للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

اتخاذ بعض مسلمي جاوه الناقوس وفتاوى في ذلك

(س٣٩) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
حضرة علامة الزمان، ونور حدقة العرفان، القائم بإحياء شريعة سيد ولد
عدنان، العالم المحقق، والفاضل الكامل المدقق، الجامع بين المعقول والمنقول،
والمشيد أركان الفروع والأصول، سيدي وعمدتي وإمامي وقدوتي، السيد محمد
رشيد رضا، أدام الله وجوده وإنعامه وجوده آمين.
(ما قولكم دام فضلكم ونفعنا الله بعلومكم)
في أهل بلد يضربون الناقوس للإعلام بأوقات الصلاة المكتوبة ونحوها،ولا
يكتفون به عن الأذان والإقامة، ولم يقصدوا بذلك التشبه بالنصارى، بل لإنهاض
المسلمين للصلوات بسماع صوته، مع كونه صار معتادًا عندهم في بلادهم،
والنصارى قد تركوه بالكلية، هل يجوز لهم فعل ذلك أو لا؟ وهل يكفر فاعله أو لا؟
بينوا لنا حكمه بالجواب الشافي، فلكم الأجر من الملك الباري، سيدي.
(وقد رفعت هذه المسألة إلى بعض العلماء فأجاب بما صورته)
الجواب (١)
إن ضرب الناقوس لا يجوز بحال للنهي عنه، قال الشبراملسي نقلاً عن
ابن حجر ما نصه في سيرة الشامي: (اهتمّ صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس
للصلاة، فاستشار الناس، فقيل: انصب راية، ولم يعجبه ذلك، فذكر له القنع؛
وهو البوق، فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر
النصارى، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال: للمجوس، فقال عمر: أَوَلا تبعثون رجلاً
ينادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم أنت فناد بالصلاة) قال
النووي هذا النداء دعاء إلى الصلاة غير الأذان؛ إذ كان شرع قبل الأذان. قال
الحافظ ابن حجر: وكان الذي ينادي بلال الصلاة جامعة. اهـ.
وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس والأمر بالذكر ا. هـ. ع.ش وقد
عدّ الفقهاء ضرب الناقوس من المنكرات التي يمنع الكفار من إظهارها في بلاد
المسلمين، قال في المنهج مع شرحه: ولزمنا منعهم إظهار منكر بيننا كإسماعهم
إيانا قولهم الله ثالث ثلاثة، واعتقادهم في عزير والمسيح عليهما السلام، والناقوس
وعيد لما فيه من إظهار شعار الكفر ا. هـ وقال في النهاية: ويُتلف ناقوس أَظْهَرُوه.
اهـ. وحيث ورد النهي فيه بخصوصه، وصرح بأنه من أمر الكفار أي شعارهم،
وعده الفقهاء من جملة المناكر التي يمنعون من إظهارها في بلادنا، فكيف يجوز لنا
فعله وإظهاره ببلادنا وجعله من شعار ديننا، فما هو إلا مخالف للنهي وفعل للمنكر
والمنهي عنه، وجعل شعار الكفار شعارًا للمسلمين، ما أقبحه من شعار نهى عنه
صلى الله عليه وسلم وتركه الكفار وخلفهم فيه المسلمون، لكن مع حرمته لا يكفر
فاعله؛ لأنا لا نكفر أهل القبلة بالوزر، ولم أر أحدًا من العلماء قال بجوازه فيما
أعلمه من كتب المذهب، والعلم أمانة. وأما اعتياد الجاويين له مع عدم قصدهم
التشبه بالكفار، ومع ترك الكفار له فلا يصيره مباحًا؛ لأن ما ورد النهي عنه
بخصوصه، وصرح الفقهاء بتحريمه لا ينقلب مباحًا كما هو ظاهر، والخير كله
في الاتباع والشر كله في الابتداع. وأما ما اعتاده المسلمون في بعض البلاد
الجاوية من ضرب الطبل الكبير؛ لجمع الناس للصلاة، فلا بأس به؛ لأن كل طبل
مباح إلا طبل اللهو كالكوبة، وهذا ليس منه فهو مباح كطبل الحجاج. قال
الشرقاوي: الناقوس قطعتان من خشب أو نحاس أو نحو ذلك، تضرب إحداهما في
الأخرى للإعلام بأوقات الصلوات مثلاً ا. هـ فيعلم منه أن ما تضربه النصارى من
الصفر (أي النحاس) المجوف الكبير للإعلام بالساعات يكون من جملة الناقوس،
والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
... (٢) وأجاب بعض آخر بما صورته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم هداية للصواب، وإليه
المرجع والمآب. أما ضرب الناقوس للإعلام بدخول وقت الصلاة فحرام وإن كان
لغرض جمع الناس للجماعة؛ لأن هذا الداعي لا يقتضي تجويز ارتكاب الحرام،
بعد أن نهى الشارع عن الناقوس بخصوصه، وعين للإعلام الأذان المخصوص،
وحينئذ يجب منع الناقوس؛ لخصوصه الإعلام، يزاد في المؤذنين بقدر الحاجة،
وإلا كان في عدم المنع افتيات على الشارع، ويأثم الراضي به إن كان له قدرة على
إزالته ولم يزله، لكنه لا يكفر؛ إذ كل حرام لا يوجب الكفر، كما هو مذهب أهل
السنة خلافًا لما زعمه البعض من التكفير، فإنه زلة فاحشة وغلطة فاشية؛ لأن باب
التكفير خطر، والإقدام على الحكم به على أحد المسلمين أشد خطرًا أو أعظم جرأة
على ما حث عنه (؟) العلماء،وطوق عنان ألسنتهم عن المجازفة فيه والتعرض له،
ما لم يكن لفظ صريح أو فعل كذلك يدل على التكفير، ثم إن المقتضي لتحريم
الناقوس ليس هو التشبه بما هو من شعار الكفار، كما زعمه البعض الآخر المجوز
له، بل المقتضي له النهي فيه بخصوصه، فلعل المخلص من ارتكاب الحرام في
الناقوس هو أن يقوم الأذان على الناقوس، بحيث يصير القصد به الإعلام كما هو
الغرض، فإذا ضرب الناقوس بعد ذلك لقصد جمع الناس لا الإعلام بدخول الوقت،
فلا بأس به، والحالة ما ذكر والله أعلم.
... (٣) وأجاب بعض آخر بما صورته:
الحمد لله وحده، لضرب الناقوس نظائر كثيرة من البدع، بعضها حرام
وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام؛ لأن فيه بدعة وشبها لدين
الكفار، وأنه يجب على من له شوكة ومنزلة منع ذلك؛ لأن العوام قد يعتقدون أنه
مشروع مثل: الأذان والإقامة، فتأمل بإنصاف، والله أعلم.
وهذه الأجوبة التي نقلناها لكم بحروفها مما لا يشفي الغليل، وكيف لا
والحديث الذي ساقه المجيب الأول، لا تكون دلالته على المعنى قطعية، لا يحتمل
لفظه غير هذا المعنى، والنهي إنما يكون للتحريم إذا كانت دلالته على المعنى كذلك
كما في الأصول، وقد قال ع. ش؛ وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس
والأمر بالذكر ا. هـ وهو لم يصرح بأن النهي للتحريم، ولو عمل عليه فسياق آخر
كلامه من قوله والأمر بالذكر مانع عنه؛ لأن الأمر ليس محمولاً على الوجوب؛
لأنه إنما يكون للوجوب إذا كانت دلالته قطعية كما في النهي، وإن قول المجيب
الثاني: ثم إن المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبه إلى أن قال: بل المقتضي
له النهي فيه بخصوصه صريح في أن ذات الناقوس حرام، وقوله: فلعل المخلص
إلى آخر جوابه صريح في أنها ليست بحرام، فتعارضا، وإذا تعارضا تساقطا فلم
يكن في الجواب نتيجة، وإن قول المجيب الثالث: لضرب الناقوس نظائر كثيرة
من البدع بعضها حرام وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام فيه
غموض يحتاج إلى البيان، وكيف لا، وإنه لم يصرح للقياس بأنه أعلى أو أدنى أو
مساو، وإنه لم يذكر المقيد حتى يعلم مما ذكر، وإن العلة التي ذكرها صريح في
أن علة التحريم هي المشابهة لدين الكفر، وقد عارضه المجيب الثاني بقوله: ثم إن
المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبيه إلى آخره، على أن العلة التي ذكرها
فيها تساهل؛ لأنه علل البدعة بكونها بدعة، فهو من تعليل الشيء بنفسه، فحكمه
لا يخفى على من له أدنى مسّ في علم الأصول، فمن فيض مولانا أن تفتونا
بالجواب، فلكم الأجر والثواب، من الملك الوهاب.
... ... ... ... ... ... ... من الحقير الراجي القبول
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحافظ الجاوي
(ج المنار) ما كان يخطر على بالي أننا وصلنا من الجهل بالمسائل
العملية والشعائر المعلومة بالضرورة من ديننا إلى حيث صرنا نعد ضرب
الناقوس في مساجدنا مسألة نظرية، يستفتى فيها المفتون، فيجعلون عهدتهم
كلام مثل الشبراملسي، يستنبطون منه الحكم، ثم تكون فتواهم موضع النظر
ومحل النقد والبحث.
يا رباه! ما هذا التناقض في العقائد والعبادات والآداب الذي ابتلي به
المسلمون منذ انحرفوا عن هداية كتابك العزيز وسنة نبيك الكريم، إنهم يتركون
العلوم والفنون والصناعات الواجبة عليهم لحماية دينهم وملكهم؛ لأن غيرهم سبقهم
في هذا العصر إليها، ويزعمون أنهم بتعلمها والانتفاع بها يكونون متشبهين بالكفار،
ثم إنهم يتخذون نواقيس الكنائس في مساجدهم، ويعدون ذلك من المسائل
الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار، فيترك بعضهم أخذ الحكمة التي هي ضالة
المؤمن عن غير أبناء دينهم، ويأخذ بعض آخر منهم شعائر الدين نفسها عن أولئك
الأغيار!!
إن الله تعالى أخبرنا بأنه أتم دينه وأكمله، فلا يجوز إذًا لأحد أن يزيد فيه ولا
أن ينقص منه برأيه الذي يسميه قياسًا أو غير ذلك من الأسماء، والزيادة والنقص
أو التغيير في الشعائر أغلظ من مثله في أعمال الأفراد في خاصة أنفسهم، وأغلظ
ذلك ما كان موافقًا لعبادة غير المسلمين؛ كاتخاذ الناقوس للإعلام بالصلاة. ولا
يجوز أيضًا ما ليس كذلك؛ كاتخاذ الطبل للإعلام بها. كل ذلك بدعة في الدين،
وكل بدعة فيه ضلالة. وأما البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة فهي البدعة في
الأمور الدنيوية والاجتماعية، وإن كانت مفيدة في تأييد الدين؛ كالفنون اللغوية
والرياضية والطبيعية.
الفتاوى التي أوردها السائل صواب في جملتها وحاصلها، ولا أدخل معه في
باب مناقشة أصحابها في عبارتهم، فإن أمثال هذه المناقشات والاستنباط من كلام
المؤلفين والمفتين وجعلها كنصوص الشارع؛ هو الذي جعل أكثر كتب المتأخرين
مملوءة باللغو مبعدة عن حقيقة الدين.
لا موضع للمراء في كون ضرب الناقوس للإعلام بالصلاة بدعة في عبادة
هي أظهر شعائر الإسلام، فمثل هذا لا يحتاج القول بتحريمه إلى دليل؛ لأنه معلوم
من الدين بالضرورة، والأدلة العامة عليه كثيرة، كقوله تعالى:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١)
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أحمد ومسلم: كل بدعة ضلالة وكل
ضلالة في النار وتقدم المراد بالبدعة آنفًا، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث
الصحيحين عن عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) والمراد
بأمرنا أمر ديننا، فلا يرد ما قاله بعضهم في سائر الأحداث أنها تعتريها
الأحكام الخمسة، بل العموم في الحديث على ظاهره.
على أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن جعل شعار ديني للنصارى شعارًا دينيًّا
للمسلمين من غير قسم الحرام. وإلا لجاز تغيير جميع شعائر الإسلام، والجمع بين
الكفر والإيمان.
هذا، وإن من أراد أن يأخذ من كلام الفقهاء ما يستدل به على ردة من
ضرب الناقوس، مستحلًّا له في مثل واقعة السؤال، فإنه لا يعوزه ذلك من كلامهم،
وقد كفر بعضهم من عمل ما هو دون ذلك. وناهيك بابن حجر الهيتمي الذي هو
عمدة أهل جاوه في دينهم، فإنه شدد في المكفرات تشديد الحنفية، كما يعلم من
كتابه (الإعلام في قواطع الإسلام) فإنه ذكر كثيرًا من المكفرات باللازم القريب بل
البعيد جدًّا. وما لنا وللتكفير والمتوسعين فيه، حسبنا أن ننكر هذه الضلالة أشد
الإنكار، ونحث كل من يصل إليه صوتنا في تلك البلاد على إزالتها ما استطاع إلى
ذلك سبيلاً.
***
(عبادة نهر في البحرين برؤيا امرأة)
(س٤٠) من صاحب الإمضاء بجزيرة البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الفاضل صاحب المنار المنير أدام الله وجوده.
ثم سلام الله عليك ورضوانه، وبعد، فقد حدث في بلادنا توًّا حادث يستحق
الذكر، وذلك أن امرأة من عامة المسلمين ادعت أن أحد المشايخ أو الأولياء على
زعمها، أتاها في المنام وأخبرها أنه على مسافة نصف ميل من البلاد يوجد نهر
جار (وهو كذلك إذ إن هذا النهر معروف من القدم) وعلى حافة النهر يوجد
صخرة كبيرة (وهذه أيضًا مشاهدة منذ حين) وإنه ضرب بيده تلك الصخرة،
فتفجر منها الماء العذب، وأمرها أن تخبر أهل البلاد كي يأتوا ويغتسلوا ويشربوا
من هذا الماء لأن كل من شرب أو اغتسل منه برئ من جميع العلل والعاهات.
وبالفعل إن هذه المرأة أخبرت أهل البلاد بذلك فصدقها كثير من الناس، وذهبوا إلى
ذلك النهر، وأخذوا يغتسلون ويشربون منه، وينقلون منه إلى القرى المجاورة،
وبسرعة البرق انتشر هذا الخبر بأطراف البلاد، فتهافت الناس على هذا النهر
كتهافت القطا، وعكفوا عليه عكوفهم على الحجر الأسود، معتقدين فيه كاعتقادهم
بالله، حتى كثر الضجيج والازدحام عليه بما يفوق حد التصور، حتى أصبح هذا
النهر الصغير في بلادنا شبيهًا بنهر الكنج بالهند. ولقد ذهبت بنفسي مع بعض
الأصدقاء لمشاهدة ذلك، ولكثرة الزحام لم أقدر أن أتصل بذلك النهر إلا بعد شق
النفس، فرأيت أن النهر لم يتغير عما كان عليه سابقًا، ولقد رثيت لحالة بعض
الأطفال الذين يكادون يموتون غرقًا؛ لكثرة ما تغطسهم أمهاتهم في الماء؛ ابتغاء
البركة والتقديس، فما قول سيدي الأستاذ في ذلك؟ وهل الشرع يبيح مثل هذا؟
وهل من العدل أن يترك هؤلاء العامة على ضلالهم؟ أجيبوا عن ذلك على صفحات
مناركم الزاهر؛ أدامكم الله نبراسًا يهتدي به من ضل عن محجة الصواب. واقبلوا
في الختام فائق احترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ناصر مبارك الخيري
(ج) حاش لله، لا يبيح دين التوحيد هذه الضلالة بل الوثنية الظاهرة، وما
حيلتنا والمسلمون قد لبسوا دينهم مقلوبًا، فأنكر كثيرون منهم النفع والضرر عن
طريق الأسباب؛ زعمًا منهم أن ذلك ينافي التوحيد الذي يقصر النفع والضرر على
الخالق عز وجل؛ ولذلك قصّروا كلهم في علوم هذه الأسباب التي قوي بها غيرهم،
حتى سلبهم ملكهم، والأسباب لا تنافي التوحيد بل تؤيده؛ لأنها سنن الله تعالى.
ولكن الذي ينافيه هو التماس النفع ودرء الضر من المخلوقات التي جرت سنة الله
بجعلها أسبابًا عامة لذلك، وهو ما فشا فيهم بتوسعهم بما سموه الكرامات، فقدسوا
الأنهار والأشجار والأحجار، وطلبوا منها جلب المنافع ودرء المضارّ، وهذه هي
الوثنية الجلية بعينها، فتقديس نهركم ليس بالأمر الذي لا نظير له عندهم، بل له
نظائر في جميع الأقطار الإسلامية أو أكثرها.
جعل الحجر الأسود في الكعبة مبدأ للمطاف؛ لكيلا يختل النظام بطواف
الناس من أماكن مختلفة، فيختلط الحابل بالنابل، فصار بذلك من شعائر الحج، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم عنده: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع وكذا
أبو بكر رواه ابن أبي شيبة والدارقطني، وقال مثل ذلك عمر جهرًا (رواه
الشيخان) ونحمد الله أن صان المسلمين من عبادته بطلب النفع منه والاستشفاء به،
وصان بيته من الشرك أن يعود إليه. فإذا كان هذا الحجر الذي لمسه أفضل
الأنبياء والمرسلين من إبراهيم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام لا ينفع ولا يضر،
فكيف ينفع أو يضر مثل عمود الرخام المعروف في المسجد الحسيني بمصر، وهو
لا يمتاز عن غيره من العمدة التي هناك ولا عن غيرها، أوينفع ذلك الماء الذي
صور الشيطان لتلك المرأة الخرقاء في نومها أنه جرى كرامة لولي من الأولياء.
إن موسى كليم الله عليه السلام قد ضرب بعصاه الحجر، فانفجر منه الماء،
فشرب منه بنو إسرائيل. ولكن لم يعبدوه ولم يستشفوا به، ولم يتبركوا به، ولم
يقدسوه لا بأمر موسى ولا باجتهاد منهم؛ لأن ذلك يهدم التوحيد الذي جاء به موسى،
فكيف يبيح دين التوحيد أن يقدس ماء ليس له مثل تلك المزية، بل ليس له مزية
ما على غيره بدعوى تلك الرؤيا الشيطانية.
أما والله لو رأيت بعيني من أعتقد أنه من أولياء الله الصالحين ضرب صخرًا،
فانفجر منه الماء لما قدست ذلك الماء، ولا استشفيت به لأجله. وإني لأعلم أن من
الماء ما هو سبب لشفاء بعض الأمراض لمعادن تتخلله، ولكن لا يوجد في الدنيا
شيء ينفع أو يضر كرامة منصوبة لأحد من الأولياء.
لو كان في الدنيا شيء ينفع لأجل من اتصل به من الصالحين، وكان طلب
النفع منه مشروعًا، لكان أولى الأشياء بذلك الحجر الأسود، وقد علمت ما ورد فيه
ثم الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أصحابه الكرام بيعة الرضوان،
وقد قطعها عمر رضي الله عنه وأخفى أثرها بإقرار الصحابة كلهم؛ لما علم أن
بعض من لم يفهم الإسلام بدأوا يتبركون بها. ومن المصائب أن صرنا محتاجين
إلى إقناع المسلمين بالتوحيد، وأن نرى من الصعب أن يقتنعوا به، فهل يستغرب
مع هذا أن يظهر فيهم الدجال ببعض هذا الغرائب التي يسمونها كرامات، فيخضع
له الكثيرون.
***
صعود السيد المسيح إلى السماء

(س٤١) من صاحب المضاء بصيدا
حضرة العلامة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا حفظه الله.
(١) هل صعد السيد المسيح إلى السماء بجسمه أم بروحه.
(٢) هل نزوله في آخر الزمان إلى الأرض، وحكمه بالشريعة المحمدية
مأخوذ من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، أفيدونا نفعنا الله
بعلمكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد المشتركين
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد إسماعيل القطب
أما الصعود فلم يذكر في القرآن، وإنما جاء فيه لفظ الرفع، قال تعالى:
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: ١٥٧-١٥٨) كما قال في إدريس
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: ٥٧) وقد أسند الرفع إلى الله تعالى للإشارة على أنه
ليس للمرفوع فيه كسب ولا اختيار، وهو يحتمل الرفع المعنوي؛ كقوله تعالى في
الذي آتاه آياته فانسلخ منها {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الأعراف: ١٧٦) ولم يقل أحد
إن المراد لرفعناه بجسمه. والجمهور يقولون: إن عيسى رفع بروحه وجسده، قيل
بعد وفاته، وقيل قبلها، والله أعلم.
وأما نزوله في آخر الزمان، وحكمه بالشريعة المحمدية، وكسره للصليب
وقتله للخنزير، فليس لها نص في القرآن، وإنما وردت بذلك أحاديث روى
بعضها الشيخان، والله أعلم.
***
(إتيان الزوج في غير المأتى)

(٤٢) من أحد المشتركين في جدة
ملخص السؤال أن أحد مدرسي الشافعية في جدة، ذكر في درسه أن إتيان
الرجل امرأته في غير موضع الحرث من الذنوب الصغائر. فأجابه أحد السامعين
بكلام خلاصته أنه لا يجوز إفشاء هذا النص؛ لئلا يتجرأ به الجاهل على هذه
المعصية التي وردت في النهي عنها الأحاديث الشريفة، ونص عليها الشافعي نفسه
في الأم، وما ورد فيها يدل على أنها من الكبائر. فاستاء المدرس واستفتى في ذلك
مفتي الشافعية بمكة المكرمة فأفتى بإقراره على ما قرر، وبزجر المعترض وتعزيره.
قال سائلنا: (وحيث وجد في الصحاح وفي الأم للإمام الشافعي ما يخالف ما
أورده المدرس المذكور، حصل إشكال عند طلبة العلم، ولهذا قدمنا إلى فضيلتكم
السؤال والجواب، ونسترحم إمعان النظر فيهما وبيان الحقيقة بنشرها في مجلتكم
الغراء؛ لإزالة الإشكال الواقع، والرد على الضلال المبين المخالف لأحاديث سيد
المرسلين) ... إلخ.
(ج) إننا نعهد أن عمدة الشافعية من أهل الحجاز واليمن وحضرموت
وجاوه في المذهب كلام ابن حجر المكي الهيتمي، وهذا قد صرح في الزواجر بأن
هذه المعصية من الكبائر؛ مستدلاًّ بما ورد في الأحاديث من الوعيد والتشديد فيها،
ومنه تسميتها في الحديث كفرًا، ولعن فاعلها. وهذا بناء على ما اعتمده في تعريف
الكبيرة، فما بال ذلك المدرس ترك في هذه المسألة ما جزم به ابن حجر في
الزواجر، وهو خير كتبه؟ وما بال مفتي مكة شايعه على ذلك؟ لعل بعض
الشافعية لا يعتمدون بما يحققه ابن حجر في الزواجر؛ لأنه يستدل عليه بالكتاب
والسنة، وما أظن أن مفتي مكة يعد أفضل مزية لهذا الكتاب سببًا لعدم الاعتماد
عليه، ولا ندري ما هي الحكمة له في نصر ذلك المدرس في هذه المسألة.
هذا، وإنه ينبغي للمدرس وللمفتي أن يتحرّيا ما هو الأقرب إلى هداية
المتعلمين والسائلين بترك المنهيات وفعل المأمورات، وعلى هذا كان ينبغي إما
التصريح بأشد ما قاله العلماء في هذه المعصية، وإما السكوت عن تسميتها صغيرة
أو كبيرة، فإن هذا بحث علمي لا حاجة إلى ذكره في دروس العوامّ. على أن كون
المعصية تسمى صغيرة بالنسبة على غيرها أو باعتبار آخر لا يقتضي أن يستهان
بها، ويتجرأ على ارتكابها، ولكن العوام وأصحاب الأهواء يتجرءون بمثل هذا
على المعصية. وقد بينا في التفسير معنى الكبيرة والصغيرة بما يقطع عرق الغرور
والجرأة على ما يسمونه الصغائر. ولا أحب أن أخوض في أدلة واقعة السؤال في
المنار.