رسالة من مراسل جريدة (الأخبار) في الآستانة في يوم ١٠ ديسمبر ١٩٢١ وردت الأنباء تلو الأنباء عن مقتل الصدر الأعظم الأسبق سعيد حليم باشا في روما، فتأثرت جميع المحافل السياسية التركية، والرأي العام العثماني مِن هذه العاقبة الفاجعة التي لقيها المرحوم، وقد أفاضت الصحف المحلية في ذكر المرحوم، وتاريخ حياته، وتبارى كبار الكُتاب العثمانيين في نشر المقالات عنه، وعن سياسته، وقد اتفقت جميع الآراء حول نقطةٍ أساسيةٍ هي التأثر لما أصاب المرحوم مِن مفارقة الحياة الدنيا مضرجًا بدمائه، بعد أن قضى شطرًا مِن آخر سِنِيه معتقلاً في مالطة وشطرًا قبله مسجونًا بأمر الديوان الحربي العرفي في الآستانة. لا ريب أن الحياة التي قضاها سمو الأمير المرحوم سعيد باشا - منذ عقد الهدنة - حياةٌ مُرةٌ، كئيبةٌ، مؤلِمةٌ، لا تطاق، وقد ذاق سموه خلالها مِن أنواع المهانة، والعذاب ما جعل خصومه وأنصاره يتحدثون في التماس تخليصه مِن تلك المصائب، بيد أن الحياة التي قضاها المرحوم في مقام الصدارة العظمى منذ تولاها بعد مقتل المرحوم محمود شوكت باشا - كانت مِن أعز الأيام التي مرت عليه في حياته، ويصح أن يقال إنه كان آخر الصدور العظام الذين سمح لهم الزمان بأن يتمتعوا بأبهة مقامهم. ولقد كان لموكب سموه فخامةٌ وعظمةٌ تسترعي الأنظار، بل تأخذ الأبصار؛ إذ يهبط مِن الباب العالي إلى الجسر ليتقدم إلى قصر السلطنة، حيث كانت جياد الفرسان التي تتقدم عربته تدعو الناس بوقع أقدامها الموزون أن يتنحّوا عن الطريق، ويعطلوا مسيرهم تحيةً لصدر الزمان، واحترامًا لناظم أمور السلطان. فالقدر قد خبَّأ للصدر الأسبق حياةً تنسَّمت شواهد العز والمجد، ثم هبطت وهبطت، حتى تجندلت برَصاصةٍ فتَّاكةٍ. للصدر الأسبق شخصية سياسية، وشخصية فكرية، وشخصية ثالثة اكتسبها باستشهاده برصاصةٍ خائنةٍ. أما شخصيته السياسية فلعلها أضعف شخصياته، ولم نصادف أحدًا يمتدح هذه الشخصية، أو يذكرها مقرونة بحركةٍ سياسيةٍ أو توفيقٍ سياسيٍّ يستحق عليه المرحوم ثناءً خاصًّا، بل إن خصومه وأنصاره متحدون في اتهامه بضعف الإرادة، والتوغل في الغرور، والحرص على الجاه إلى حدٍّ ينسيه مهام واجباته، ووظائفه السياسية، بل إلى حدٍّ يجعله على غير علمٍ بما يحدث مِن الحوادث الخطيرة التي يتعهد مسئوليتها إزاء الأمة، وإزاء ضميره وربه. بل إنهم يقولون إنه كان قد ألقى زمام الأمور إلى أيدٍ أخرى على أنها إنما أُلقيت إليه، وهم يضربون لذلك مِن الأمثال أنه لم يكن له علمٌ بحادثة البحر الأسود التي كانت سببًا لدخول الدولة الحرب العامة، ولا بحوادث الإبعاد، ولا بغير ذلك، ثم إنهم يتهمونه بمخالفة مبادئه طمعًا في البقاء في كرسي الصدارة، ويبرهنون على ذلك بأنه استقال على إِثْر دخول تركيا في الحرب لمعارضته لها، ولم يلبث أن عاد في استقالته بلا مبررٍ! ، بل قد تحمل مسئولية إعلان الحرب أيضًا، بالرغم مما أبداه مِن شدة المخالفة لها، ومما تكفل به لدى الدول مِن أن تركيا لن تدخل الحرب ما دام على رأس حكومتها. أما ضعف إرادته وتحمُّله ما لا قِبَلَ له به، فيقولون في الشواهد عليه إنه على كونه كان يعلم أنه لن يستطيع أن يكبح جماح طلعت باشا أو أنور باشا بتدبيره وكياسته على كونه رأى بعينيه أنهما لم يتركا له إلا التمتع بلقبه، والاسترسال في أُبَّهته وفخامته - قد رضي أن يشاركهما في أعمالهما، وأن يذلل إرادته لإرادتهما، وأن يتقبل كل ما عملاه! ومن الصعب أن يتصدى الإنسان للدفاع عن سعيد باشا إزاء هذه الأمور التي تُعزى إليه، لكننا إذا قرأنا شيئًا مِن تصريحاته على إثر عقد الهدنة لدى الشُّعبة الخامسة مِن مجلس المبعوثين (أي الشعبة التي قامت للتحقيق في قضية المسئولين عن الحرب، وتهيئتهم للمحاكمة أمام ديوانٍ عالٍ) - ظهر لنا أن أولئك الخصوم على حقٍّ فيما يقولونه عن هذه الشخصية السياسية. قال المرحوم إذ ذاك: لما علمت بحادثة البحر الأسود قلت لزملائي: إنكم تلعبون بحياة البلاد، وبما أني المسئول عن إدارة البلاد فلا يمكنني أن ألبث على رأس واجبي لحظةً واحدةً، وقد قدمت استقالتي على أثر ذلك. نعم، إنهم يقولون الآن لماذا لم ينسحب بعد الاستقالة؟ ! ، لقد فكرت إذ ذاك، ولم أوافق على الانسحاب في وقتٍ خاضت فيه البلاد غمار المصائب. ولو لم أفكر في ذلك لخلصت نفسي، ولكنني لم أَرَ أن أنسحب، والبلاد تمخر في عباب المصائب؛ ولهذا فإنني رضيت أن أسحب استقالتي لما كلفوني ذلك على شرط أن أقدم الترضية للذين تمسهم هذه الحادثة، وأن أتلافى ما حدث، وإذ قبلوا هذا الشرط راجعت الدول المحالفة في الحال، وأرسلت إليها بلاغًا نشرته نظارة الحربية عن كيفية وقوع الحادثة، وقلت لهم إن ما حدث كان قضاءً وقدرًا. ونحن نرضى أن تقوم لجنةٌ بتعيين ما حدث مِن الخسائر، وأن نقدم الترضية اللازمة حتى تعد الحادثة كأن لم تكن، وإنما لم تثمر هذه المساعي؛ لأن الدول المتحالفة أرادت أن تحل المسألة حلاًّ تامًّا، والحال أني كنت أظن أنها تتقبل ذلك المسعى بسهولةٍ؛ إذ كانت تريد منا أن نلازم الحياد، كما أني كنت أشعر بذلك من أقوال السفراء، لم تتقبل الدول المتحالفة مسعاي، بيد أني لم أقف عند ذلك الحد، بل جمعت الوزراء وأعضاء اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد في بيتي، وقلت لهم: (الآن قد وجب علينا أن نحافظ على حيادنا فعلاً بالمحافظة على حدودنا لا غير) ، ولكن لم ينفع كل ذلك، وأنتم أعلم بالنتيجة، وتدل تجاربي الآن على أن مقام الصدارة لا حول له ولا طَوْل، بل هو في يد الوزراء الذين يفعلون ما يشاءون دون أن يكون للصدر علمٌ بما يفعلون. أما سبب بقائي في الصدارة بعد استقالتي - فهو أني رأيت أن الصدارة لا تفوَّض إلى أهلها بعدي؛ ولهذا تقع البلاد في المهالك، كما أن الذين أثق بهم كانوا يقولون لي: (لا تنسحب، وإلا ساءت الأمور، وهم يحترزون منك) ؛ لهذا بقيت في الصدارة. لا ريب أن المرحوم سعيد حليم باشا قد أعطى بأقواله - أو باعترافاته هذه - سلاحًا قاطعًا لخصومه، كما أفشى سرائر إرادته، وحقيقة ضعفه. *** آراؤه في المتفرنجين وغوائل المدنية الغربية وفوائدها للمسلمين: وأما شخصيته الفكرية فإن للمرحوم آثارًا جليلة تبرهن على فكره وتضلُّعه في التفكير في أهم الشئون الإسلامية الاجتماعية. وقد انتشرت جميع آثاره في مجلدٍ واحدٍ، وكان لها تأثير عميق في المحافل الفكرية والعلمية. فمن ذلك رسالة في (الضيقة الفكرية) العثمانية، بحث فيها في موضوع حلول الأفكار الغربية في الرءوس الإسلامية، وتأثير ذلك في حياتهم الفكرية، ثم أفاض في شرح ما يعوز المسلمين أخذه، واقتباسه مِن المدنية الغربية لإحياء المدنية الإسلامية، وإعلاء شأنها كَرةً أخرى. وقد أنحى باللائمة في مؤلَّفه هذا على المفتتنين بالغرب المنتظرين منه كل شيءٍ، الساعين لهدم كل ما بَنَتْه المدنية الإسلامية لاستبداله بما يروق لأعينهم في الغرب، وقد شبه المفتتنين بالمدنية الغربية بهذا التشبيه: (حال المفتتنين بالغرب كحال الذي توغل في مطالعة الكتب الطبية رجاء أن يتوقى الأمراض، فإذا هو كلما طالع بابًا رأى نفسه معلولاً بمرض، فلا يخرج ذلك المطالع مِن أبواب الكتب إلا وهو يعتقد أن الحياة عبءٌ ثقيلٌ، واضطرابٌ مديدٌ يتحمله الإنسان تحملاً غريزيًّا. وهؤلاء المفتتنون بالغرب مِن المفكرين يدرسون العلم أملاً في مداواة أمتهم، فإذا بهم يرونها مصابة بأفتك الأمراض، ولا يكون حالهم معها إلا كحال المتوغل في الطب الذي لا يخرج منه إلا كئيبًا كاسف البال، ذلك بأن معلوماتهم قائمة على غير أساسٍ طبيعيٍّ، أي أنها قائمةٌ على جهل النفس؛ فلذلك يختلط المرض، ويكتسب شكلاً خاصًّا به. ثم إنه استرسل - في شرح تلك الحال - فقال: (للمعلومات التي يتلقاها أولئك المفتتنون بالغرب قيمة فردية؛ إذ ينشأ مِن بينهم الأطباء، والمهندسون، وغيرهم، ولكن لا تكون لها قيمةٌ اجتماعيةٌ؛ لأن العلم لا يفيد إلا إذا اقترن بالقياس، والإنسان بمقايسة الأشياء يفهم الأمور الكونية، ويدركها وينظم أموره بمقتضاها، والعلم معناه القدرة على القياس، فإذا لم نحصل على المعلومات التي نستطيع بها أن نقارن بين هيئتنا الاجتماعية، والهيئات الأخرى لم نَرَ النقائض، والفروق، ولم نتعرف مواقع الداء فينا، ومهما قارنَّا بين الأمم الأجنبية التي تَفُوقنا في الرقي - ووصلنا إلى نتائج علمية منطقية - فلا ننتفع من ذلك ألبتة. ثم إنه زاد آراءه إيضاحًا بقوله: (إن تقاليد الأمم ومشخصاتها يتكون منها الوطن المعنوي الذي هو أعز بكثيرٍ مِن الأرض الثمينة التي نعيش عليها؛ لأنها هي العوامل التي تجعل كل جماعة إنسانية أمة، والأمة التي تتسلَّط عليها الأمم الأخرى يضيع استقلالها كما تضيع تقاليدها ومشخصاتها، على أنها لا تضطر إلى المهاجرة مِن أرضها، بل لا تنفك تنتفع منها، فالانصراف عن الوطن المعنوي أضر شيءٍ على البلاد، نعم، إن الزمان لا يقاومه شيءٌ، ولا بد أن تنهج تلك التقاليد والمشخصات سبيل الكمال ككل شيءٍ، وإنما ينبغي ألا تصرفنا تلك الحقيقة عن تقوية رابطتنا بها، وبذل المجهود للمحافظة عليها، فإن تلك الرابطة لا تهن حتى تضمحل تلك التقاليد والمشخصات وتكون نتيجة ذلك السقوط والهوان. فالضيقة الأليمة التي حلت بأفكارنا ناجمةٌ مِن قبولنا المدنية الغربية بلا قيدٍ، ولا شرطٍ، ومِن نسياننا مدنيتنا، ولا تزول هذه الضيقة إلا إذا أدركنا ذلك الخطأ الفاحش، وأقدمنا على تصحيحه. هنالك نتأمل في شخصيتنا، ونقضي حياة خاصة بنا، كما تكتسب أرواحنا وعقولنا ما كانت تحظى به مِن انشراحٍ، واطمئنانٍ، وترتقي استعداداتنا في حال طبيعية، وتبدأ بيننا حركةٌ فكريةٌ مثمرةٌ نحصل منها على الأسباب التي نداوي بها جراحنا) . وأما ما يرى المرحوم أن نقتبسه مِن الغرب لترقية مدينتنا، والانتفاع به في تكامل قوة إمعاننا، وفكرنا، واجتهادنا وتعلمنا فهو (الفكرة الفنية) و (أصول التجربة) . وللمرحوم مؤلَّفٌ آخر عن (حقيقة التعصب) بحث فيه عما يُعزى إلى المسلمين مِن صفة التعصب، وقد أشبع الموضوع بحثًا وتعمقًا، وأوضح أن علة هذه التهمة هو سقوط مستوى الأمم الإسلامية عن الأمم الغربية لا غير، ثم ختم كلامه بقوله: (لقد آن أن يعلم الجميع أن ما يعلنونه مِن النفور مِن تعصبنا ليس في الحقيقة ناشئًا مِن نقص قوانِيننا الاجتماعية أو بطلان عقائدنا الدينية، بل إن خصومة الغرب للشرق ناجمة عن عجز الصليبيين عجزًا نهائيًّا عن محق الشخصية الإسلامية التي حالت دون تحقق مطامعهم الدينية في الشرق كسدٍّ منيعٍ دون تمكن الأوروبيين مِن تطبيق سياسة التمدن الغربي فيه (!) وكل ما يخيف الأوروبيين منا، ويضطرهم إلى استعمال سياسة العسف والجور فينا، إنما هو تغيُّظهم من تلك الشخصية المعنوية المجهزة بالتعاضد والتوكل، أجل، إن صبر أوروبا ينفد أمام هذه الشخصية التي تفترق عن أية شخصيةٍ أخرى بغاياتها الحيوية، والتي تجدُّ، وتكافح بالرغم من ظواهرها الخارجية، وتقف أمام بغي الغرب، وفتوحاته الاستعمارية وقفة المعارض، والتي تجني الصبر والقوة مِن غِرَاس الحرمان والخسران، وتعتقد أنها لا بد أن تتخلص يومًا ما مِن أَسْر الغربيين، كما تؤمن - بملء قلبها - باستحالة أن يتمكن الغرب مِن محقها أبدًا. فليس معنى تعصب الإسلام عداء المسلمين للمسيحيين، بل عداء الغربيين للشرقيين) . وللمرحوم مؤلَّفات أخرى (كالضائقة الاجتماعية) ، و (أسباب انحطاط الأمم الإسلامية) و (الدستور) و (الأخذ بمبادئ الإسلام) وهي مؤلفات تتضح منها شخصيته الفكرية، وتتجلى في أحسن صورة. - وأما الشخصية الثالثة التي اكتسبها المرحوم باستشهاده وصعوده إلى ربه مجروحًا مضرجًا بدمائه - فإنها قد كللت حياته بإكليلٍ مِن المجدِ، ورفعته إلى مصاف البررة الكرام، وجمعت الكلمة حول تبجيل ذكراه. وعلى كل حالٍ فقد فقدت الدولة رجلاً تربع في منصب الصدارة في أحرج أيامها التاريخية، ولا شك أنه كان مخلصًا لبلاده ساعيًا لخيرها. (عمر) . (المنار) نشرنا هذه الترجمة المفيدة بحروفها، بل مع تصحيح لبعض عباراتها اللغوية، وهي مؤيدةٌ لرأينا الذي سبقنا إلى بيانه في المنار عقب عودتنا مِن الآستانة في خطر زعماء جمعية الاتحاد والترقي على الدولة والإسلام، وقد صار هذا مِن الأمور المتفق عليها في بلاد الترك، والعرب، والعجم، وإن كانت لا تزال خفية عن أكثر مسلمي مصر وتونس، مع إكبارهم لشأن مصطفى باشا كمال، وشيعته المنقذة للدولة والشعب التركي؛ فإن هؤلاء الجاهلين بحقيقة أحوال الدولة - على إخلاصهم في حبها - لا يصدقون أن مصطفى باشا كمال لا يأذن لأحدٍ مِن زعماء الاتحاديين بدخول الأناضول، وأنه هو وجميع شيعته يعتقدون أنه لم يجنِ أحدٌ مِن البشر على الدولة العثمانية، والشعب التركي في دينه ودنياه كجنايتهم، وهؤلاء وأشباههم هم الذين كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد على الاتحاديين وغيرهم مِن رجال الدولة، ولم يعترفوا بظلمه واستبداده إلا بعد خلعه. ولسنا نريد بهذه الكلمة إقناعهم، بل تذكير المستعدين للفهم والحريصين على العلم بالحقائق - بأن يتدبروا كل ما يقوله أهل البصيرة والعلم، ولا يستعجلوا برد كل ما يخالف أهواءهم، ومعلوماتهم الناقصة، وإن كانوا حَسَنِي النية فيها. وأما آراء الأمير الاجتماعية، فلو لم يكن له منها إلا هذه الكلمات المختصرة- التي ذُكرت في هذه الترجمة الوجيزة - لكانت وحدها شهادة عادلة على تحقيقه، وصحة نظره، ودقة حكمه، فكيف وقد فصَّلها في مصنَّفات جليلة، لا غنى لأحدٍ - مِن طلاب الإصلاح للشرق والمسلمين - عنها، فينبغي لهم أن يبادروا إلى ترجمتها بجميع اللغات التي تتكلم بها الشعوب الإسلامية، ونشرها في جميع أقطارها، وعلى المصريين - ولا سيما أمرائهم - أن يكونوا هم السابقين إلى هذه الخدمة الجليلة التي يحق لهم الفخر بها، ولا سيما إذا جمعوا بين نشرها، والاعتبار والعمل بها.