثل هذا القول الذي قيل للمفتي ولغيره، كففت عن السعي فيما كنت آخذًا فيه من تأليف لجنة مؤقتة؛ لإدارة العمل والدعوة إليه إلى أن يشترك في الجمعية عدد كثير تتألف منه الجمعية العمومية التي تنظر في القانون؛ وتنتخب من أفرادها أعضاء الإدارة. وكنت أسعى إلى من أظن فيهم الخير في بيوتهم ومحال عملهم. وإنما كففت لأرى ماذا يصنع المعذرون أو المثبطون، هل يتفقون مع المفتي وينهضون لعمل أم يرتاحون إلى السكوت عنه؛ لأنه هو المقصود لهم بالذات؟ فتبين بعد ذلك أنهم لا يريدون إلا إحباط العمل؛ لأنهم لا يعلمون الخير، ولا يحبون أن يعمله غيرهم. وقد كتبت في مذكرتي في أوائل شهر ذي القعدة ما نصه: ذكر لي غير واحد من الوجهاء أن نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية بطرابلس لا يرجى، وأن الذين اكتتبوا إنما استحيوا مني، وهم لا يعتقدون أنهم يدفعون شيئًا، بل قالوا: إن المفتي نفسه يسايرني مسايرة بأن سيبذل جهده؛ وهو يعتقد أن التقصير سيظهر من غيره. وألح عليَّ (فلان) بأن أترك التشبث بالجمعية. وظهر لي أنه يرى أن ذلك ينفر القوم مني؛ من حيث لا أستفيد مما أريد شيئًا ... إلخ ما كتبته في شأن أفراد معينين، من قائل ومقول فيه. أكتب هذا ليعلم أصحاب النية الصالحة في طرابلس كالمفتي وغيره السبب في اكتفائي بعد ذلك بانتقاء نفر ممن يرجى نجدتهم لإدارة الجمعية موقتًا، وإيذان المفتي بذلك في يوم الأربعاء ٢٣ ذي القعدة (١٦ ديسمبر. ك١) بعد دعوة كل واحد منهم على حدته ووعده لي ببذل الجهد في ذلك إلا واحدًا منهم (وهو محمود أفندي الملا) ، قال: إنه لا يدخل في العمل إلا بعد أن يشرعوا فيه بالفعل. وإن لي رجاء قويًّا في همة المفتي وغيرته وهمة أولئك الأنجاد؛ بأن ينهضوا بهذه الجمعية نهضة صالحة بعد هدوء الاضطراب الذي أحدثه ضعف الحكومة الجديدة والاستواء على حال ثابتة. وإنني أساعدهم بالقلم من هنا، وأكون عونًا لهم على اليائسين الذين لم أكتب ما كتبت الآن؛ إلا ليعلموا أن كيدهم في تضليل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) . حقوقنا المهضومة ونائب طرابلس الشرعي: لقد علم القاصي والداني من عثماني وغير عثماني؛ أن حكومة الاستبداد الماضية، قد أسرفت في الجور على بيتنا وظلم أهلينا؛ انتقامًا مني (راجع فاتحة السنة الثانية عشرة في الجزء الماضي) ، وكان من ذلك الظلم أنه لما توفي والدنا تغمده الله برحمته، صرت أنا المستحق بعده للتولي على جامع القلمون الذي جدده فيها جدنا الثالث؛ بحسب نظام التوجيهات الناطق وفاقًا للشرع بأن يوجه ما ينحل عن الوالد من الوظائف المتعلقة بالأوقاف إلى أكبر أولاده. ولكن حكومة الرشوة والاستبداد وجهت تولية مسجدنا على رجل آخر اسمه عثمان النصري، واشتهر أنه أعطى القاضي (نوري أفندي) على ذلك أربعين ليرة، ثم أعطاه رجل آخر اسمه الشيخ محمود حسن - على ما شاع وذاع - سبعين أو ثمانين ليرة، فعزل عثمان النصري بعد دعوى ملفقة، ووجه التولية على محمود حسن. فلما أردت السفر من طرابلس إلى مصر، قدمت دعوى إلى المحكمة الشرعية ملخصها؛ أن تولية محمود حسن على جامع القلمون غير صحيحة، وإنني أنا صاحب الحق في هذه التولية، فأطلب توجيهها عليَّ عملاً بالنظام، وإذا فرضنا أن توليته صحيحة، فإنني أثبت خيانته بترك معاهد الوقف عرضة للخراب وترك عمارة ما خرب منها في زمن توليته، والزيادة في النفقات والنقص من الريع. ووكلت عني وكيلين شرعيين ثم تهيأت للسفر، فحدث ما ذكر آنفًا من التشبث بتأسيس جمعية خيرية، ثم جاء نبأ برقي بأن نيابة طرابلس (أي قضاءها الشرعي) وجهت إلى عبد المجيد أفندي الجعفري وأنه سيسافر من الآستانة قاصدًا طرابلس، ثم لم يلبث أن حضر. عرضت الدعوى على هذا النائب فقال لي: إنني أقول لك وإن كان لا ينبغي للقاضي أن يصرح برأيه قبل الحكم: إن حقك ظاهر، وإنني سأعيده لك بعد استيفاء المعاملة الشرعية ولما كنت على ثقة من ظهور هذا الحق، اعتقدت أن الدعوى تنتهي في أسبوع أو أسبوعين، فأجلت السفر وتابعت سير الدعوى بنفسي، وأنا أظن في كل أسبوع أنني أفرغ فيه من الدعوى، وأسافر في الذي بعده، وكنت عازمًا على الإقامة في سورية خمسة أسابيع فقط؛ لكثرة شغلي في مصر، فأقمت ستة أشهر والدعوى على حالها، يزيدها النائب كل يوم تعقيدًا. إنني لم أكد أجالس هذا القاضي مرتين أو ثلاثًا؛ إلا وقد جزمت بأنه سيهان في طرابلس إهانة لم يسبق لها نظير، فكنت حريصًا على إنجاز قضيتي قبل ظهور حقيقة حاله التي تقتضي ما توقعته بالفراسة، وكاشفت به غير واحد. ولكن هذا القاضي لا ينجز عملاً لمن يعتمد مثلي في نيل حقه على أنه محق وقادر على إثبات حقه. أنشأ هذا القاضي يؤجل جلسات الدعوى، ويحث وكيلي الخصمين على كتابة ما شاءا في جريدتها، ويماطل في قراءة ما كتبنا، وقد ثبت لديه أن تولية المدعى عليه غير صحيحة، وأنه خائن تارك للعمارة الواجبة شرعًا، كما تبين بالكشف من قبل المحكمة وشهادة الشهود، ومع هذا لم يحكم بشيء حتى آن الأوان وضج الألوف من الناس بالشكوى منه، واجتمعوا عند المحكمة وهم ألوف ينادون فليسقط القاضي الخائن المرتكب، وشكوا أمره للمشيخة الإسلامية فأمرت بالتحقيق وهم يشكون منه أمورًا كثيرة ذكرت في جريدة لسان الحال وغيرها، منها التطويل في المرافعات وعدم الحكم فيها بعد انتهائها كما حدث معنا، حتى امتنع الوكلاء (المحامون) عن المجيء إلى المحكمة، ومنها أنه قد يحكم ثم يرجع بحكمه بعد كتابته، ومنها كراهته للحكومة الدستورية، واعتزازه بكونه من جمعية (فدا كاران ملت) ، وقد علمنا بعد ذلك أنه كان نائبًا في صيدا فأحدث فيها فتنة حتي هرب منها ليلاً، وإن ذلك شأنه في كل بلد كان فيها حاكمًا. لها بقية