للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبده


اللائحة الثالثة
من لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية
للأستاذ الإمام

يظهر أنه كتبها؛ لأجل إقناع أولي الأمر في مصر بالعناية بالتربية الدينية بعد
عودته من سوريا، وعفو الأمير عنه، وقد وجدت مسودتها بخطه بالعنوان الذي
تراها مفتتحه به. وجامع الكتاب وضع سائر العنوانات قال- رحمه الله تعالى-:
هذا مجمل أفكار فيما يجب الالتفات إليه من نظام التربية بمصر
(ويمكن تفصيله عند إرادة العمل به)
إذا كان الناس في حاجة إلى صلاح الحاكم؛ فما حاجة الحاكم إلى صلاحهم؛
بأخف من حاجتهم إلى صلاحه، فإن السلطة سلطتان: جيدة ورديئة، فالجيدة ما
كانت على المحكومون للمحكومين. والرديئة ما أخذ بها المحكومون لغاية الحاكم،
وقضاء غرضه الثابت.
أما الأولى: فإن منزلتها من المحكومين منزلة الروح من الجسد، لها التدبير
وعلى أعضاء الجسد وظائف العمل، وغاية التدبير والعمل حفظ حياة الكائن الحي،
وهو مجموع الروح والبدن، فكل يستفيد من الآخر ما به بقاؤه ونماؤه.
وكما تحتاج الآلات البدنية إلى سلامة الروح من العلل النفسية: كالجنون
والخمود والجهل ونحو ذلك، تحتاج الروح إلى سلامة الآلات البدنية من الآفات؛
التي تعطلها عن الحركة: كالشلل والخدر والتشنج وما شابه ذلك، وماذا يمكن
للروح السليمة أن تأتيه في بدن؛ تعطلت آلاته وفسدت أعضاؤه.
وأما السلطة الثانية: فمنزلتها منهم منزلة الصانع من آلته، فصاحب السلطة
صانع والمحكوم آلته في الصنع، فهو كاتب مثلاً والمحكومون قلمه، أو هو حارث
والمحكوم محراثه، وكما أن الآلة لا تعمل إلا بالعامل، ولا يظهر أثرها إلا في يده
كذلك العالم لا يمكن له العمل إلا بآلته. وكما يجب أن تكون اليد العاملة قادرة على
إدارة الآلة، يجب أن تكون الآلة وأجزاؤها صالحة للعمل، فإن فقد أحد الأمرين
امتنع العمل أو نقصت ثمرته، فكل من السلطتين في حاجة إلى صلاح المحكوم،
فكما يطلب المحكوم في كل حال؛ أن يكون حاكمه صالحًا لأن يحكمه، كذلك يطلب
صاحب السلطة في أي منزلة كان؛ أن يكون المحكوم بحيث ينقاد إلى كل ما يحكم
به، وعلى الصفات التي تنساق به إلى الغاية التي يذهب إليها حاكمه.
أما ما رسخ في خيال بعض الشرقيين، ومن اغتر بحالهم ممن خالطهم من
الأوروبيين، من أن صاحب السلطة قوته علوية، والمحكوم طبيعته سفلية، ولا
نسبة بينهما إلا أن الأول قاهر والثاني مقهور، وأن الثاني في حاجة إلى صلاح
الأول؛ ليكون به رؤوفًا رحيما، وأن الأول لا حاجة به إلى صلاح الثاني؛ لأنه
مقهور له على كل حال، فذلك منشؤه الغرور والجهل بطبيعة الجمعيات الإنسانية
ونظامها القطري. ولذلك نرى أرباب هذا الاعتقاد من ذوي السلطة، لا تدوم له
دولة، ولا يثبت لهم سلطان؛ لتخبطهم في سيرهم بجهلهم منزلتهم من محكوميهم،
وتصرفهم فيهم على خلاف ما يجب أن يصرفوهم فيه، وتغافلهم عن استطلاع
طباعهم بما يؤهلهم للعمل على ما يريدون منهم.
يقال: إن الرعية في كثير من البلاد آلة للحاكم في بلوغ مقاصده في دولته،
فقد يكون ذلك حقًّا لكنها آلة ذات شعور وإرادة، وما له شعور وإرادة فجميع أعماله
إنما تكون عن شعوره وإرادته، فتصلح الأعمال بصلاح الشعور والإرادة، وتفسد
بفسادهما، فلا يمكن أن تكون تلك الآلة صالحة للعمل، إلا إذا كان الشعور والإرادة
صالحين له، وصلاحهما بأن يكون الشعور وجدانًا للفرق بين النافع والضار،
وبين النظام والاختلال؛ ليكون ما يقرره الحاكم من القوانين وأصول الإدارة معروفًا
عند أغلب الرعية، وأن تكون الإرادة صادرة عن هذا الوجدان، حتى يكون النظام
منها في مكانة الاحترام.
فإذا كان الشعور مختلاًّ والإرادة فاسدة، كانت الأحلام طائشة، والأهواء
متحكمة، ومداخل السوء كثيرة، فويل لذي السلطة من تلك الرعية وبعيد عليه أن
يستقر لسلطانه فيها قرار، وكل ما يتخيله إصلاحًا لهم أو له فيودعه في أصول
حكومته، فهو كالنقش على الماء، أو الرسم في الهواء.

طبيعة مصر والمصريين
أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها، فمساحة الصالح منها للسكنى لا تزيد عن
حاجة الساكنين زيادة بينة، وهي محاطة من أطرافها بالصحاري الجدبة والمياه
المالحة، وليس فيها من الغابات ما يعوذ به الوحشي من الحيوان؛ فضلاً عن
الإنسان؛ ولذلك نرى كثيرًا من أنواع الوحوش؛ التي كُنا نراها كثيرة في البلاد من
نحو أربعين سنة: كالضباع والذئاب والخنازير، قد كادت تنقرض بإصلاح
الأراضي الزراعية؛ وانتشار الإنسان في أطرافها وتعهدها بالزرع والعمارة، وأهل
مصر لا يعرفون معنى المهاجرة من دار إلى دار، ولا يمكن أن يتصوروا ذلك ما دام
في أرضهم نبات ينبت، فإذا أمحلت أرضهم فضلوا الموت فيها على المهاجرة
منها، وتاريخ الماضي وشاهد الحال ينطقان بذلك.
ولذلك كان أهل مصر سكان أرضهم من آلاف من السنين، وكل قادم إليهم
امتزج بهم، وغلبت عليه عوائدهم وأطوارهم، وانتسب نسبتهم فصار مصريًّا،
وأحرز جميع خواص المصريين، ونسي أصله وغاب عن أعقابه منشؤه، ثم إن
طباعهم مرنت على الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر، فلو أن سيف المتغلب كان
أعدى من سيف المماليك، وجوره أشد من جور إسماعيل باشا، لما أمكنه أن ينقص
من عددهم مقدارًا يذكر، ولا أن يزيلهم عن مواقفهم مسافة تعتبر؛ ولهذا كان المتغلبون
يفنون فيهم وهم باقون.
أهل مصر قوم سريعو التقليد، أذكياء الأذهان، أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل
الفطرة، فما أيسر أن تفعل الحوادث فيهم؛ فتنبههم إلى الأخذ بما يحفظ عليهم حياتهم
في ديارهم من أي الوجوه، فلا يبيدون من حاجة، فأهل مصر على ذلك هم رعية
حاكمهم، ولا يمكن لحاكمهم أن يستبدل بهم رعية أخرى في بلادهم.
فحاكمهم إذا كان رأسًا فهم بدنه، وإذا كان عاملاً فهم آلته، فلا بد من
استصلاحهم، حتى يستقر سلطانه عليهم زمنًا مديدًا، ترمي إليه أنظار الدول السامية
المقام في المدنية.
أهل مصر في موقع عرف كل الناس منزلته في الأرض، وهو ممر أهل
المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى المشرق، وهو في حلق أوروبا تتلاقى فيه
سيارة الأمم، فقلما توجد بلاد يكثر فيها اختلاط الأمم مثل هذه البلاد.
الأمم العظيمة الأوروبية يحسد بعضها بعضا؛ على التمكن في أرض مصر أو
الفوز بإحراز المنافع السياسية أو المالية فيها، فالوساوس والدسائس لا تنقطع نفثاتها
من أولئك الأحزاب، يبثونها بين المصريين؛ ليوغروا صدورهم على من علت
كلمته فيهم. وأعظم فاعل في نفوسهم (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب
هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه وانتهاز الفرص؛ لكشف
سلطانه متى أمكنت.
أهل مصر شديدو الانفعال بما يلقى إليهم؛ كثيرو التذكار لما ينطبق على
أهوائهم، فلكل كلمة من هذا القبيل مكان من نفوسهم، ولكن ربما لا يظهر أثر ذلك؛
لاحتجابه بحجاب العجز أحيانًا، غير أن طباع المصريين كالكرة المرنة تتأثر
بالضغط، فينخفض بعض سطحها قليلاً من الزمن، ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله،
فالله يعلم متى يظهر أثر تلك الانفعالات؛ التي يمكن أن تتأثر بها نفوسهم بما يُلقى
إليهم.
يقال: إن أهل مصر ضعفاء، ولكن قد أظهر التاريخ أنه متى وُجِدَ القائد؛
كانوا أشد على الخصم من أشجع الأمم؛ وأثبتهم قدمًا في المواطن، ولا يعلم متى
يوجد القائد، ومن أي جنس يكون، إذا تركت أهواؤهم بغير تهذيب تجري، حيث
تجد سبيلاً للاندفاع، ثم لا يقدرون النظام قدره، مهما كان بالغًا من الصلاح؛ ولا
يبالون به، بل يعتقدون أن كل نظام حبر على ورق، فلا يستطيع حاكمهم أن يثبت
سلطته عليهم على أمر مكين، بل هم دائمًا في التواء عليه بالمخالفة، متى أمكنت
الفرصة، إلا إذا أخذوا بتربية صحيحة، فهناك تنضبط أحوالهم، وينشئ النظام
احترامه في قلوبهم، ويهتدي صاحب السلطة إلى طرق تصريفهم.
احتقار أمر النظام والتأثر بالوساوس؛ إذا لم يكن مبعثهما الحق، ينشآن عند
المصريين من أمرين: الأول: بُعد جمهورهم عن المعرفة بوجوه المصالح. والثاني:
حرمانهم من التربية التي تطبع في نفوس أغلبهم الاستقامة والتؤدة والتبصر في
العواقب، ومرجع الأمرين إلى سوء العقيدة، وظن ما ليس بواجب واجبًا، وظن
الواجب غير واجب، فما دامت هذه حالهم فهم رعية غير صالحة، فلا يصلحون
بدنًا لرأس ولا آلة لعامل؛ لاختلال المدارك وفساد الإرادات.
أهل مصر لم يأتهم التاريخ القديم بذي سلطة يَفْهَمُ هذا السر، وتَنْفَذ بصيرته
إلى هذه الحقيقة، فلذا لم تثبت فيهم دولة لقبيل زمنًا يُعْتد به، وكل إصلاح نظامي
نشأ فيهم كان كالبناء على الهواء، فالسلطة التي تسعى في أن تجعلهم رعية
صالحة، تكون قد فتحت في نفوسهم فتحًا جديدًا، وظفرت ببغيتها منهم ظفرًا
مبينًا، وأمنت كل غائلة تخشى من دسائس الأعداء ووساوسهم.
أهل مصر قوم أذكياء كما قلنا، يغلب عليهم لين الطباع؛ واشتداد القابلية
للتأثر، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا
كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها وإلا ماتت
البذرة بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما
العيب على الباذر.
أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين، حتى صار طبعًا فيها، فكل من
طلب إصلاحها من غير طريق الدين، فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه
فيها، فلا ينبت ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك؛ ما شوهد من
أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم
يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل: إن لهم شيئًا من المعلومات، فما لم تكن معارفهم
العامة وآدابهم مَبْنِيَّة على أصول دينهم، فلا أثر لها في نفوسهم.
ولا أتكلم عن إصلاح لدين غير الإسلام في مصر، فإن غير المسلمين فيها
العدد القليل، والجمهور الأغلب من المسلمين.
الدين الإسلامي الحقيقي ليس عدو الأُلفة، ولا حرب المحبة، ولا يحرم
المسلمين من الانتفاع بعمل من يشاركهم في المصلحة، وإن اختلف عنهم في الدين
وفي آدابه كفاية لتعريف الآخذ به بوجوه المصالح، وإرشاده إلى مظان الفوائد
والبصر بالعواقب، وتقويمه بفضائل الأخلاق، وبالجملة فهو أفضل كافل لجعل
الرعية صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل. وقد أرشدتنا التجربة إلى أن
كل عارف بحقيقة الدين الإسلامي، كان أوسع نظرًا في الأمور، وأطهر قلبًا من
التعصب الجاهلي، وأقرب إلى الألفة مع أبناء الملل المختلفة، وأسبق الناس إلى
ترقية المعاملة بين البشر، وإنما يبعد المسلم عن غيره جهله بحقيقة دينه، وهذه
آيات القرآن شاهدة على ما نقوله، اللهم لمن يفهمها كما جاءت، ويعرف معناها كما
وردت.
إن القرآن وهو منبع الدين، يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب، حتى يظن
المتأمل فيه أنهم منهم، لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة، ولكن عرض
على الدين زوائد؛ أدخلها عليه أعداؤه اللابسون ثياب أحبائه، فأفسدوا قلوب أهاليه
ولا قلوب أقرب إلى الإصلاح من قلوب أهل مصر.
أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا
يأخذهم بدينهم، فحرموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم،
تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه
ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية،
ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهديهم لما يجعلهم رعية صالحة،
وهم الآن على غاية الاستعداد لقبول ما يصلحهم.
من يتوجه من ذوي السلطان إلى ذلك، لا يجد أقل مقاومة من العامة ولا أغلب
الخاصة، وفي مصر فرصة لا توجد في غيرها لمن أراد ذلك، فإن بلادًا غير مصر؛
يوقف فيها مثل هذا الأمر على همة أهل الدين وسلامة أفكارهم، ونشاطهم لفتح
المدارس الدينية على الطرق المناسبة لحالة البلاد. أما مصر فلها مدارس أميرية؛
يمكن أن يسلك فيها أي مسلك يُخْتار للتربية، وليس عليها رقيب سوى أهل السلطة
السياسية لا غير، فلهم أن يأخذوا من الدين أصوله، ويغرسوها في المدارس،
ويحملوا نفوس طلاب العلم عليها، ولا يتعرضون لما زاد عنها لا بالنفي ولا
بالإثبات، ويندبون لتدريس ذلك ذوي قدرة على صرف الأذهان عما وقر فيها،
وتطهيرها مما علق بها من الزوائد الضارة، ولا يجدون معارضًا لهم من أهل الدين؛
لأنهم لا يهتمون بما لا يقع تحت نظرهم مباشرة، وما دامت الأصول محفوظة،
فأنظارهم عن غيرها منصرفة، وأكبر دليل على ما نقول، سكوت أهل الدين عن
نوع التربية المعروف في المدارس؛ على ما فيه من مباينة الدين، والانتهاء إلى
خلعه بالمرة.

المدارس الأميرية
المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية؛ ولا التربية
الصحيحة. هذه المدارس أنشأها محمد علي باشا بإشارة بعض الفرنسويين؛ لتعليم
بعض أولاد الأرناؤوط والأتراك والمورلية؛ ليكون منهم رجال عندهم إلمام ببعض
الفنون المحتاج إليها في نظام الحكومة التي أسسها، وأهم تلك الفنون: الهندسة
والطب والترجمة، أماغيرها من العلوم فما كان إلا وسيلة إليها، ثم لم يشترط في
العلم بها أن يكون تامًّا. أما التربية على أخلاق سليمة، فلم تخطر له ولا لمن تولى
إدارة هذه المدارس على بال، ثم لما لم يكن في أبناء تلك الأجناس وفاء لمطلبه في
الوظائف، أدخل في تلك المدارس بعض المصرين جبرًا، وما كان يدخل مجبورًا
إلا الذين لا قوة لهم من الفقراء، وكان دخول المدارس أشبه بدخول العسكرية في
ثقله على المصرين.
ثم جاء خلف محمد علي من عباس وسعيد فأهملوا النظر في المدارس بالمرة،
حتى جاء إسماعيل فوسع نطاقها، وزاد فيها من المعارف ما له دخل في الإدارة
والقضاء، وله تعلق بتثقيف العقول في ظاهر الأمر. غير أن جميع ما أتاه من ذلك
كان صوريًّا، ليقال: إن له في حكومته مثل ما لأوربا في حكوماتها، ولم يكن القصد
منه تربية العقول، ولا تهذيب النفوس، ولا تحصيل رجال يصلحون لتولي أعمال
الحكومة.
وفي زمن إسماعيل باشا كثرت رغبة الناس في المدارس، ولكن من الأعيان
الذين يطلبون لأولادهم مساند في الحكومة، يحتاج في الوصول إليها إلى بعض
الفنون، ومن الفقراء الذين لا يجدون ما يقتات به أبناؤهم؛ فيرسلونهم إلى المدارس؛
ليستريحوا من نفقتهم. ولم يكن القصد من جميع تلك الأحوال إلا أن يتعلم التلميذ
ما يؤهله للقيام بعمل ما من أعمال الحكومة، أو بعبارة أخرى: ليكون في يده شهادة
تبيح له أن يشغل كرسيًّا من كراسي أقلام الدواوين. أما تكوينه بالتعليم والتربية
رجلاً صالحًا في نفسه، يحسن القيام بالعمل الذي يفوض إليه في الحكومة أو في
غيره، فذلك لم يخالط عقول المعلمين، ولا من ولاهم أمر التعليم، فسرى ذلك من
السابقين إلى اللاحقين حتى اليوم.
ولو كشفنا عن أذهان التلامذة، لم نجد فيها غاية لتعلمهم سوى أن يعيشوا كما
عاش غيرهم على أي صفات كانوا، ولو استفرغنا أذهان المعلمين، لم نجد فيها
من المقاصد سوى أنهم يلقون ما يجدونه في الكتب المقررة للتلامذة، ويطالبونهم
بحفظه، وفهم عبارته إن كان ليعيدوا يوم الامتحان تلاوة ما ألقي إليهم حتى تتم
مدتهم في المدرسة، ولا يسألونهم مرة واحدة عن مجال أفكارهم، هل هو في صالح
أو فاسد؟ ولا مطامح أنظارهم، هل إلى نافع أو ضار؟ وذلك رسم يؤديه
المعلمون؛ ليأخذوا مرتباتهم الشهرية لا غير. ولهذا لا يكون تلامذتها في آخر الأمر
إلا صناعًا، أو ناطقين ببعض الألسنة، ولا ثقة في الأغلب بشيء من عقولهم ولا
أخلاقهم، إلا من كانت له فطرة سليمة، وله موهبة طبيعية، فأولئك تؤدبهم الأيام،
وتهذبهم التجارب، وعلى مثل ذلك كانت مكاتب الأوقاف، ولا تزال. فإن استمر
السير على الطريقة المعروفة الآن، كانت النتيجة دائمًا كما بيناه، فلا يؤول ذلك
بالمصرين إلى أن يكونوا رَعِيَّة صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لصانع.
المدارس الأجنبية
وأما المدارس الأجنبية على تنوعها؛ فاختلاف المذاهب بين المعلمين
والمتعلمين في الأغلب، يضعف أثر تلك المدارس من التربية العمومية، فقليل من
المصرين من يرغب في تعليم أولاده فيها، ومن أرسل بولده إليها داوم نصيحته بعدم
الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها؛ حفظًا لاعتقاده، ثم ذلك يحدث من الاضطراب
في طبيعة الفكر، والتزلزل في الأخلاق، ما يكون ضره أكثر من نفعه. وقد غلط
من زعم: أن لتلك المدارس الأجنبية أثرًا سياسيًّا أو أدبيًّا في مصر بل قد أحدثت
بعض النفرة في قلوب المسلمين من رؤساء تلك المدارس وأممهم، ولذلك تاريخ
في البلاد معروف فهي ضارة بالألفة، مبعدة للمحبة، رغمًا عما يزعمه أربابها مما
يخالف ذلك، فلا يصح الاكتفاء بها في التربية عن المدارس الأهلية على اختلافها.
الجامع الأزهر
الجامع الأزهر مدرسة دينية عامة، يأتي إليها الناس: إما رغبة في تعليم
علوم الدين؛ رجاء ثواب الآخرة. وإما طمعًا في بعض الامتيازات لطلاب العلم فيه.
ولا يزال بعضها إلي اليوم، ولكن مما يؤسف عليه: أنه لا نظام لها في دروسها،
ولا يسأل فيها التلميذ أيام الطلب عن شيء من أعماله، ولا يبالي أستاذه حضر عنده
في الدرس أم غاب، فَهِم أم لم يفهم، صلحت أخلاقه أم فسدت، ويمر عليه الزمان
الطويل، لا يسمع فيه نصيحة من أستاذه؛ تعود عليه بالإصلاح في دنياه أو دينه،
وإنما يسمع منه ما يملأ القلب بغضا؛ لكل من لم يكن على شاكلته في الاعتقاد حتى
من بني ملته، ويطبق علي الذهن غفلته، ويستفزه الطيش لتصديق كل ما يسمع؛
إذا كان موافقًا لمبدأ التعصب الجاهلي، فأغلب الأوقات تمر على أهل الجد منهم في
فهم مباحثات لبعض المتأخرين لا فائدة فيها، ولا يتعلمون من الدين إلا بعض
المسائل الفقهية، وطرفًا من العقائد على نهج يبعد عن حقيقته أكثر مما يقرب منها.
وجل معلوماتهم تلك الزوائد التي عرضت على الدين، ويخشى ضررها، ولا
يرجى نفعها، ثم إن المعروفين بالعلماء؛ وهم الذين يتممون دروسهم في هذه
المدرسة، ويؤذن لهم بالتدريس فيها؛ هم قدوة الناس وأئمتهم مع أنهم أقرب للتأثر
بالأوهام، والانقياد إلى الوساوس من العامة، وأسرع إلى مشايعتها منهم؛ وذلك بما
ينشؤون عليه من التعليم الرديء، والتربية المختلفة التي لا ترجع إلى أصل صحيح
فبقاؤهم فيما هم عليه اليوم، مما يؤخر الرعية عن تقدير السلطة الصالحة قدرها.
إصلاح مدرسة الأزهر لابد أن يكون بالتدريج؛ في تغير نظام الدروس
وجعلها في الابتداء تحت قواعد ساذجة قريبة من الحالة الحاضرة فيها، بحيث
يقرر فيها أن كل من أدرج اسمه في جدول الطلبة، يلزم بالحضور في الدروس وإلا
حرم الامتياز. وكل أستاذ يسأل عن طلبته، ثم يجعل ما ينالونه من المنافع الطفيفة
منوطًا بالفهم لا بالكتب، وتغيير بروغرام الدروس، ويزاد عليه أصناف من الكتب،
بحيث يدخل فيه تدريس الآداب الدينية المفقود الآن بالكلية، ويكلف الأستاذ بتعهد
أخلاق تلميذه؛ لتكون منطبقة على تلك الآداب بقدر الإمكان، ويجعل شيخ الجامع
رقيبًا على الأساتذة والتلامذة في ذلك، ثم يعدل نظام الامتحان النهائي وشروطه،
وكل ذلك يكون على طرق بسيطة، لا تستلفت الأذهان إلى شيء خلاف المصلحة،
وتفصيلها يكون في لائحة مخصوصة.
ولا بأس أن يجعل نظام هذه المدرسة مرتبطا بالمعارف العمومية أو بإدارة
الأوقاف على قواعد تفصل في اللائحة المختصة به، وقد يظن بعض من لم يتفكر
في حالة البلاد ومرتبتها الأدبية والدينية، أن إصلاح الأزهر لا يمكن؛ لأنه يترتب
على مجرد الشروع فيه تشويش أذهان العلماء والعامة على أثرهم، فهذا ظن فاسد
لا يؤيده دليل، ولم تقض به تجربة، إلا ما كان من بعض الرؤساء من مدة نحو
عشرين سنة، عند ما أراد إدخال بعض العلوم الصناعية فيه، فقاومه بعض من
كان موجودًا من العلماء، فيئس من الإصلاح وترك الأمر إلى اليوم، فقد كان ذلك
قبل أن تتقلب الحوادث على مصر، ولم يكن بالتدريج اللائق، أما الآن فقد تغيرت
الأحوال، وأصبح الإصلاح فيه أهون منه في جميع المصالح، وكل رئيس للنظار
يمكنه أن يأتي هذا الإصلاح بمجرد التوجه إليه، وما يعجز عنه من ذلك، فصاحب
هذا الفكر هو الكفيل بتنفيذه، إذا فوض ذلك إليه، على أن العناء في ذلك لا يطول،
إذا صلحت المدارس الأميرية، فإن الناس لا يختارون الأزهر؛ إلا لسوء ظنهم
بالمدارس، أو لاعتقادهم أن الأزهر أحفظ للدين منها، فإذا حصل الإصلاح فيها،
وجدوها أدنى إلى المنفعة منه، فعند ذلك تنفرد بكونها معاهد التعليم ويصبح الناس
كلهم في طريق واحدة.
الكتاتيب الأهلية
المدارس الأميرية يتعلق النظر فيها بنظارة المعارف، ولا يتم لها إحسان
النظر من وجه التربية؛ إلا بتوجيه العناية أولاً إلى الكتاتيب الصغيرة المنتشرة في
القرى والمدن؛ فإنها هي المغذية للمكاتب المنتظمة التابعة للمعارف وللمدارس
الأميرية وللأزهر، فإن كان الغذاء فاسدًا كان المزاج المتغذي أشد فسادًا. وقد
خطر ببال أحد نظار المعارف أن ينظر فيها، ولكن من الوجه التعليمي وإصلاح
الأمكنة، بحيث تكون أوفق للصحة، لا من الوجه التهذيبي، والثاني هو أهم
مطلوب دون الأول، فإنما ينظر إليه من حيث هو وسيلة للثاني. فالمعلمون في تلك
الكتاتيب يسمون الفقهاء وهم لا يعرفون شيئًا سوى حفظ القرآن لفظًا بغير معنى.
وإذا كان في أذهانهم شيء باسم الدين؛ فما هو إلا الزائد الضار دون الأصل النافع،
وقد عُرفوا بأنهم أفسد حالاً من العامة. على أن الكتاتيب يرد عليها أبناء الأهالي
جميعا إلا القليل، ثم يرجع الغالب إلى ما كان عليه آباؤهم، فهي منابت للعامة،
ولكنها لا تنبت الآن إلا جهلاً.
ولا يمكن إصلاح تلك الكتاتيب إلا بإصلاحهم (أي: الفقهاء) ، وإصلاحهم مرة
واحدة أو إبدالهم بخير منهم متعسر، ولكن إذا وجهت العناية إليهم أمكن إصلاحهم،
وإصلاح طرق تعليمهم بالتدريج في بضع سنين، ثم إن ذلك الإصلاح يستدعي عملاً
يتعلق بعضه بالمعارف وبعضه بالأوقاف، من حيث إن أولئك المعلمين خطباء
المساجد في الأغلب، فلا بد أن ينظر في انتخابهم من المستعدين للفهم، وقبول
الإصلاح بقدر الإمكان، وهو يقتضي سعيًا حثيثًا، وتدقيقًا شديدًا وسيرًا في أرض
مصر أجمعها، ونظرًا في كل قرية من قراها، وهو ليس بعسير على الشخص
الواحد؛ فضلاً عن أشخاص كثيرين، متى وجهت العناية بذلك.
ثم يلزم لذلك تقرير بعض المعلومات التي لا يستغني عنها مصري، مما يزاد
على تعليمه القرآن في تلك الكتاتيب، حتى إذا خرج التلميذ من الكُتَّاب كان
شاعرًا بأنه في أي جمعية محكومة بأي طريقة فإذا دخل المدرسة أو الأزهر كان
نماء معلوماته على ذلك الأساس، وذلك يستدعي تقرير بعض الكتب الصغيرة،
وتعيين ما يدرج فيها على نمط سهل؛ يفهمه الصغير والكبير بأن تبين لهم فيه
نسبتهم إلى: المأمور، والمدير، والناظر، والمهندس، والطبيب، والعالم، وإلى
المقام الخديوي، وغير ذلك.
وتحدد الطريقة التي يتعلم بها الفقهاء هذه الأمور القريبة من الأذهان، والمكان
الذي يتعلمون فيه، والوقت الذي يخصص لذلك، والمعلم الذي يعلمه، ثم تقرير
العلاقة بين أولئك الفقهاء، وبين إدارة الأوقاف، ونظارة المعارف.
المكاتب الرسمية الابتدائية
تلامذة هذه المكاتب لا يزالون إلى الآن من الأطفال الذين يقصد كفلاؤهم
بتعليمهم التوصل بهم إلى خدمة الحكومة، سواء نالوا ما قصدوا أم لا، إلا أنهم
في الغالب لا يستطيعون أن يذهبوا إلى نهاية التعليم المعد لذلك، فيرجع الوالد إلى
أبيه أو من يقوم مقامه بعد نهاية المكتب عارفًا ببعض مبادئ العلوم التي لا يجد لها
موضعًا تستعمل فيه، فلا يلبث أن ينساها، فيضيع الزمن الذي شغله بالتحصيل بلا
فائدة، ثم إنه يعود بأخلاق أشد فسادًا من أخلاق الذين بقوا على الفطرة، لم يمسهم
التعليم، ويجد في نفسه نفرة وعجزا عن العمل فيما كان يعمل والده وأهله من قبله،
فيقضي عمره في البطالة أو ما يقرب منها، فتزداد أخلاقه فسادًا، وأفكاره اختلالاً،
ويقف نفسه على عبادة الأوهام، وخدمة الدسائس التي تنبهه على طلب ما يغير الحالة
التي عليها الناس؛ طمعًا في تغيير حالة نفسه بلا تعقل، فيكون زيادة في أمراض
البلاد، بدل أن يكون عضوًا نافعًا.
فأول ما يجب لإصلاح هذه المكاتب ووضعها على أساس يفيد العامة: أن
يراعى في البروجرام إدخال مبادئ العلوم من وجهها العملي الذي ينطبق على
المعاملات الجارية في البلاد، فقواعد الحساب مثلاً تؤخذ من وجهها العملي مطبقة
على المعروف في المعاملات التجارية، وحساب الصيارفة الأميريين، وغيرهم،
فيتعلمون طريقة وضع المدفوع من الأموال في الأوراق والدفاتر، وطرق التحصيل
لأموال الحكومة، ونحو ذلك، ويدخل فيها فن الأوزان والمكاييل، وإن كانت مبادئ
هندسية، فليدخل فيها شيء من المساحة على الطريقة المعروفة في البلاد، أو على
أفضل منها. وما يؤخذ من قواعد العربية، يكون مصحوبًا بالعمل في المكاتبات
العادية، والمشارطات المتداولة بين الأهالي، حتى إذا انفصل التلميذ من المكتب،
يكون عنده ما يحتاج إليه شخصه أو عائلته وأقاربه وأهل بلده، فلا ينقطع عن
العمل به؛ لكثرة ما يرد عليه منه.
ثم يضم إلى ذلك تعويده على بعض الأعمال الزراعية أو الصناعية في
أوقات الرياضة، أو يخصص لذلك يوم في الأسبوع؛ ليعلم كفلاء التلامذة أن للتعليم
غاية سوى خدمة الحكومة، وأنهم إذا لم ينالوا الخدمة، فإن لهم شأنًا سوى البطالة،
والتفرغ للأوهام الرديئة، ثم يضاف إلى البروجرام مبادئ العقائد الدينية على
الأصل الصالح وأصول الآداب الدينية على ما يجمع الألفة، ويعرف وجه المصلحة
في المعاملة والمخالطة، وشيء من تاريخ البلاد، وما كانت تعانيه في
سابق زمنها، وما صارت إليه من الراحة في هذه الأوقات، وشيء من القواعد
العامة للنظام الذي هم فيه؛ ليعلم التلميذ أنه من أي جنس، وفي أي شكل من أشكال
الحكومة، فيتعلم الخضوع والانقياد لكل مسند فيما يصدر منه، ثم يكون أهم العناية
بحمل التلامذة على العمل بما يعلمونه من الآداب، وتشديد المراقبة عليهم في ذلك،
وتوضع لهذا لائحة مخصوصة؛ يحدد فيها البروغرام اللازم للمكاتب الابتدائية
وطريق التعليم، ويبين فيها المسلك الذي يتخذه المربي المفوض إليه مراقبة أخلاق
التلامذة، وملاحظة أعمالهم، فإذا أتم التلميذ مدة المكتب الابتدائي، ولم يتيسر له أن
ينتهي إلى غاية التعليم، رجع إليه بشيء نافع، ونمت الأخلاق الصالحة، والأفكار
الحسنة، وانطبع قلبه على الخير والسلامة، وكانت له بصيرة في وجوه المعاملة مع
من يشترك معهم في المصلحة، ونبت في قلبه احترام النظام الذي يضبط مصلحته،
ومصلحة بني وطنه، ونشأ على محبة العمل والرغبة فيه، فلا يكون إلى فؤاده
سبيل للوساوس، ولا منفذ للدسائس.
المدارس التجهيزية والمدارس العالية
لا أتكلم في بروغرامات دروس الفنون التي تقرأ فيها؛ لأن النظر في ذلك
يتعلق بالغرض الذي جعلته الحكومة غاية لإقامة تلك المدارس، وإنما كلامي فيها
منحصر فيما يتعلق بالتربية وتهذيب الفكر، وغرس مبدأ الصلاح في نفوس التلامذة
ليحسنوا في استعمال ما تعلموا.
قلنا فيما سبق: إن التربية مفقودة في تلك المدارس، لا يخطر ببال أحد أن
يعتني بها عناية حقيقية، وإنما الموجود فيها صور ورسوم تغر الناظر فيها، وهي
بمعزل عن الحقيقة، فالذي يجب لتأسيس التربية فيها؛ تعليم العقائد الدينية على
الأصل الصحيح، تعليم الآداب الدينية على الطريق الصالحة، إلزام التلامذة
في تصرفهم بموافقة ما تعلموا، كل ذلك على نمط أرقى مما كان في المكاتب
الابتدائية. تعليمهم الإجادة في الكتابة كل في فنه الذي يريد الوصول إلى غاية
التعليم فيه تعليمهم أصول النظام العام، ثم زيادة التوسع لكل فيما يتعلق بفنه من
النظام، فالقانونيون يتوسع لهم في أصول النظام المتعلق بالقضاء والإدارة، وهو
شيء غير نفس القانون. والمهندسون في أصول النظام المتعلق بالري وتدبير النيل،
وهو شيء غير الهندسة وعلى هذا القياس.
والمربي في كل ذلك يودع في أفكارهم أن القيام بهذه الأعمال مما يطالب به
الدين، وأن فوائدها ليست قاصرة على خدمة الحكومة، بل هي من لوازم الحياة
الطيبة، ويورد الأدلة على ذلك وهي كثيرة لا تعد، حتى إذا بلغ التلميذ نهاية التعليم،
أمكنت الثقة به، واؤتمن على عمل يفوض إليه، وكانت الأنفس مطمئنة من جهته؛
لعلمه أن للنظام علاقة بحياته الروحانية، كما له علاقة بحياته الجسدانية، فإن لم
يكن له نصيب في خدمة الحكومة وجد سبيلاً آخر للعمل، وهو في رضى عن
النظام المحيط بأعمال وطنه، فيكون بذلك عضوًا صالحًا، ويقوم بينه وبين
الدسائس حجاب منيع من الاستقامة الفكرية والخلقية، حتى لو أن التلميذ بعد ذلك
حمله الشطط في الفكر على خلع العقيدة الدينية، بقيت فيه ملكات الأخلاق الفاضلة
طبيعة ثابتة، لا تتبدل بتبدل العقيدة.
المعلمون والمربون ومدرسة دار العلوم
وجود مثل هؤلاء المعلمين عسير، كما يقوله كثير ممن له تعب في البلاد،
ولم يتفكر في حالتها، ولم يدقق البحث في مصلحتها، أما أنا فلا أرى في ذلك
صعوبة بقدر ما يتصورونها، كما أن كثيرًا مثلي لا يرون ذلك.
أما أولاً: فلأن بلادًا واسعة مثل مصر، لا تعدم أفرادًا متفرقين في أنحائها،
يعرفون من الدين حقيقته، وللزمان ما يلزم له، وإنما يجمعهم البحث والتنقيب،
وكما ساح ناظر المدرسة الزراعية؛ ليختبر الأرض، ويعرف الطرق المسلوكة في
البلاد لخدمتها واستنباتها، كذلك يجب أن يسيح مدير التربية في الأطراف؛ ليعرف
الصالحين لتوليها. على أن المعروف منهم ليس دون الكفاية للابتداء في العمل، فإن
لم يكن الموجود بالغًا الغاية في المقصود، فلا أقل من أن يكون قريبًا منها. وأما
ثانيا: فلأنه يمكن تكوين جماعة كثيرة ممن يحتاج إليهم في الغرض بطريقة هي
مرسومة الآن، ولكن لم يطبق العمل منها على الرسم الحقيقي، على أن في الرسم
نقصًا يجب تتميمه، وتلك الطريقة قد رسمت في المدرسة المسماة بدار العلوم.
دار العلوم مدرسة ابتدعها سعادة علي باشا مبارك من نحو خمس عشرة سنة،
وشرط أن يكون تلامذتها من طلبة الأزهر، وأن يكونوا حصلوا من العلوم المقررة
فيه مبلغًا يكاد يؤهلهم للتدريس، ثم جعل في دروس تلك المدرسة دروسًا لجميع ما
كانوا يقرؤونه في الأزهر من العلوم الدينية؛ ليتمموه على وجه أجلى وأنفع،
وأضاف إلى ذلك أطرافًا من الفنون الصناعية كالطبيعة والكيمياء، والحساب،
والهندسة، وشيئا من الجغرافية، والتاريخ، وقدَّر غاية الدراسة أن يكون التلميذ
المتمم لدروسه فيها صالحًا لأن يكون أستاذًا في العلوم العربية والدينية في المكاتب
والمدارس الرسمية، ولكن جاءت على تلك المدرسة أدوارًا كثيرة أسقطتها عن
مرتبتها التي كانت تنبغي لها، ثم لم يوضع فيها أساس للتربية التي كان يجب أن
تكون أهم شيء يُقصد من الانتظام فيها، ولهذا كان يخرج تلامذتها على ما يخرج
عليه تلامذة غيرها من الأخلاق والأفكار، لا يمتازون عنهم إلا قليلاً، وإن كانت مع
ذلك، أنشأت أفرادًا من أهل العلم والأدب هم الآن معروفون تشهد لهم حالهم بأنهم
أفضل من جميع الناشئين في غير تلك المدرسة، ولكنهم أقل عددًا مما كان ينتظر.
ثم من غريب التصرف، أن هذه المدرسة مع أنه لم يكن الغرض منها إلا
تكوين أساتذة قادرين على التربية عارفين بالعلوم الدينية والعربية حق المعرفة، لا
يقيمون عليها من النظار إلا جاهلاً بالدين واللغة العربية، بل غير معتقد بالدين
بالكلية كما فعلوا سابقًا، ويريدون أن يفعلوا في هذه الأيام، ولا يعينون فيها من
المعلمين للدروس الدينية إلا من يقصد تعيشهم بمرتباتهم، وفيهم من لا تجوز معاشرة
التلامذة له؛ فضلاً عن أخذهم العلم عنه، وفيهم من لا يحسن أداء ما كلف به،
وليس فيهم أهل لوظيفته إلا شخصان فقط. والكل لا عناية له بأمر التربية، ولا
يهمه فساد أخلاق التلامذة أو صلاحها، ولا استقامة عقولهم وأفهامهم أو اعوجاجها،
وتعليمهم الدين على ما هو المعروف في الأزهر لا يغيرون منه فاسدًا، ولا
يزيدون عليه صالحًا، وسائر المعلمين للفنون يؤدونها نقلاً من الكتب، لا يبينون
للتلامذة الغاية من تعلمها.
وليس العيب في ذلك راجعًا إليهم، ولكن إلى من لم يضع أصلاً لسيرهم في
تعليمهم، ولم يؤسس قاعدة ترجع إليها جميع الأعمال صادرة من المعلمين أو
المتعلمين، ولم يقم على تلك القاعدة خبيرًا بالبناء عليها، عارفًا بالغاية التي توجه
المدرسة إليها، حكيمًا في تصرفه بأذهان التلامذة والأساتذة، حتى يقيم للتربية بناءً
معنويًّا حقيقيًّا، يأوي إليه كل معلم ومتعلم، يأتي من بعده.
هذه المدرسة تصلح أن تكون ينبوعًا للتهذيب النفسي والفكري والديني
والخلقي، ويمكن أن ينتهي أمرها إلى أن تحل محل الأزهر، وعند ذلك يتم توحيد
التربية في مصر ولكن يلزم لذلك أمور:
(الأول) إصلاح البروجرام، وحذف بعض العلوم التي اشتغل بها التلامذة
في الأزهر، والاكتفاء بتمرينهم على العمل بها، وتقدير ما يلزم من الفنون الباقية،
وزيادة بعض علوم ليست فيها الآن منها علوم الآداب الدينية، وفن أصول النظام مع
تعلقه بالدين.
(الثاني) تغيير طريقة تدريس تفسير القرآن، وتعلم الأحاديث النبوية.
(الثالث) اختيار معلمين صالحين للقيام بالعمل الموصل إلى الغاية المطلوبة
للمدرسة.
(الرابع) تعيين ناظر للمدرسة قد ملأ قلبه، وغمر فكره الميل إلى المقصد
الذي وضعت له المدرسة عالمًا بالدين ولغته موثوقًا به عند العامة.
(الخامس) إعطاء تلامذتها بعد نهاية التعلم حق التدريس في الأزهر.
(السادس) توسيعها إلى ما يسع مائة تلميذ.
(السابع) أن يزاد في مدتها سنة بعد الدراسة للتمرين على التعليم في نفس
المدرسة.
(الثامن) وهو أهم ما يجب - أن يكونوا تحت نظام شديد في التهذيب،
وملازمة العمل بما يعلمون.
(التاسع) أن تكون وظائف التدريس في المدارس والمكاتب منحصرة فيهم.
(العاشر) أن تكون درجتهم في الوظائف على حسب أدبهم واقتدارهم على
التأديب.
(الحادي عشر) أن يكون للموظف منها في مدرسة ما سلطة تامة على تهذيب
التلامذة، وتربية نفوسهم، وتقويم أخلاقهم وطباعهم، وأرقاهم وظيفة في تلك
المدرسة يكون رئيسًا لمن دونه.
(الثاني عشر) أن يبقوا بلباسهم الذي هو لباس أهل الدين، مهما ترقوا في
الوظائف.
ثم إنه يلزم لهذا المشروع كتب تؤلف جديدًا، ولوائح تنظم للعمل على
مقتضاها، وذلك كله يمكن بعد العزم على الإجراء.
نفقات الإصلاح
يمكن أن يظن أنه يلزم للإصلاح زيادة نفقات، ولكن إذا دبرت مصاريف
المعارف على الوجه اللائق، فلا أظن أنه يحتاج إلى زيادة، على أنه لو احتج إليها لا
يثقل احتمالها بعد اليقين بأن هذا الإصلاح يؤول إلى تمكن السلطة، وجعل الرعية
صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل، وأظن أن بذل النفقات في هذا السبيل
وهو سبيل حياة السلطة وحياة الرعية أفضل منه في جميع السبل، فإن كانوا
يصرفون آلافًا من الجنيهات على بعض المباني الخربة؛ بدعوى أنه أحفظ للآثار
القديمة، فأولى أن يصرف بعض تلك المبالغ على حفظ الذين تبقى لأجلهم تلك الآثار
فإن التربية هي الحصن الحقيقي للبلاد، والذي يصونها من جيش الفساد، وهي
آلة صاحب السلطة في الانتفاع بالمحكومين بفائدة أعم من الفوائد التي جاء بها مشروع
السيد أحمد خان في الهند، وهو أبعد من ذلك المشروع عن سوء الظن.
شبهة من يعارض المشروع ومكانته في نفسه
ربما يوجد أشخاص خصوصًا من الرؤساء، يقولون: إن هذه الطريق بعيدة
النهاية لا توصل إلى الغاية. كما قالوا ذلك من قبل فنقول لهم: إن الطريق التي
سلكوها وسلكها أسلافهم من محمد علي إلى الآن، قد جربت فلم تعد بخير على البلاد
فليسلكوا الآن هذه الطريق على سبيل التجربة بعض سنوات، فليس هناك ضرر
ينتظر، فإن لم تكن فائدة فلا خوف من المضرة.
إن من يزعم العجز إنما يلجأ إليه؛ لأنه لم يتصور ما يرد من الأمر عليه،
فإن كانت له أدلة فليوردها، ولا نعدم لها من الحقيقة دافعًا، فإن أبى إلا العجز،
فربما يوجد من لو وكِّل إليه الأمر قام به، ولم يعجز عنه، والتجربة مشرق الحقيقة
إن شاء الله - تعالى - على أنه يمكنني أن أضمن كل ضرر يتصور في هذا
المشروع، وأكفل أن يكون له من النفع، ما هو أوفر من الفائدة المطلوبة في السبر
الحاضر.
وإني لا أزال أكرر أن غارس هذا الغرس، يجني ثمرته الطيبة، وأن فوائده
ربما نقلت إلى أقطار أخر فعادت بجزيل الخير على من نماه، وفي الزمن القريب
يبدو صلاحه لصاحب السلطة وللمحكومين له، ويسهل له تقرير أمره فيمن صلحوا
بإصلاحه على قاعدة المحبة والألفة، لا على طائشة الإخافة والرهبة، ويكون
بذلك قد كون لنفسه شعبًا جديدًا يعينه في الشدة، وينصره في الفتنة، ويعضده فى
ساعة المحنة، ويمحو من نفسه خيال التعلق بغيره، وتزول من طريقة عقبات
تعصب الجاهلية، وحمية الحماقة اللابسة ثوب الحمية الدينية، وفي ظني أن من
عارض هذا المشروع؛ فقد عادى سلطته وعرض نفسه لغير الزمان، وسياسته
لنفوذ شياطين الفتن من مقاوميه. والله ولي الأمر وبيده كل شيء يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم اهـ.

يقول جامع الكتاب
نقلت هذه اللائحة عن مسودة للإمام غير منقحة، ولا معروضة للنشر كما
سبقت الإشارة، بل كتبت لأجل أن تترجم، وهي مع ذلك آية في البلاغة وحسن
العبارة.
ومن كان حديد الفهم، بعيد الغوص في أسرار الكلام، يعلم أنها لامست سماء
الإعجاز- أو كادت - على عدم العناية فيها بزينة اللفظ وزخرف القول، ذلك إنه لا
يرى لعقله مذهبًا آخر أرجى من مذهب الإمام فيها لإقناع السلطة في مثل هذه
البلاد بالتربية الإسلامية التي كانت قصده في أمته مع الصدق في القول والإخلاص
في النية, وإذا قارن هذه اللائحة باللائحتين قبلها تجلى له معنى (لكل
مقام مقال) فغرض إمامنا في الإصلاح الديني واحد؛ ولكنه كان يتوسل إليه في كل
بلاد بأقرب الوسائل التي يرجى أن ترضى بها السلطة وهو ما يجعله موافقًا
لمصلحتها، وتلك هي الحكمة البالغة والبلاغة السابقة.
ناهيك بما تومئ إليه مقدمة هذه اللائحة من الرسوخ في علوم العمران
كطبائع الأمم وأخلاقها، ونظام التربية، والتعليم والسياسة، فيا ليت الأستاذ الإمام
فرغ للتأليف؛ لم يشغله عنه الإصلاح العملي، ومحاولة تربية الأزهر، وإصلاح
الشورى والمحاكم، إذًا لكان لنا منه مصنفات تفعل في النفوس بعد وفاته، أكثر مما
كان يريد أن يعمله في حياته رحمه الله تعالى على نيته وحسناته.
(المنار)
هذا ما نبهنا به على مكان اللائحة في جزء المنشآت من تاريخه الذي نطبعه،
وقد طال هذا الجزء أكثر مما كنا نظن؛ لأننا وجدنا من آثاره ما لم نكن عثرنا عليه
عند الشروع في الطبع. أما جزء التأبين والمراثي فقد تم أو كاد؛ وسيشرع في
جمعه قبل صدور هذا الجزء إن شاء الله.