(مستقبل الحجاز وأمير مكة المكرمة) نشر المؤيد الأغر من أيامٍ رسالةً مطولةً (لعثماني صادق) عنوانها (مستقبل الحجاز) تكلم فيها صاحبها عن حالة البلاد في هذه الأيام كلامًا تاريخيًّا ينبغي أن يعلم وحمل على أميرها الشريف (عون الرفيق باشا) حملة منكرة عد عليه فيها سيئات، إذا صحت الرواية فهي أقبح السيئات، ولكن الكاتب عد عليه أيضًا ما يُعَدُّ له فكان بذلك متهمًا بالغرض أو الجهل، وقلما تجد كاتبًا يقف عند حدود الاعتدال. أما السيئات الحقيقية فهي الظلم في أرض الحرم والاستبداد في الحكم وعدم العناية بحفظ الأمن بل اتهمه بإغراء الأعراب بالحجاج لسلب المال منهم وهذا شيء عظيم لا نلوم الكاتب على التطويل بذمه ونقده، وإن كان أكثر كلامه من قبيل الشعر لا من قبيل سرد الحقائق وبيان الأوصاف، ويظهر أن الغرض من الكتابة حمل السلطان على عزل الشريف من إمارة مكة المكرمة. ومن غلو الكاتب المنكر شرعًا مخاطبة السلطان والاستعانة به بكلام لا يقال إلا في الله تبارك وتعالى كقوله: (فإليك يتوسل المسلمون، وبك يستغيث المؤمنون. يا غياث المستغيثين، وأمان الخائفين) . وإنه لكلام تقشعر من توجيهه لغير الله تعالى قلوب المؤمنين. وإذا كانت مبالغة في الذم على نسبة مبالغته في المدح فلا شك أنه كاذب فيما كتب، فالذي يجعل السلطان إلهًا اتباعًا لهواه لا يبعد أن يجعل الشريف شيطانًا اتباعًا لهواه. وعجيب من المؤيد كيف نشر هذا الإطراء وأقره. ولولا أن الطاعنين في هذا الأمير كثيرون لما حفلنا بهذه الرسالة وقد كنا نوهنا في المنار (١٤: ٢) الصادر في ٩ صفر سنة ١٣١٧ برسالة مطبوعة وردت علينا في بريد سنغافورة اسمها (ضجيج الكون من فظائع عون) وهي مملوءة بالشكوى من الشريف، وقد كتب إلينا يومئذ أنها ترجمت ووزعت في الأقطار فكانت لها تأثير عظيم؛ حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة أيده الله تحاشيًا من الكذب بأنه خادم الحرمين الشريفين، وقد أرسلت هذه الرسالة يومئذ إلى الحضرة السلطانية ويظهر أن ذلك كان عمل جمعية ولكن لم يظهر لها أثر لأن الشريف متفق مع السلطان راضٍ عنه. وصاحب رسالة (مستقبل الحجاز) يؤكد القول بأن الشريف يجتهد في إقناع الناس بأنه لا يفعل فعلة إلا بإذن السلطان ومرضاته لينفرهم منه، فإذا ثبت هذا للسلطان فربما يعزل الشريف أو يرسل إليه واليًا حازمًا يغلّ يده ويحفظ الأمن ويكون هذا حجة على الذين يقولون: إن السلطان يحب أن يكون الشريف ظالمًا غاشمًا ليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض بأن حكم الترك أفضل من حكم أشراف العرب. ومما عده صاحب الرسالة (مستقبل الحجاز) من سيئات الشريف هدم بعض القبور والقبب والمساجد التي بنيت على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتقصد لزيارتهم، وقال: إنه أزعجهم في قبورهم وكذلك القبر المنسوب إلى أمنا حواء عليها السلام. ومن أين لمثل هذا الكاتب الذي عدَّ هذه الأعمال ذنبًا لا يغفر أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطمس القبور المشرفة ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعليها ونهى عن شد الرحال إلى مثلها. أخرج الإمام أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم عن أبي الهياج الأسدي، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله وعليه وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) قال الإمام الشوكاني في شرح هذا الحديث بعدما رجح أن رفع القبور زيادة عن القدر المأذون فيه حرام ما نصه: (ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا: القبب والمشاهد المعمورة على القبور وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار بالأصنام. وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج وملجأً لنجاح الطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا. وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يُشَكُّ معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق. وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من هذا الكفر! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله! وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة! وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبًا؟ !) اهـ. ثم تمثل الشوكاني بعد ما تقدم بقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارًا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد والسبب في موت العلماء والأمراء الذي عناه بالتمثيل هو اختيار مرضاة العوام الذين فشا فيهم هذا المنكر على مرضاة الله تعالى، فالعوام بمقتضى طبيعة الكون تبع لهم ولكنهم لضعف إراداتهم وانحلال عزائمهم جعلوا أنفسهم تبعًا للعوام وسيتبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث جابر أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّصَ القبر وأن يُكتب عليه وأن يُبنى عليه) ولفظ الكتابة لم يذكره مسلم ولكنه على شرطه كما قال الحاكم، والتجصيص: الطلاء بالجِصّ وهو الكلس والجير، والنهي حقيقة في التحريم. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) زاد مسلم والنصارى. وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) وقد عد العلماء اللعن من علامة كون المعصية من الكبائر، وما كان كذلك تجب إزالته. فإذا تصدى مثل شريف مكة لإزالة هذا المنكر عملاً بسنة جده عليه أفضل الصلاة والسلام لقدرته على ذلك نَعُدُّه عاصيًا ومبتدعًا لقول كاتب جاهل ومجهول ونخاطب السلطان بما لا يخاطب به إلا الله عز وجل لأجل التنكيل به؟ ! لقد انقلب المعروف منكرًا والمنكر معروفًا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أما مستقبل الحجاز فهو مما لا يصح لمثل هذا الكاتب أن يخوض فيه إلا إذا عرف ما ورد من الأخبار النبوية فيه وأخذ حظًّا من علم طبائع الأمم وسنلمّ بشيء من ذلك إن شاء الله تعالى في مقالة نكتبها في مستقبل الإسلام. ولا يُفْهم من انتصارنا للحق في مسألة القبب ومساجد القبور أننا ننتصر للشريف على كل حال فإننا كنا أول من وجه أنظار مولانا السلطان - أيد الله دولته - إلى تحقيق ما ينسب إليه في أمر الأمن وعدمه والظلم في الحرم وفعل ما يجب من إزالة ذلك، وذلك من مدة سنتين كما أشرنا إليه في أوائل الكلام ونكرر ذلك الآن، والله الموفق وإليه ترجع الأمور. * * * (وفاة الشيخ أحمد الجيتيكير) نعى إلينا بريد الهند في الشهر الماضي وفاة هذا العالم الفاضل والأديب الكامل الذي يعرف قراء المنار بعض فضله وغيرته الملية من قصائده التي نشرت في المنار مما كان ينشد في جمعية ندوة العلماء , وقد كانت وفاته في يومي ١٩ محرم رحمه الله رحمة واسعة وعَزَّى آله وأصدقاءه أحسن العزاء. *** (وفاة عقيلتين) في ١٧ صفر توفيت العقيلة عائشة عصمت كريمة المرحوم إسماعيل بك تيمور وأخت الفاضل أحمد بك تيمور وكانت أديبة شاعرة في العربية والتركية والفارسية وقد لقبها المؤيد بشاعرة مصر في هذا العصر. فنسأل الله أن يحسن عزاء أخيها وأنجالها الكرام. وفي ١٩ منه توفيت والدة الفاضل النبيل أحمد بك تيمور فاجتمع على هذا الفاضل مصابان عظيمان في شهر واحد مصاب الأخت ومصاب الأم، وله أكبر عزاء بما وُفِّقَ له من اتباع السنة في تشييع الجنازة والمأتم؛ إذ كان قدوة صالحة للناس الذين اعتادوا أن يروا في جنائز الكبراء والأمراء ألوان البدع كحملة مجامر الفضة وصحافها الملأى بالرياحين وكطغمة الخدم المؤتزرة بأُزُر الحرير وكزعنفة الصائحين بالأشعار والأدعية والصلوات وغير ذلك. ولكن أحمد بك تيمور انفرد دون أولاد الباشوات في مصر بمزيد الاستقامة واتباع السنة والاشتغال بالعلم والأدب بل لا نكاد نرى في هذه البلاد شابًّا مثله في استقامته وأدبه، وإن كثيرًا من أهل الفضل ليودون إبطال هذه العادات القبيحة ولكن إرادتهم ضعيفة لا تقوى على ما يتوهمون من الانتقاد ورميهم بالبخل على الموتى.مثل أحمد بك تيمور يصح أن يكون قدوة لهؤلاء إذا وفقهم الله تعالى. ولقد سمعت نفرًا من العامة يتحدوث في الطريق ونحن مشاة في تشييع الجنازة يسأل بعضهم بعضًا عن السبب في خلو هذه الجنازة من الصياح والضجيج ونحوه مما أشرنا إليه آنفًا فأجابه آخر بأن هذا هو السنة فحمدت الله تعالى أن جعل في العامة من يفرق بين السنة والبدعة ويعرف أهلهما فكما نعزي صديقنا الكامل أحمد بك تيمور في مصابيه نهنئه بما وفق له من إقامة السنة وخذل البدعة، ونسأل الله أن يجعله قدوة حسنة لأمثاله من الوجهاء الذين هم قدوة لسائر الطبقات في جميع التقاليد والعادات. *** (نصير محمد علي) استحسن الفضلاء ما كتبناه عن محمد علي وأعجبوا به وهنأونا بخدمة الدين والأمة به إلا حدث السياسة فإنه شتمنا في جريدته وعَيَّرنَا بلقب (الدخيل) يعني أننا لسنا من سلالة الفراعنة، وقد أمر الله بالإعراض عن مثله. ونحمد الله أننا من ذرية أفضل أنبيائه فوالدنا حسيني وأمنا حسينية. وذلك أفضل عند كل مسلم من السلالة الفرعونية. وأما إرجاف الحدث بذكر الاستعداد لثورة كالثورة العرابية فهو مما لا يفهم؛ لأن الثورة لا تكون إلا لمقاومة قوة ولا قوة في مصر إلا للمحتلين، فإن كنا نحن ومن (ينصرنا أو يحمينا) نريد أن نثور عليهم فإننا نستحق من سعادة الحدث الثناء لا الذم وإن كان يعني أننا نثور على جانب آخر فذلك الجانب هو الذي يشكو الحدث دائمًا من سلب حقوقه، ونشكو نحن العقلاء من الثورات المعنوية التي هاجها عليه هذا الحدث وأمثاله وكان من أثرها ما كان وما هو كائن ما دام هؤلاء الأحداث متصلين به.