صفة الوقوف بعرفات: بلغنا عرفات في وقت السحر، فألفينا الخيام قد ضُربت لنا وفُرشت، فنزلنا فيها، ولما طلع النهار وجدنا أنفسنا بالقرب من مسجد الصخرات، حيث كان موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأينا أكثر الحجاج في هذا الجانب من بسيط عرفات وسائر الجوانب والأجواز خالية، وفي بعضها قليل من الحجاج، ولبعض حجاج الأقطار مواضع خاصة يقفون فيها كل عام، كما يرى القارئ في صورة الموقف من الفصل السابق. ويقف كثير من عرب الجزيرة في جبل الرحمة ويصعده كثير من حجاج الأقطار الأخرى كما علم مما تقدم. وكانت خيام الشريف في موضعها المعتاد من وسط ذلك البسيط، وكان السبب في بُعدها عن مسجد الصخرات وموقف الإمام أن يسهل على أي فريق من الحجاج الوصول إليه للزيارة أو الشكوى في زمن قصير. وإنني - بعد كتابة ما تقدم من وصف عرفات - اطَّلعت على كتاب دليل الحج لمحمد باشا صادق المصري المهندس، أحد ضباط أركان الحرب، الذي طُبع سنة ١٣١٣، فإذا فيه: إن مساحة البقعة المستوية من عرفات (كيلو متر مربع) ، أي نحو ألفي ذراع بذراع الآدمي - وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق - والذي يتراءى للنظر أنه أوسع من ذلك، وهذا المكان لا يسع مئات الألوف من الحجاج، ولكن كثيرًا منهم يقفون في جبل الرحمة وفي غيره مما إلى ذلك البسيط من الجبال، وجبل الرحمة يرى في المساء مكتظًا بالحجاج من سفحه إلى قنته. وارتفاعه نحو من ستين ذراعًا (٣٠ مترًا) ، وطوله قريب من ستمائة ذراع (٣٠٠ متر) ، كما قال محمد صادق باشا، قال: وأعلى هذا الجبل سطح مستوٍ مبلط بالحجر، مربع في نحو عشرين مترًا، وفي وسطه مصطبة، طولها سبعة أمتار في (عرض) سبعة، وارتفاعها متر ونصف، وفي ركنها الغربي عمود، ارتفاعه أربعة أمتار في عرض مترين، يُرى من أسفل الجبل كمنار للطريق. اهـ. وأقول: إن هذا منار لا كالمنار، ولا يُشترط في مسمى المنار لغةً أن يُوضَع في أعلاه أو أثنائه نور، وإنما هو العلم الذي يُهتدَى به، وهذا المنار يراه حجاج الآفاق من الجهات المختلفة. قد فاتنا لقلة الحجاج رؤية منظر من أعظم المناظر المؤثرة في النفس، المحركة لشعور الخشوع والعبودية في القلب، وهو رؤية تلك البقعة الشريفة غاصَّة بالشعوب الوافدة من جميع أقطار الأرض، ملبّين داعين، باكين خاشعين، يجأرون إلى الله عز وجل على اختلاف لهجاتهم، الناشئة عن اختلاف لغاتهم، يرددون الأذكار المأثورة بالعربية، ويدعون الله ما شاءوا بلغاتهم المختلفة. قال صديقنا محمد لبيب بك في رحلته - بعد وصف عرفات والكلام على الوقوف -: عند وصول الحجاج إلى هذا الوادي ينزل ركب المحملين (أي المصري والشامي) بخيامهم قريبًا من جبل الرحمة، يليهما مضارب الحجاج على اختلاف أجناسهم، وعلى سفح عرفة من عاليه إلى جبل الرحمة - ترى حجيج الأعراب محتشدين إلى جوف الجبل، بعضهم فوق بعض كالبنيان المرصوص. أما باقي الحجيج فإنه ينصب الخيام في بطن الوادي الذي يزدحم إليه الناس حتى لا تكاد ترى فيه مكانًا خاليًا من واقف وقاعد، وجمالهم وحميرهم مربوطة بجوارهم، وترى الكل في صعيد واحد؛ حتى يتعذر على الإنسان السير إلى جهة أراد، ولو لضرورة في نفسه، ولو كان مولانا الشريف يأمر بتقسيم وادي عرفة إلى أحذية أفقية (أي أمكنة متحاذية كالصفوف) ، يقسمها شارع رأسي، ويخصص كل حذاء لسكنى جماعة من الحجيج وجمالهم من ورائهم. وتوضع لذلك علامات من البناء، لا يتجاوزها الحجاج في وضع مضاربهم، ولا الجَمَّالة في ربط جمالهم، ويعين لهذا النظام مَن يحفظه مع الدقة - لكان له شكر الله والملائكة والناس أجمعين. وفي سعة الوادي ما يضمن لدولته إقامة الكل على الراحة التامة؛ لأن هذا التزاحم إنما سببه التقرب من مجرى الماء ومن السوق الذي تراه بجوار مسجد الصخرات (ويباع فيه بعض الأغذية الضرورية) ، وربما كان لتزاحمهم سبب آخر، وهو خوفهم من الأعراب الذين يكون لهم من ذلك الرحاب عون على النهب والسلب، وبسبب هذا التزاحم يضل الناس عن أمكنتهم إذا تركوها لأمر ما؛ ولذلك تراهم ينادون بعضهم - أي أنفسهم - إما بأسمائهم أو بألفاظ اصطلح عليها أهل كل جهة، حتى إذا سمعها واحد منهم أجابه بصوت عالٍ وقصد مصدر الصوت. وهذه الحركة لا تكاد تنقطع مدة الإقامة بعرفة. اهـ. وأقول: إننا لم نشاهد شيئًا من ذلك لقلة الحجاج، وهذا يؤيد ما قلنا من قبل إن التعارف بين الشعوب في عرفة لا يتيسر. وذكر ابن جبير الأندلسي في رحلته أن الجمع الذي كان في عرفات في سنة حجه - وهي سنة ٥٧٩ - لا شبيه له إلا الحشر، وأن المحققين من الأشياخ المجاورين زعموا (أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعًا أحفل منه، وأنه ما رؤي - من عهد الرشيد الذي هو آخر مَن حج من الخلفاء - جمع في الإسلام مثله) . ثم قال: (فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع، فما رُؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبًا خواشع، ولا أعناقًا لهيبة الله خوانع خواضع، من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور وأخذ السَّر واليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ فجدّ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى، وكان المُجتمِع منهم في هذا العام عددًا لم يجتمع قط مثله، وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخُرَاسانيين، ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين (واحدتهن خاتون) ومن السيدات بنات الأمراء وكثير ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب، ومن السر واليمنيين مَن نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعًا ارتجت له الأرض، ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه، وأرجى في النفوس عقباه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم حنان منان) . اهـ. المراد منه. * * * وقوفنا بعرفات وتأويل رؤيا صادقة: زرت في أثناء النهار الأمير الشريف مع بعض الإخوان فجئت سرادقه راكبًا فرسًا لبُعده عن موقفنا. ورأيت سوق عرفة وهي بقرب مجرى عين زبيدة كما يُعلم من الصورة التي نشرناها. ولما رأيت مجرى عين زبيدة هنالك ووجدتها تنحدر بقوة في مجاريها الواسعة المبنية، تذكرت رؤيا كنت رأيتها بمصر قبل ثورة الحجاز، وكتبتها وذكرتها لكثير من الناس: رأيت في جمادى الأولى سنة ١٣٣٤ أنني في مكة المكرمة ومعي رفيق لي، فدخلنا المسجد الحرام، ثم أردنا أن نخرج لحاجة لنا فسمعنا أذان العصر، فقلت لرفيقي: لا ينبغي لنا أن نخرج، وقد أدركتنا الصلاة إلا بعد أدائها في المسجد، وبينما أنا جالس في المصلى بالقرب من الكعبة المعظمة رأيت الشريف حسينًا أمير مكة جالسًا أمامي من جهة يميني قريبًا مني واعتقدت أنه جاء ليصلي بالناس إمامًا، فالتفت إليَّ من جهة يساره وقال لي: أبطأت علينا، إننا منذ زمن ننتظر قدومك إلينا. وبعد أن خرجنا - ولم أره صلى ولا أننا صلينا معه - رأيت معي بعض رجاله، وأننا ذاهبون بأمره إلى أحد دوره - أي غير دار الإمارة - لأكون فيها ضيفًا عليه، وبَيْنَا نحن نسير غربًا جنوبيًّا رأيت في شارع واسع ممتد من الجنوب إلى الشمال ماءً غزيرًا صافيًا مندفعًا بقوة في مجرى واسع مبنِيٍّ بالحجارة، وله فرع إلى الغرب وفرع إلى الشرق، فوقفت متعجبًا من قوة جريان ذلك الماء وقلت في نفسي: أهذا ماء عين زبيدة؟ ، ما سمعنا أحدًا من الحجاج ذكره بهذا الوصف، وهذه القوة في الجريان لا تكون إلا بقوة دافعة كالكهربائية أو البخارية. ورأيت في الطريق دارًا جديدة ممتازة بين دور مكة ببياضها من الخارج، علمت أنها خاصة بنساء الشريف، وخطر في بالي أن دار الضيافة التي خُصصت لي سأكون فيها قبل مع الشريف عبد الله أحد أنجال الأمير. هذا ما رأيته في نومي قبل ثورة الحجاز بعدة أشهر، ولما حدثت الثورة وأعلن الاستقلال خطر في بالي أنه ربما كان تأويل رؤياي إصلاحًا جديدًا تحيا به مكة ويمتد إلى سائر الجهات كامتداد ذلك الماء الذي رأيته؛ فإن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: ٣٠) ، ولما جئت مكة حاجًّا ظهر لي من تأويل الرؤيا أنه كان معي رفيق، وأنني كنت ضيفًا للأمير، وأنه رحب بي أحسن ترحيب، وكان ينتظر مجيئي، وأن دار الضيافة كانت في الجهة الغربية من الحرم الشريف، وأن الشريف عبد الله زارني في هذه الدار، وأنني رأيت دارًا بيضاء قيل لي: إنها دار حرم الأمير الخاص، وأن الناس تحدثوا بأنه سيبايَع بالخلافة والإمامة الخاصة قد تؤول بالإمامة العامة، وكل منهما كان متوقعًا، ولم يقع وأما مصدق الرؤيا في مسألة الماء فلم أشاهده في اليقظة على نحو ما رأيته في النوم إلا في عرفات، فالمجرى المبني وطوله وامتداده يشبه الذي رأيت إلا أن سرعة اندفاع الماء وقوته كانتا دون ما رأيت في النوم، والفرق يسير، فهذه الرؤيا من أوضح الرؤى، وأجلاها تأويلاً، وهي حجة على الذين ينكرون الرؤى الصادقة. * * * الحالة الروحية في الوقوف والنفر: إن الحالة الروحية لا تبلغ الكمال في عرفات ظاهرًا وباطنًا إلا في أصيل ذلك اليوم العظيم، ففي أول النهار يعرض لأكثر الناس شواغل تشغل حواسهم وجوارحهم وأفكارهم، منها ضروريات الأكل والشرب، ومنها رؤية المناظر الجديدة من تلك البقعة الجامعة لشعوب كثيرة، وما يحيط بها من الخيال، فهذه المناظر تشغل كثيرًا من الناس بصورتها، وشكا في أول العهد برؤيتها، عن معناها وحكمة كوْن السير إليها والوقوف فيها عبادة لله تعالى، وفي أثناء النهار يأكل الناس طعامهم، ويستريح أكثرهم في خيامهم ومضاربهم، أو في ظلال الجبال، ولا سيما إذا كان الحر شديدًا، فإذا جاء وقت العصر جمعوا متاعهم وشدوا رحالهم وفرغوا قلوبهم للذكر والدعاء، وازدحموا عند موقف الخطيب من جبل الرحمة، حرصًا على سماع الخطبة، أو الاشتراك مع الألوف من إخوانهم في التكبير والتلبية، وقد بينَّا في المناسك أن الشرع لم يجعل لعرفة ذكرًا ولا دعاءً خاصًّا، بل ترك ذلك للأفراد. ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بعرفة في الخطبة ولا في غير الخطبة، ولكن صح أنه كان يلبي بين المشاعر ذهابًا وإيابًا، وهي منى ومزدلفة وعرفة. ودعا على ناقته بعرفة رافعًا يديه، ولم يرد في الصحاح نص ذكره ولا دعائه، واستحسن العلماء ذكر ما ورد في الضعاف كقول: (لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير) روي عن عدة من الصحابة مرفوعًا، وإنه خير ما يقال. قضينا جل نهار عرفة بذكر الله والدعاء وتيسر لي - والحمد لله - الاغتسال فيه، وصلينا الظهر والعصر جميعًا في مسجد الصخرات، ورأينا هنالك خطيب عرفة وهو نائب الشرع بمكة وقد صعد بناقته، فاستوى على تلك الصخرة من جبل الرحمة ذات التاريخ الإسلامي العظيم، وقد أحاط به الناس وازدحموا من حوله، يسمعون منه أحكام المناسك، ومن دونه ومن فوقه في الجبل ألوف من الناس يشاهد بعضهم بعضًا، ويراهم مَن في السفح ومن في بسيط عرفات كلها؛ لأن الجبل مدرَّج يشبه ما يتخذ في بعض المدارس الكبرى من المقاعد ذات الدرج المقوسة التي تسميها الفرنجة (نفيتاترو) وكلما لبى وكبر الخطيب لبى من حوله وكبروا وأشاروا بأطراف أرديتهم البيضاء أو مناديلهم ويتبعهم في التلبية والإشارة كل من هنالك من قمة الجبل إلى سفحه، فيلبي سائر الناس ويكبرون، فيتموج بأصواتهم الهواء، وترتج الجواء، حتى تصل إلى عَنان السماء، بل تخترقها حاملة ذلك الذكر والثناء، والضرعة والدعاء، إلى مَن استوى إلى عرشه المجيد، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد. فيا له من موقف ما أعظمه! ، وما أصدق مَن شبهه بيوم القيامة، وقد يكون التشبيه على أكمله في ذلك المساء؛ فإنه وقت يكون فيه لكل مؤمن من الشغل بنفسه والتوجه إلى ربه، ما لا يعهد مثله في وقت من أوقات حياته، يشعر والناس محيطون به من كل جانب - بأنه في خلوة لا يشغله فيها عن ربه شاغل، ولا يشوب خشوعه له وبكاءه من خشيته وسروره بمناجاته رياءٌ ولا سمعةٌ، بل لا يكاد يخطر بباله أن أحدًا هنالك يرى أبدًا. فما أعجب شأن هذا الاجتماع العظيم الذي يجمع كل مَن شهده بإيمان وعرفان، بين مزايا عبادة الخلوة وعبادة شعائر الاجتماع، بل أقول: إن له مزية على سائر الشعائر، لا يعرفها إلا مَن ذاقها. وقبيل الغروب أقبل الشريف أمير مكة بموكبه الحافل، حتى صعد أدنى جبل الرحمة، فكان قريبًا من موقف الخطيب وتلاه ركب المحمل المصري، وحينئذ أطلقت المدافع، وعزفت المعازف (الموسيقى) واستعد الناس للدفع من عرفة، لأجل مبيت تلك الليلة بمزدلفة، وبدأ الدفع بعد الغروب. فركبت السيدتان هودجهما، وسار الرفيقان الكريمان والخدم معهما، وتفضل السيد الزواوي بإرسال نجله السيد عبد الرحمن معهم وعهدنا إليه أن يذهب بهم إلى منى ليلاً بعد أداء أدنى ما يجب من المقام بمزدلفة ويعبر عنه بالمبيت، ورافقني هو، فدفعنا معًا على دابتين، فقطعنا ذلك الطريق، في ذلك الوقت المعتدل اللطيف. ونحن نجأر إلى الله تعالى بالتلبية والتكبير، ولقد وصفنا تأثير التلبية في الطريق بين جدة ومكة، وأين تأثير طريق مكة من تأثير عرفة؟ وما أبعد الفرق بين حال المبتدئ بهذه العبادة - عبادة المناسك - الذي لم يذق منها إلا طعم الإحرام والتلبية، وبين من شاهد بيت الله عز وجل وطاف به كثيرًا وسعى بين الصفا والمروة متذكرًا تلك الآيات البينات، ثم أقام ركن الحج الأكبر وهو الوقوف بعرفة فامتلأ قلبه إيمانًا وعرفانًا وانثنى بين الألوف من الموحدين، يكبر الله على هدايته تكبيرًا، ويكرر التلبية له تكريرًا؟ ! * * * (المبيت بمزدلفة وقصر الصلاة وجمعها) الإلمام بمزدلفة ليلة النحر وذكر الله عند المشعر الحرام (أي فيها) واجب وجعله بعض علماء الأثر ركنًا، وقد ثبت في السنة التعجل بالضعفة كالنساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة إلى منى بعد غياب القمر. وأدنى الواجب الوقوف فيها ليلاً لذكر الله تعالى وأما المبيت إلى الصباح فهو سنة كما بينا في المناسك. نزلت مع السيد الزواوي بفناء مسجد المزدلفة فصليت هنالك المغرب والعشاء قصرًا وجمعًا. والسيد لا يقصر في عرفة ومزدلفة ولا يجمع؛ لأنه مكي شافعي، والشافعية لا يجيزون القصر والجمع إلا في السفر الطويل، والحنفية يوجبون الجمع في المزدلفة لأجل النسك، والتحقيق عند أهل الحديث أن القصر عزيمة والجمع رخصة في كل سفر طويل أو قصير، وأن الجمع في المشاعر أفضل للاتباع، وناهيك باتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في أعمال حجة الوداع التي علَّم فيها الألوف المناسك وغير المناسك، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب. قال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك مَن صلى مع الإمام، وذكر أصحاب الشافعي أنه لا يجوز الجمع إلا لمَن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخًا إلحاقًا له بالقصر (قال) : وليس بصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، فجمع معه مَن حضره من المكيين وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع. كما أمرهم بترك القصر فقال: (أتموا؛ فإنا سَفْر) [١] ، ولو حرم الجمع لبينه لهم؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قال: ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة والمزدلفة، بل وافق عليه مَن لا يرى الجمع في غيره. اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج بعد أن ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جمع تقديم ببطن عرنة في حدود عرفة وخطبته هناك ما نصه: ويصلي بعرفة والمزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة والمزدلفة ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ، ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى بهم بمكة. وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلاً خارج مكة وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا بزمان، ولم يكن بمنى أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال: (منى مناخ من سبق) ولكن قيل: إنها سكنت في خلافة عثمان وإنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة؛ لأنه كان يرى أن المسافر يحمل الزاد والمزاد. اهـ. وذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي ما تقدم عن المناسك مختصرًا وزاد أنه ليس على المسافر جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم عرفة ولا في سفر آخر. وأقول: إن عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بالإتمام في منى وما بعدها ينطبق على حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وصرحوا أن الشاك في الأميال والفراسخ شعبة لا أنس. وقال الحافظ في الفتح: إن هذا أصح حديث وأصرحه في المسألة. مكث السيد الزواوي معي قليلاً في المزدلفة ثم ذهب إلى منى وأوصى الخادم بإحضار دابتي في الصباح، فنمت ساعات، واستيقظت في وقت السحر، وقد سخر الله تعالى لي رفاقًا من خير الناس بتّ بجوارهم، وقد عرف الزواوي منهم رجلاً مكيًّا، اسمه الشيخ علي مؤمنة، فلما استيقظت وجدتهم أيقاظًا، فطلبت منهم ماءً، فتوضأت وصليت الوتر إحدى عشرة ركعة فلما أتممت صلاتي وجدتهم قد أحضروا الشاي وخصني كبيرهم بإبريق نظيف من نوع جيد منه وقدم لي معه صحنًا فيه لوز مقشور وصحنًا فيه هشة من الكعك المعروف بالقراقيش فأصبت من ذلك كله شاكرًا لهم. وطفق كبيرهم يسألني أسئلة في السنة والاتباع والابتداع واختلاف العلماء والصوفية ويتلقى أجوبتي عنها بالقبول مسرورًا بما جليتها به الشرح والتفصيل. وهذا الرجل بخاري الأصل يعرف العربية، وكنت توهمت أنه داغستاني وقد ساح في كثير من البلاد، وقد فهمت أنه جاور في مكة المكرمة وأنه يخرج كل سنة منها إلى عرفة ببعض أصحابه في الموسم مشاة ويعودون مشاة. وقد اختلف العلماء في أي الأمرين أفضل في المناسك في المشي أم الركوب؟ ، فقيل: المشي؛ لأنه أقرب إلى التواضع وأعون على الدعاء، وقيل بل: الركوب تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يفعل إلا الأفضل والأكمل ويمكن أن يقال: إن الأفضل لأهل الآفاق وللضعفاء من أهل مكة الركوب وإن الأقوياء من المقيمين بمكة قد يكون المشي أفضل لهم من عدة وجوه، منها مشاركة أهل الآفاق ببعض مشقة السفر وإن ذلك لا ينافي الاتباع. وقد سألت السيد الزواوي عن هذا الشيخ وعن رفيقه الخاص الشيخ علي مؤمنة وكلفته بعد عودتي أن يسأل عنهما، فكتب إليَّ أن الثاني نشأ من صغره محبًّا للعزلة والبعد عن كبراء الدنيا وهو على الدوام يخدم العلماء وأهل الطريق من الغرباء ومنهم الشيخ حسام الدين البخاري صاحبكم في المزدلفة، ويقول تلميذه الشيخ علي مؤمن إنه أقام في مصر مدة طويلة وخرج منها في العام الماضي مأمورًا عليه (كذا) بالوصول إلى مكة والإقامة بها هذا العام وهو الآن موجود في أحد أربطة البخارية بحارة جياد، لا يخالط أحدًا، لا يعرف ولا يُعرف، مواظبًا على الجمعة والجماعة كتلميذه الشيخ علي. ولما طلع الفجر صلينا مع الجماعة ثم ذهبنا حول المسجد نجمع الحصا لرمي الجمار فلما جمعناها ركبت دابتي وسرت وسار أصحابي مشاة قاصدين منى. * * * الإفاضة إلى منى ورمي جمرة العقبة أفضنا من مزدلفة ملبين مكبرين قبل طلوع الشمس عملاً بالسنة، ومخالفة لما كان عليه عمل الجاهلية من تأخير الإفاضة منها إلى طلوعها، ومن السنة المبنية على سبب تاريخي هنالك الإسراع المعتدل في السير في بطن محسر لا فرق في ذلك من الماشي والراكب. وتقدم أن بطن مُحَسِّر - بتشديد السين المكسورة - هو الوادي الفاصل بين منى ومزدلفة. قال بعض العلماء: إن حكمة الإيضاع فيه أن أهل الجاهلية كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم، ففي الإسراع فيه إظهار البراءة من ذلك. وقال بعضهم: إن هذا المكان هو الذي أهلك الله تعالى فيه أصحاب الفيل، الذين جاءوا من طريق اليمن لهدم بيته المحرم؛ فاستحب الإسراع في الخروج منه؛ لأنه كان موضع سخط الله تعالى وعذابه لأولئك الظالمين المعتدين، ويستحب مثل ذلك في كل مكان مثله كديار ثمود. ولما وصلنا إلى منى قصدنا الجمرة الكبرى جمرة العقبة وكانت الشمس قد ارتفعت فرميناها بسبع حصيات، نكبر مع كل حصاة. وفي مثل هذا الوقت رماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم راكبًا، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم جعل البيت عن يمينه ومنى عن يساره ورمى. وأنه كان يكبر مع كل حصاة، وأنه قال: (اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا) . وبعد الرمي جئت الدار المعدة لنزولنا فيها، فإذا هي من أعظم دور منى حُسنًا وسعة وهي لصديقنا الشيخ محمد نصيف، فرأيت السيدتين في قسم النساء منها، والرفيقين في قسم الرجال، والجميع كما أحب، وأعطيت لوكيل الخرج دراهم ووكلته بشراء النسك والذبح عني. وقد قصصت قليلاً من شعر رأسي بيدي، ولم يتيسر لي الإتيان بحلاق إلى الدار؛ لأنني أريد الإفاضة إلى مكة لأجل طواف الركن. وفي حديث أنس عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. ومتى شرع الحاج في رمي جمرة العقبة مكبرًا تنقطع التلبية التي شعار الحج، ويستبدل بها التكبير الذي هو ذكر الله في العيد، ومتى رماها وحلق شعر رأسه أو قصره حل له كل ما كان محرمًا في النسك إلا ملامسة النساء؛ فإنها لا تحل إلا بالتحلل الأخير بطواف الإفاضة. ((يتبع بمقال تالٍ))