للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا

كتبنا في الجزء الماضي شيئًا في هذا الموضوع، وكان موسى أفندى عبد الله
أحد مجاوري الروس في الأزهر ترجم لنا مقالةً من جريدة (وقت) الروسية التي
تصدر في أورنبورغ كُتبت بقلم رجل من أعقل المسلمين وأفضلهم في روسيا فضاق
ذلك الجزء عن نشرها فرأينا نشرها هنا لما فيها من الفائدة، وهي:
المدارس وطلبة العلوم
ظهرت بيننا في هذه الأيام مسألة إصلاح المدارس، مسألة خاضت فيها
الجرائد وتحدث بها الناس في كل مجتمع، وكُتب فيها ما كُتب من المقالات
والرسائل، وكثر فيها القيل والقال، وطال أمد النزاع والجدال، إلى أن سئم
البعض من المقال، بيد أنَّا مع هذه الإفاضة في الكلام ما خطونا إلى الأمام إلا
خطوةً واحدةً، والمقصد شاسع لا يُنال إلا بعد قطع مسافة طويلة.
المسألة مهمة وجديرة بأن نُعنى بها؛ لأن حياة الأمم وبقاءها إنما يكونان
بالمدارس التي هي روح الأمم ومدار سعادتها وارتقائها في العلوم والمعارف , ولا
يحصل الارتقاء في العلوم إلا بالتدريج , وكم من أمة وضعت أساسًا للعلم والمدنية
ثم انقرضت وورثتها أمة أخرى وبنت على أنقاض ما تركت الأولى وأكملت
نواقصها، ثم ودعت الدنيا، فخلفتها ثالثة ونظرت في ما تركته من الآثار وزادت
عليها وظفرت بما لم يخطر ببال الثانية، وهكذا إلى أن بلغت العلوم والحضارة ما
نراه اليوم من الرقيّ والكمال!
ووظيفة كل أمة في كل عصر هي أن تكمل ما ورثته من الآباء وتتركه
للأبناء، وإذا أهملت أمة هذه الوظيفة فقد جنت جناية لا تُغتفر على أخلاقها، بل
على النوع البشري بأَسْرِهِ.
وإذا أجَلْنا الطرف في مدارسنا نرى الفوضى سائدةً في أكنافها: لا نظام ولا
ترتيب ولا نظارة ولا محاسبة كأمتعةِ بيتٍ طُرِحَتْ إلى الشارع وقت الحريق! ومَن
أراد أن يكتب شيئًا فيما يتعلق بها يحار في اختيار نقطة يبتدئ منها , فليس إصلاح
هذه المدارس وتنظيم دروسها أمرًا هينًا بل هو أمر في غاية الصعوبة، ولكن الأمة
إذا تصدت لهذا الأمر بجد وإخلاص ذللته مهما كان صعبًا؛ إذ لا يوجد في الدنيا شيء
أشد قوة من أمة متحدة أفرادها وملتئمة أعضاؤها , وما من غاية قاصية إلا وأدركتها
الأمة المتحدة، وما من مسلك وعر إلا وعبرته الأمة المتحدة.
والمسائل التي تتعلق بمدارسنا كثيرة لا تحصى، ومضمارها واسع جدًّا لا
نهاية له , فلا خير في التحير في اختيار نقطة الكلام فأقول:
هل تفتقر مدارسنا الى الإصلاح؟
إن مسألة إصلاح المدارس مسألة جديدة بيننا. إذا رجعنا البصر إلى ما
وراءنا قبل عشرين سنة لم نعثر على أفكار مكتوبة تتعلق بالمدارس إلا قليلاً، وإذا
كان هذا القليل لم يطبع، ولم ينتشر بين الأمة لم يكن له أثره بالمرة، ولكن الفرق
عظيم بين ذلك الزمان وبين اليوم. فإنه لا يكاد يوجد اليوم من لا يبحث عن أحوال
المدارس وطلبة العلوم , وإن كان بعضنا ينكر إصلاح المدارس ويحرم تنظيم
الدروس ويدعي أن وراء إصلاح المدارس ضررًا جسيمًا يرجع إلى الأمة بالخسار
فهؤلاء المنكرون لا يزالون يتباحثون مع غيرهم في شأن المدارس والطلبة ,
والبحث عن شيء ولو بإنكار الحقيقة خير من إهمال البحث؛ لأن الناس لا يهتدون
إلى الحق إلا بعد نزاع وجدال وبحث وتنقيب، والبحث يجلو الحقيقة ويطلع
الكثيرين على مواضع خطأهم وينقذهم من التيه في غمرات الضلال.
إننا أصلحنا بيوتنا التي نسكنها والعربات التي نركبها وحوانيتنا التي نتجر
فيها ومزارعنا التي نحرثها، والأحذية التي نحتذيها، والأردية والفراء التي نلبَسها
بل وأوراقنا التي نطبع عليها كتبنا وقرآننا، وحروف مطابعنا وغيرها أفلا تكون
ديار التربية والتعليم والمدارس والمكاتب التي يتربى فيها رجال المستقبل وقادة
الأمة مفتقرة إلى الإصلاح؟
كل من تعلم في مدارسنا يكون إما مدرسًا في مدرسة أو معلمًا في مكتب أو
إمامًا وخطيبًا في مسجد أو عالمًا ذا نفوذ في الأمة أو رئيسًا لبيت من البيوت.
ولا أرى أن وجوب اتصاف هؤلاء بالفضائل الجمة وتخلقهم بالأخلاق الفاضلة
يحتاج في إثباته إلى دليل!
وإذا لم يكن المعلم والمدرس والإمام والخطيب مثالاً في الأخلاق الفاضلة
والآداب فلا يرجى منهم خير للأمة قطعًا , وليست وظائف من يكون زوجًا لامرأة
أقل من وظائف من يكون معلمًا في مكتب؛ لأن رئيس العائلة معلم في عائلته.
كيف ندعي عدم افتقار مدارسنا إلى الإصلاح ولا يدرس فيها (علم التربية)
وعلم الأخلاق وعلم السياسة والاجتماع. مع أن هذه العلوم لا بد منها لكل من يرشح
للتدريس، أو التعليم، والخطابة أو الكتابة!
أم كيف تحسب المدارس التي لا تسمع طلبتها فضيلة من الفضائل الإنسانية
ولا تدري ما هي الفلسفة الدينية معمورة غير مفتقرة إلى الإصلاح؟ وكيف ترجى
الخدمة للمسلمين من طلبة هذه المدارس؟
كل ما يدرس في مدارسنا عبارة عن عدة حواشٍ وشروحٍ وبعضه كتب من
علم الكلام أُلفت بعد ابتلاء المسلمين بالخلاف والجدل , أتكفينا هذه الدروس في هذا
الزمان؟
إذا قال لنا الذين يصدقون أقوال الكهان ويحكمون بما في كتب الطلاسم والجفر
ويحرمون ركوب السكة الحديدية، ويمتنعون من السفر تطيرًا بحيوان مخصوص:
إن مدارسنا أفاضت العلوم منذ قرون ولا تبرح تفيض وستفيض بعد الآن ,
والقارئون منا أكثر من قارئي الروس؛ لأنهم عندنا خمسة وعشرون في المائة وعند
الروس لا يزيد عن عشرين في المائة على أن مدارسهم منتظمة ودروسها على نسق
جديد والحكومة تؤيدها بمبالغ طائلة فما الذى يضطرنا إلى إصلاح مدارسنا؟ ! -
قلنا لهم: كان الذين يقرؤون في عهد آبائنا قليلين جدًّا في المدن فما بالك بالقرى وما
كان المقصد من الكتابة يومئذ إلا كتابة الكتب (الخطابات) وقراءتها أو كتابة
أسماء المواليد في سجل النفوس إذا كان القارئ إمامًا في مسجد. ولا شك أن
هذه الحاجة حاجة قليلة , وكانت مدارسنا في ذلك العهد تقضي هذه الحاجة. مضت
الأيام وتغيرت الأزمان وكثرت الحاجات ونجمت بين الأمم (المنافسة في الحياة)
أو (تنازع البقاء) وكانت الغاية من التعلم في المدارس قبل اليوم بنصف قرن
الإلمام بشيء من الدين وتعلم الكتابة. أما اليوم فقد صارت مدارس الأمم الحية دور
حياة تتخرج فيها هداة الأمة وقادتها , وهؤلاء القادة يقودون أقوامهم إلى ما فيه صلاحهم , ويسوقونهم إلى مستقبل عظيم.
إذا بقي هداتنا حيارى إذ تقود هداة الأمم الأخرى أقوامهم إلى مصالحهم فقد
خسرنا خسرانًا مبينًا!
فلتكن مدارسنا بحيث تربي لنا هداة يقودون الأمة ويكونون لها خير قدوة ,
وإن كان هذا الأمر مما كان يعد قبل اليوم بثلاث سنين خيالاً صرفًا فقد صارت الآن
حقيقةً جليةً كالشمس في وسط السماء.
هل كان يخطر ببالنا أن مسلمي الروس يضعون نظامًا في حاجاتهم الدينية
والدنيوية ويرفعونه إلى الحكومة وأنهم يجتمعون في عواصم البلاد ويأتمرون في
شؤونهم المختلفة كما رأينا اليوم بأعيننا؟ فلا غرو إذا رأينا بعد هذا وكلاء المسلمين
يجلسون متكاتفين مع وكلاء الأمم الأخرى في مجالس عالية , وبالجملة إننا نضطر
بعد اليوم إلى أن نعيش مع أهل وطننا المتقدمين في العلوم مشتركين في المصالح ,
وإذا لم نستطع أن نمشى معهم داسونا بأقدامهم وبقينا أذلاء صاغرين!
ليست الغاية اليوم من التعليم في المدارس هي تعلم الكتابة فقط، بل الغاية كما
قلنا سابقًا هو أن يتخرج فيها رجال يكونون أئمةً للأمة.
المتعلمون من الروس أكثرهم يعملون أعمالاً تحار فيها عقولنا، وأما المتعلمون
منا فلا يقدر أحدهم على أن يتكلم بالعربية الفصحى بعد أن يكون أضاع جُلَّ عمره
في تعلم لسان العرب الذى يحتاج إليه كل عالم إسلامي ديني.
أيها الإخوان! نحن في احتياج شديد إلى مدارس منظمة تهيئ لنا رجالاً تحفظ
أمتنا من الزلازل والزعازع، والأمواج والزوابع، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما أثبته
البرهان والعيان.
... ... ... ... ... ... ... رضاء الدين بن فخر الدين
(المنار)
إن لنا رجاءً كبيرًا بمسلمي روسيا لا يزلزله ما نسمعه عن جمود الكثيرين من
أساتذتهم وشيوخهم ونفورهم من الإصلاح الذى قضت به ضرورات الزمان، فإن
طلاب الإصلاح كثيرون، وهم الغالبون حتمًا ولو بعد حين , ولعلنا نعود إلى
الموضوع ونذكر ما يصل إلينا عن مؤتمر التلاميذ الذى عقدوه في قزان وبعض ما
نراه واجبًا في إصلاح تلك المدارس.