أسهب المحقق ابن القيم في كتابه (الصلاة) في الخلاف بين العلماء في كفر تارك الصلاة وعدمه وأدلة المثبت والنافي. ثم قَفَّى على ذلك بفصول في الحكم بين الفريقين بدأها بالبحث في مسألة العنوان المهمة فأحببنا نشرها، لأنها من المسائل المهمة التي لم يوفها مثلُه حقها. فصل في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك، فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر؛ ولما كان الإيمان أصلاً له شُعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانًا. فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة والحج والصيام والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصل وشُعب فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشُعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان والكذب شعبة من شعب الكفر. والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية. وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان. وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارًا وهي شعبة من شعب الكفر فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل. وها هنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مُجْمِعُونَ على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول بل ويقرون به سرًّا وجهرًا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مُسْتَنْكَر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سُمِّيَ الأولُ هدًى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سُمِّيَ تصديقًا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته [١] . فصل وها هنا أصل آخر وهو: الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله - جحودًا وعنادًا - من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان , وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا، ولا يمكن أن يُنْفَى عنه اسمُ الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا، ويسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافرًا ولا يُطْلَقُ عليهما اسم الكفر، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر. وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نُفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد. وكذلك قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) فهذا كفر عمل، وكذلك قوله: (من أتى كاهنًا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) وقوله: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به وكافرًا بما ترك العمل به، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوَهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} (البقرة: ٨٤ - ٨٥) فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأنهم لا يقتل بعضهم بعضًا ولا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقًا وأخرجوهم من ديارهم. فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، ثم أخبر أنهم يفدون من أُسِرَ من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه، فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ففرق بين قتاله وسبابه وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به والآخر كفرًا، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تُتَلَقَّى هذه المسائل إلا عنهم فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل، فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن جحير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) : ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه، وقال ابن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) قال: هو بهم كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة، وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: (كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق) وهذا الذي قاله عطاء بَيِّنٌ في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافرًا، ويسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافرًا. وليس الكافران على حد سواء، ويسمى الكافر ظالمًا كما في قوله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٥٤) وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا فقال: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: ١) قال يونس نبيه: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: ٨٧) وقال صَفِيُّهُ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: ٢٣) وقال كليمه موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: ١٦) وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. ويسمى الكافر فاسقًا كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (البقرة: ٢٦-٢٧) الآية، وقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: ٩٩) . وهذا كثير في القرآن. ويسمى المؤمن فاسقًا كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: ٦) نزلت في الحكم بن أبي العاص وليس الفاسق كالفاسق، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: ٤) . وقال عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: ٥٠) وقال: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (البقرة: ١٩٧) وليس الفسوق كالفسوق. والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان وكذا الجهل جهلان، جهل كفر كما في قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩) وجهل غير كفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: ١٧) . كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر، وهو شرك العمل كالرياء، وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: ٧٢) وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: ٣١) وفي شرك الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: ١١٠) ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) رواه أبو داود وغيره ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل) . فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وفي الصحيح أيضا: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان) فهذا نفاق عمل، وقد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا أكملت في العبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقًا خالصًا، وكلام الإمام أحمد يدل على هذا فإن إسماعيل بن سعيد الصالح قال: سألت أحمد بن حنبل عن المُصِرُّ على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم، هل يكون مُصِرًّا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مُصِرٌّ. مثل قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ونحو قوله: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) ونحو قول ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) قال إسماعيل: فقلت له: ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا يَنْقلُ عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. فصل وههنا أصل آخر، وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد وتقوى وفجور ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) فأثبت لهم إيمانًا به سبحانه مع الشرك، وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: ١٤) فأثبت لهم إسلامًا وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الحجرات: ١٥) وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين؛ بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله وليسوا مؤمنين، وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر. (قال) الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن - يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب - فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون ذلك - يريد دون الكبائر - سميته مؤمنًا ناقص الإيمان، فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق) فدل على أنه يجتمع في الرجل نفاق وإسلام. وكذلك الرياء شرك، فإذا راءى الرجل في شيء من عمله اجتمع فيه الشرك والإسلام، وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرًا وهو ملتزم بالإسلام وشرائعه، فقد قام به كفر وإسلام. وقد بيَّنا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمنًا وقد لا يُسَمَّى، كما أنه قد يسمى بشعب الكفر كافرًا، وقد لا يطلق عليه هذا الاسم. فهاهنا أمران: أمر اسميّ لفظيّ، وأمر معنويّ حكميّ. فالمعنوي: هل هذه الخصلة كفر أم لا؟ واللفظي: هل يسمى من قامت به كافرًا أم لا؟ فالأمر الأول شرعي محضٌ، والثاني لغوي وشرعي. فصل وها هنا أصل آخر، وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنًا وإن كان ما قام به إيمانًا، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن يسمى كافرًا وإن كان ما قام به كفرًا، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالمًا ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقيهًا ولا طبيبًا، ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيمانًا، وشعبة النفاق نفاقًا، وشعبة الكفر كفرًا، وقد يطلق عليه الفعل كقوله (فمن تركها فقد كفر) و (من حلف بغير الله فقد كفر) وقوله: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر، ومن حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ. فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، وكذا يقال لمن ارتكب محرمًا إنه فعل فسوقًا وإنه فسق بذلك المحرم، ولا يلزمه اسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه. وهكذا الزاني والسارق والشارب والمنتهب لا يسمى مؤمنًا وإن كان معه إيمان كما أنه لا يسمى كافرًا وإن كان ما أتى به من خصال الكفر وشعبه؛ إذ المعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. والمقصود أن سلب الإيمان من تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام والإيمان. نعم يبقي أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطًا في صحة الباقي واعتباره، وإن كان المتروك شرطًا في اعتبار الباقي لم ينفعه. ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو مَن أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تنفع الصلاة من صلاها عمدًا بغير وضوء، فشعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق المشروط بشرطه، وقد لا يكون كذلك. فيبقى النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة، والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يُقْبَلُ من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه، ومُحَال بقاء الربح بلا رأس مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، وإن أتى بها صورة. وقد أشار إلى هذا في قوله: (فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع) وفي قوله: (إن أول ما ينظر في أعماله الصلاة فإن جازت له نظر في سائر أعماله، وإن لم تُجَزْ له لم ينظر في شيء من أعماله بعد) . ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودُعِيَ إلى فعلها على رءوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، وشُدَّ للقتل وعُصِبَتْ عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدًا! ! ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن مسلم يُغَسَّل ويُصَلَّى عليه، ويُدْفَن في مقابر المسلمين. وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، فلا يستحي مَن هذا قولُه مِن إنكاره تكفير مَن شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة؟ والله الموفق. اهـ.