حال المعنى والتخييل قد يصوغ الشاعر المعنى لأول الخطاب في صورة خيالية، فلا يدركه إلا من صفت قريحته ورقت حاشية ألمعيته ككثير من الأشعار الواردة على طريق المعميات والألغاز، أو من سبق إليه ما يهديه إلى المراد، ويساعده على فهمه من قرينة حال أو مقال كبعض المحاورات التي يقصد فيها المتخاطبان إلى إخفاء الغرض وكتمه عمن يصغي إلى حديثهم أو يطلع على رسائلهم. وقد يصرح بالمعنى ثم يدخل به في طريق التخييل، وهذا إما أن يخرج الصريح بالتخييل فيفصل المعنى، ويضع بإزاء كل قطعة منه صورة خيالية كما قال العتابي يصف السحاب: والغيم كالثوب في الآفاق منتشر ... من فوقه طبق من تحته طبق تظنه مصمتًا لا فتق فيه فإن ... سالت عزاليه قلت: الثوب منفتق إن معمع الرعد فيه قلت منخرق ... أو لألأ البرق فيه قلت محترق مثل الغيم الضارب في الأفق بالثوب المنشور، ثم أخذ يقرن كل حال من أحواله بما يقابلها من أحوال الثوب، فجعل إمساكه عن المطر مظنة الصحة والمتانة، وانسكاب الغيث من خلاله منبثًّا بتفتقه، ومعمعة الرعد إعلانًا بانخراقه، ووميض البرق شظايا من اللهب تؤذن باحتراقه، وإما أن يستوفي المعنى بالصراحة، ثم يأتي بمثاله الخيالي متواصل الأجزاء، وهذا كقول بعضهم: رأيتكم تبدون للحرب عدة ... ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه ... ولا يمنع الخراف ما هو حامل استقصى المعنى الصريح وهو تظاهرهم بالأهبة للحرب وقعودهم عن قتال عدوهم وافتكاك ما سلب من حقوقهم، ثم ضرب له المثل على نسق واحد بالنخل يشرع نصالاً مسنونة من الشوك، كالمتأهب للذود بها عما يحمل من الثمار، فيعمد الخراف لها ويجتنيها بأجمعها دون أن يناله ذلك الشوك بأذى. ومن أبدع ما جاء على هذا النمط قول ابن رشيق القيرواني: رجوتك للأمر المهم وفي يدي ... بقايا أمني النفس فيها الأمانيا وساوفت لي الأيام حتى إذا انقضت ... أواخر ما عندي قطعت رجائيا وكنت كأني نازف البئر طالبًا ... لأجمامها أو برجع الماء صافيا فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه ... ولا هي أعطته الذي كان راجيا وإما أن يصرح لك بالمحل الذي يجعله مناطًا للحديث عنه، ثم يسوق القول كله على طريق التخييل كقول بعضهم: إني وإياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا رأى بعينيه ماء عز مورده ... وليس يملك دون الماء منصرفا فقد أراك أول الشعر أنه يرد الحديث عن حاله مع المخاطب، ثم اطرد في مجال التخييل الذي أفاد به؛ إذ الحاجة تحثه على القرب منه، والخطر المعترض في سبيله ينصح له بالإحجام عنه، ومن أبدع الوصف المنسوج على هذا المثال قول شرف الدين التيفاشي: أما ترى الأرض من زلزالها عجبًا ... تدعو إلى طاعة الرحمن كل تقي أضحت كوالدة خرقاء مرضعة ... أولادها در ثدي حافل غدق قد مهدتهم مهادًا غير مضطرب ... وأفرشتهم فراشًا غير ما قلق حتى إذا أبصرت بعض الذي كرهت ... مما يشق من الأولاد من خلق هزت بهم مهدهم شيئًا تنبههم ... ثم استشاطت وآل الطبع للخرق فصحت المهد غضبى وهي لافظة ... بعضًا على بعض من شدة النزق
أسباب جودة الخيال لا مشاحة أن النفوس تختلف بفطرتها في صحة الذوق وقوة التذكر فيكون من أسباب التفاوت في جودة الخيال ما هو عائد إلى الفطرة، والغرض في هذا المقام إنما هو البحث عن الأمور التي تؤثر في جودة الخيال وتبسط في نطاقه من خارج، ومدارها على أمرين: أحدهما: تردد النظر في مظاهر المدنية، فإن امتلاء حافظة الشاعر من المناظر المختلفة والصور التي لا تدخل تحت حصر تجعله أغزر مادة حتى إذا عرض له معنى اقتضى الحال إيراده في طريقة الخيال لا يعوزه متى التفت إلى حافظته أن يلاقيه منها ما يساعده على العمل بسهولة، ثم إنه لغزارة مادته وسعة مجاله تكون مخيلته أكثر عملاً في إنشاء المعاني وإبداعها، وكثرة العمل مما تترشح به هذه القوة النفسية، فيكون صاحبها أقدر على صناعة التخيل وأرسخ فيها ممن كانت بضاعته مزجاة وحافظته في إملاق. ومن جهة أن غزارة المادة تساعد على كثرة العمل الذي هو الإبداع، وكثرة العمل تقوى بها النفس في صناعة التخييل أمكن للشاعر المدني أن يفوق الشاعر البدوي أو القروي في تخييل معان اشتركوا في العلم بالعناصر التي تنتزع منها الصور الخيالية. يبلغ تأثير المدنية في تهذيب المخيلة إلى أن يكون الفرق بين عملها في حال البداوة وعملها بعد أن تحضن صاحبها الحضارة أوضح من نار على علم، فهذا علي بن الجهم الذي قال للخليفة: أنت كالكلب في حفاظك للعهد ... وكالتيس في مراعي الخطوب هو الذي يقول: فقلن لنا نحن الأهلة إنما ... نضيء لمن يأوي إلينا ولا نقري بيد أنه قال البيت الأول أيام كان يسكن البادية، وقال البيت الثاني بعدما نزل بغداد وتراصف في حافظته من الصور والمعاني ما رقت به حاشية طبعه وجعل قريحته تنسج من المعاني البديعة برودًا ضافية. ثانيهما: الحرية؛ إذ لا شبهة أن الاستبداد الأعمى يطبع الناس على الجبن ويلقي في أفئدتهم رهبة تحملهم على أن يجعلوا بينهم وبين الأقوال التي تسخط لها الحكومة القاسية حاجزًا لا يدنون منه، فيضيق بذلك مجال الشاعر، وربما تنكب الخوض في الاجتماعيات، حذر الوقوع في السياسيات، ومن ذا ينكر أن الخيال الذي يسخره صاحبه في كل غرض ويطلق له العنان في كل حلبة يكون أبعد مرمى وأحكم صنعًا من خيال الشاعر الذي حصرته السياسة في دائرة ورسمت له خطة لا يفوتها؟ ولقد كنت أعرف ناسًا شبوا تحت سلطة تكره للأديب أن يفتح لهاته في الأحوال السياسية، فصرفوا معظم حياتهم في التردد على الغزل والمديح والرثاء، وفاضت عليهم قرائحهم في هذه الأغراض بمعان رائقة، ولما سمح الوقت بالكلام في مقاصد اجتماعية أو سياسية وقف بهم الخيال في عقبة كؤود، أو أتوا بها في نسج واهٍ وهيئة متخاذلة. فالخيال حر في عمله لا تملك السلطة المستبدة مرده، ولكنها تمنعه من أن يتجول على مراكب الألسنة والأقلام، وهذا ما يثبط الشاعر عن إطلاق خياله للعمل، ولا يرخي له العنان إلا في أغراض يسعه الحال لأن يخاطب بها الناس نطقًا أو كتابة. فذانك سببان لأن يكون الخيال بديع الصنع في كل غرض يتوجه إليه، وههنا أمر آخر إذا اتفق للشاعر حال تصديه للنظم في غرض يكون له أثر جلي في سهولة التخيل وبعد الرمية إلى المعاني الغامضة وهو الإحساس والتأثر. فمن الشعراء من يتكلم عن مشاهدة وتأثر نفسي، كأن يرى البطل يلقي بنفسه في مواقع الخطوب، أو العالم كيف يتدفق بالحكمة البالغة، أو الجواد كيف يبسط يده بالنوال فيشعر بإعظامه ويأخذ في مديحه وتمجيده، ويرى الجبان كيف تصفر أنامله من ذكر الحرب، أو الجاهل كيف يتمضمض باللغو أو الباطل، أو البخيل كيف يشد على الدينار رباطًا فوق رباط فيشعر في نفسه بمهانته ويتصدى لهجائه، ويموت من يعز عليه من قريب أو صديق أو أستاذ، فيشعر بالتفجع والأسف، وتتفجر قريحته برثائه، وتحل بصديقه فاجعة فيحس بالإشفاق عليه، فيأخذ في تسليته وتهوين وقعها عليه بالعزاء الجميل، ويدخل الروضة الفيحاء فيتمتع بمرأى أزهارها وتلحين بلابلها، فيهب في صدره ابتهاج وأنس، ويسترسل في وصفها وذكر ما راقه من مشاهدها، ومن الشعراء من يسوقه إلى الشعر باعث طمع أو خوف أو حياء، ومن الجلي أن الإحساس والتأثر مما يفتح أمام الخيال طرقًا قلما يبصر بها من يحمل نفسه على الشعر المجرد الطمع أو الخوف أو الحياء، فانظر إن شئت مثلاً إلى قصيدة أبي الحسن الأنباري التي يقول في مطلعها: علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات فتجد فيها تخيلات فائقة، والذي ساعده على ذلك فيما أحسب أنه أنشأها عن تفجع وإعظام بالغ؛ لأنه رثى فيها الوزير ابن بقية يوم قتله عضد الدولة مصلوبًا، فنظمه لها، وهو لا يرتجي من ورائها فائدة، بل يوجس في نفسه الخيفة من أن يناله عضد الدولة بالعقوبة عليها، يشعر بأن الباعث له على إنشائها التلهف والإخلاص. ولو نظرت إلى القصائد التي يخاطب بها الشعراء الملوك تهنئة بانتصار أو فتح، وقستها بالقصائد التي يخاطبونهم بها تهنئة بعيد مثلاً، أو بمولود أو بناء قصر لوجدت الأولى أجود خيالاً؛ لأن انتصار الدولة مما يبذر في نفوس الأمة فرحًا، ويثير فيها عاطفة إجلال لمن جرى النصر على يده، وليست الثانية بهذه المكانة، إذ طلوع العيد على الأمير وازدياد ولد له، أو تشييده لقصر لا تهتز له نفس الشاعر حتى تطير به في جو الخيال، ويقتنص ما يلذه الذوق من بدائع الأفكار، وانظر إن رمت الوثوق بهذا إلى قصيدة أبي تمام التي يهنئ فيها المعتصم بفتح عمورية: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب فإنه ذهب بمعانيها مذاهب خيالية لا تطلع له على ما يحاكيها في القصائد التي لم يستفزه لها غير ما يرجوه من النوال. وكذلك الشاعر الذي يريد أن يتبرأ من جناية تعزى إليه، أو يحاول أن يزيل ما في نفس السلطان من ضغينة أو نية سيئة، فإنه يبتكر من المعاني ما لا يبتكره في القصائد التي يمدحه بها وهو مقبل عليه. ربما يخوض الشاعر في غرض إنما دعاه إليه مجاراة غيره ومباراته في مضمار البيان، فيبلغ مبلغ من انساقوا إليه عن إحساس وعاطفة نفسية، ويقع على تخيلات جيدة، ولكن أمثال هذه التخيلات تنهال على ذي التأثر النفسي بدون تعسف حينما يحتاج الآخر إلى أن يحث إليها قريحته ويجاذبها وهي كالمتعاصية عنه. *** بماذا يفضل التخييل عرف مما سبق أن التخييل يدور على انتقاء مواد متفرقة في الحافظة، ثم تأليفها وإبرازها في صورة جديدة، فيرجع فضله والبراعة فيه إلى ثلاث مزايا: إحداها: أن يكون وجه المناسبة بين تلك الجواهر، أعني المواد المؤلفة منها صورة المعنى، غامضًا، فمزية من يتخيل الكواكب أزهارًا باسمة في روضة ناضرة دون مزية من يقول: وضوء الشهب فوق الليل باد ... كأطراف الأسنة في الدروع فإن المشابهة بين الكواكب والأزهار لا تغيب عن كثير من الناس، أما التشابه بين النجوم وبين أطراف الأسنة اللامعة عند نفوذها في الدروع لا يحوم عليه إلا خيال بارع. ولا فضل لمن يرى الشمعة فيحاكيها بالرمح إذا قسته بمن ينظر إليها فيقول: كأنها عمر الفتى ... النار فيها كالأجل فإن محاكاتها بالرمح لا تكاد تخفى على ذي بصر، وإنما الخيال الفائق هو الذي ينتقل منها إلى العمر والأجل حيث يشعر بالمناسبة الدقيقة بينهما، وهو أن الأجل يدنو من الإنسان حيناً فحينًا، ويتقاضى عمره رويدًا رويدًا إلى أن تتقلص عنه أشعة الحياة كلهيب الفتيلة يدب في جسم الشمعة وينتقصها قليلاً قليلاً إلى أن يأتي على آخرها، وتذهب في الجو هباءً منثورًا. ثانيتها: أن يكون التخييل مبنيًّا على ملاحظة أمور متعددة، فالصورة التي يراعى في تأليفها ثلاثة معان مثلاً تكون أرجح وزنًا وأنفس قيمة من الصورة التي تبنى على رعاية معنيين، فمن الشعراء من يصور لك الرمح شهابًا ثاقبًا، فهل يحق لك أن تساويه بمن يخيله لك، ورؤوس الأعداء منصوبة على طرفه بالغصن يوم يكون مكللاً بالثمار؟ كما قال ابن عمار يخاطب المعتصم صاحب المرية: أثمرت رمحك من رؤوس كماتهم ... لما رأيت الغصن يعشق مثمرًا يقف الناس في تصوير الحرب بمعنى الرحى عند قولهم: دارت رحى الحرب، وكان عمرو بن كلثوم أبسطهم في هذا التخييل باعًا حيث يقول في وصف الحرب: متى ننقل إلى قوم رحاها ... يكونوا في اللقاء لها طحينا يكون ثفالها شرقي نجد ... ولهوتها قضاعة أجمعينا فالثفال: ما يبسط تحت الرحى ليتساقط عليه الدقيق، واللهوة: القبضة من الحب تلقى في فم الرحى لتطحنها، وقضاعة: هي القبيلة التي يهددها هذا الشاعر بالحرب الطاحنة، وكأني به عندما حضر في نفسه معنى الحرب انساق إليه معنى الرحى لما بينها من التشابه المعهود، ثم تنقل نظره من الرحى إلى ما هو من خواصها، فوقع على الثفال واللهوة، ثم انقلب إلى معنى الحرب وألقى نظره إلى ما حولها، فتراءى له ميدانها مبسوطًا كالثفال والرجال الذين يتهافتون عليها فتتناثر رؤوسهم وتتساقط أشلاؤهم على ذلك الميدان في صورة اللهوة، فصاغ الأبيات على هذا الوجه الذي يدل على حسن تصرف في ضم المعاني إلى أشكالها. والأدباء الذين أروك الحصى في صورة الدر ليسوا بقليل، وإنما المزية لمن اتسع في صورة هذا المعنى ونظر في تركيبها إلى أمور متعددة، فقال يصف واديًا: وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالاً ... ألذ من المدامة للنديم يروع حصاه خالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم كأني بالشاعر عندما صح فتح جفنه على الحصى وهي في ملاستها وصفاء منظرها انصرف خياله إلى ما يحاكيه من الجواهر النفيسة، ثم إلى حال تناسقها في هيئة قلادة، وتذكر بهذا موقعها من الصور، فخطرت على قلبه الفتاة، وشرع يتصور كيف تنظر إلى تلك الحصى فيهجم على ظنها بغتة أن قلادتها انفرطت، وأن ما تراه من الحصى إنما هو اللؤلؤ الذي كان متناسقًا في نحرها قد تساقط إلى مواطئ أقدامها، فلا تتمالك أن تضرب يدها على العقد حتى تحفظ البقية من السقوط، أو لتتيقن صدق ظنها فتسعى إلى التقاطها. ثالثتها: أن يجري الشاعر في استخلاص المعاني وتأليفها على ما يوافق الذوق السليم، فهو الحافظ لنظام المعاني، كما أن القواعد العربية تحفظ نظام الألفاظ، ومن الشعراء من تأخذه سنة عن هذا الشرط فيضع المعنى الخيالي على مثال تشمئز منه النفس، كما أن ناسج الثياب من غزل اختلفت ألوانه إذا لم يكن صاحب ذوق لم يحكم وضعها، وأخرجه في صورة تقذفها العيون، ومثال هذا أن أبا القاسم بن فرناس أنشد الأمير محمدًا أبياتًا يقول فيها: رأيت أمير المؤمنين محمدًا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر فقال له مؤمن بن سعيد: قبحًا لما ارتكبته جعلت وجه الخليفة محراثًا تثمر فيه البذور؟ فغشيه الخجل وجعل جوابه عن هذا النقد الصائب سبابًا، ووقع في مثل هذه الزلة كثير من كبار الشعراء، فهذا أبو تمام يقول في مدح أحد الأبطال: ضاحي المحيا للهجير وللقنا ... تحت العجاج تخاله محراثا فجعل ممدوحه محراثًا كما جعله هاذيًا حين قال: لا زال يهذي بالمكارم والعلا ... حتى ظننا أنه محموم وهذا بشار بن برد يقول: وجذت رقاب الوصل أسياف هجرها ... وقدت لرجل البين نعلين من خدي فإثبات الرقاب للوصل والرجل للبين من التخيلات المستهجنة. قد يخطر لسائل أن يقول: إن لهؤلاء الشعراء براعة مسلمة، وأذواقًا لا ترتاب في صحتها وصفائها، وقد مرت هذه المعاني التي رميتموها بسبة السخافة على أذواقهم فألقت إليها بالتسليم، أفلا يكون رضاهم عنها واستحسانهم لها شاهدًا ببراءتها مما تدعون من سماجة الوضع ومنافرة الذوق؟ والجواب أن القبح في هذه المعاني وما كان على شاكلتها محقق بما يجده الإنسان في نفسه من أثر الفكرة لها وعدم الأنس لسماعها، فضلاً عن شهادة فريق عظيم لا تقصر بهم سلامة الذوق والمعرفة بحرفة الأدب عن طبقة أولئك الشعراء، وهذا ابن رشيق يقول عقب إيراد البيت الأول من بيتي أبي تمام: (فلعنة الله على المحراث ههنا ما أقبحه وأركه) ، ولم يبق سوى النظر في عدم تنبههم لذلك القبح، وكيف خفي عنهم وجهه وهو كاشف لثامه حتى لا يمتاز بإدراكه في بعض الأبيات الأدباء عن غيرهم؟ والوجه في هذا أن البصيرة مثل البصر، والمشاهد للصورة عن عيان قد يفوته أن يحدق فيها من بعض الجهات، فلا يشعر بما فيها من عيب، فكذلك الشاعر قد يصوغ المعنى ولا يأخذه بالنقد من جميع أطرافه فيصدر على عوج قد يبصر به من هو أضعف بصيرة منه، والعلة في عدم تنبه الشاعر لذلك الخلل قصر المدة فيما بين إنشاء القصيدة وإراءتها للملأ بحيث لا يتمكن من تجريد نظره إلى كل بيت ونقد معناه من سائر وجوهه. وربما أصيب الشاعر من اعتماده على براعته ومكانة سمعته؛ إذ كثيرًا ما يستفيد الشاعر من المقام والشهرة التي يدركها بين قومه فيتلقون شعره باستحسان فوق ما يتلقون به شعر غيره ممن لم يقم لهم صيت، وإن كان في نفسه أبعد أمدًا وأحكم نسجًا، فكثرة الإجادة وسعة الذكر قد تؤثر في همة الشاعر في بعض الأحيان فيلقي القصيدة على علاتها ولا يحمل نفسه على التدقيق في نقدها، ومن ثم ترى أكثر الذين يقعون في هذه العثرات إن هم إلا كبار الشعراء، والمكثرون منهم كأبي تمام والمتنبي ومن كان في طبقتهم. ويؤكد لك أن سيئات الشعراء في هذا الصدد إنما لصقت بهم من جهة عدم نقدهم المعنى بعد أن تقذفه القريحة نقدًا وافيًا، إما لضيق الوقت أو اغترارًا بما ملكوا من البراعة وأحرزوا من الشهرة، أن أحدهم قد ترسل قريحته معنى فيقع منه موقع الإعجاب حتى إذا أعاد عليه النظر مرة ثانية انكشف له من مساويه ما يجعله في أسف على إذاعته، أو في ارتياح من عدم اطلاع الناس عليه. ومن المحتمل أن يصوغ الشاعر المعنى فتأخذ جهة الحسن بقلبه مأخذًا بليغًا، ثم يعثر في صورته على وجه من الخلل ولا يتمكن من تلافيه وإكمال نقصه إلا برفض الصورة من أصلها، وحيث يرى أن جهة الحسن أرجح، ويرجو أن تسبل على ذلك المغمز فضل ردائها، فلا يشعر به الناقدون يبقي صورة المعنى على حالها، ويجيزها للرواة، وهو بصير بعلتها، ولا أخال أن النابغة حين قال: نظرت إليك لحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود لم يخدش عاطفته أن يضع المحبوبة بمنزلة السقيم، ولكنه عز عليه أن يضرب عن هذا التشبيه الذي لا يلحق شأوه وإن وخزه لفظ السقيم في ضميره وخزات بالغة. ((يتبع بمقال تالٍ))