للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*]

اللهم غوثًا غوثًا ورحمةً ولطفًا. اللهم عونًا عونًا ومِنَّةً وفضلاً. انظر اللهم إلى
هذه الأمة التي شقيت بعد السعادة، واستعبدت بعد السيادة، وذلت بعد العز،
وافتقرت بعد الغنى، وضعفت بعد القوة، وجهلت بعد العلم، وظلمت بعد العدل،
وفسقت بعد الطاعة، و {كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ} (النحل: ١١٢) .
اللهم قد مسن الرجال وفنك النساء وعم الجهل وساءت التربية وأرسلت الحبال
على الغوارب، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والأخرق وليًّا والعاقل مقليًّا،
وهضمت الحقوق وكثر العقوق وفشا الكذب وأكل السحت، فأنزلت على الأمة
الغضب والمقت: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة: ٦١) .
اللهم إن حكامنا قد أطلقوا الحرية في الفسق والكفر، وقيدوا الحرية في العلم
والفكر، وتركوا شريعتك السماوية واستبدلوا بها القوانين الوضعية، وشرعوا
للرئيس الأكبر سلطة مقدسة ينسخ بها ما أحكمتَ ويبيح ما حظرتَ ويحظر ما أبحتَ
ويعفي عمن عاقبت (أي حكمت عليه بالعقوبة) {فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل: ١١٣) .
اللهم إن علماءنا قد تركوا القرآن والسنة وأخلاق الدين، وعكفوا على الخلاف
والبحث في ألقاب المؤلفين وأهملوا إرشاد الأمة لأن بعض فقهائهم قال: لا يجب
على العالم أن يُعلِّم ما لم يُسأل، وأَنَّى يسأل الجاهل المطلق؟ وأولوا قولك {وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) وقولك {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} (التوبة: ١٢٢) .
اللهم إن قراءنا ومرشدينا قد اتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا وغرتهم الحياة الدنيا:
يقرءون القرآن تغنيًا في الأزقة والشوارع والملاهي والمجامع، لا يجاوز حناجرهم.
وقد استبدلوا بذكرك التغني والرقص والتثني، وما كان ذكرهم إلا جمجمة وحمحمة
ودمدمة وهمهمة. {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزمر: ٢٢) قادوا الأمة بزمام الذل إلى مقاصدهم فماتت هممها وتراكمت غممها
زعمًا بأن شيوخهم كانوا من الأذلين، وأنت تقول: {َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: ٨) علموها الاحتجاج على الشر بالقضاء والقدر الذي نهى نبيك عن
الخوض فيه، ودحضت فيه احتجاج المشركين، وعنفتهم على سوء أدبهم، حيث
قلت في كتابك العزيز {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ
حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: ١٤٨) .
اللهم إنهم قد حولوا قلوب عبادك عنك إلى شيوخهم، فصاروا يستعينون بهم في
رغائبهم ويستغيثون بهم في نوائبهم ويطوفون بقبورهم متضرعين، ولأحجارها
مقبِّلين ولحاجهم منهم طالبين، ويقولون: إنهم شفعاؤهم عندك، يقربونهم إليك زلفى.
وما كان الشرك الذي محاه كتابك وعابه على من قبلهم إلا مثل هذا. ولكنهم حرفوا
وأولوا، وغيروا وبدلوا، احتجاجًا بكرامتك لأوليائك المخلصين. نعم إن فضلك
يمنح من أطاعك الكرامة، ولكن ما كنت لترضى بقول هؤلاء: إن سمواتك السبع
بمن فيها من ملائكتك المقربين وأرواح أنبيائك المرسلين صارت في رجل أحد
شيوخهم كالخلخال، وهو الذي من لمسه أو لمس أحد خلفائه وذريته لا تمسه النار،
وأن أحدهم يسعد ويشقي ويفقر ويغني ويميت ويحيي (كما قالوا في سيدي أحمد
الرفاعي وعبد الرحيم الرفاعي قدس الله سرهما من هذا الضلال) وأنت تقول:
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: ٤٨) أي لا ليقترح عليهم
كما قال البيضاوي وغيره. وقد أمرت سيد أنبيائك أن يتنصل من الاستطاعة
على مثل ما يدعون بقولك: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ
أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ
تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ
شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام: ٥٠-٥١) .
اللهم أصلح الراعي والرعية، وألف بين قلوب عبادك، وألهمنا رشدنا، ولا
تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وانصر سلطاننا، وأيد برهاننا ولا تجعلنا ممن قلت
فيهم {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ٤٣) .
أما بعد: فقد روي أن بعض الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كان يسأل
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الشر والبلاء الذي يقع على الأمة، وعن أسباب
ذلك، وقد قيل له في ذلك فقال: أعرف الشر لأتقيَه، فنظم هذا المعنى بعض الشعراء
فقال:
عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الخير يقع فيه
لا جرم أن العلم بعوارض الأمم من السعادة والشقاء هو العلم بالإنسان الذي هو
أشرف الموجودات في هذا العالم، وهو من أشرف العلوم وأهم مباحثه ما يشرح
أسباب أمراض الأمم وهلاكها، وقد نبه عليه القرآن الحكيم بمثل قوله {قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: ١٣٧) أي للأنبياء الذين جاءوا لتهذيبهم وإصلاح شؤونهم وهدايتهم
إلى سعادتهم، ويظن من لا فقه لهم بأسرار الدين: أن الله تعالى أهلك الأمم
المكذبة إكرامًا لمن كذبوهم وانتقامًا لهم، ولو كان ذلك صحيحًا لكان وجود الأنبياء
فيهم عذابًا ولم يكن رحمة.
والحق أن حالتهم في الفساد والفسق والظلم، والحيد عن سنن الله في بقاء الأمم
هو الذي كان سبب هلاكهم، كما هو صريح الآيات الكثيرة جدًّا والمطابق للعقل،
وإنما الأنبياء والمصلحون أزالوا عذرهم وأبطلوا احتجاجهم على الله تعالى بأنهم
كانوا غافلين عن سنن الإصلاح {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
غَافِلُونَ} (الأنعام: ١٣١) فبين لهم طرق سعادتهم بآيات الطبيعة، ثم آيات الوحي
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأنعام: ٤٨-٤٩) .
هذا العلم هو الذي ينير البصائر ويصلح السرائر، ولله در الإمام الغزالي حيث
قال: أفضل العلوم العلم بالله تعالى وبسنته في خلقه. ولكن المسلمين تجاوزوا
بأنظارهم آيات الكتاب الكثيرة التي أرشدتهم إليه، والآيات الكونية في الآفاق وفي
أنفسهم، وحسب جمهورهم أنه لا يمكن الكلام على مستقبل الأمم إلا بالاطلاع على
الغيب، وحملوا كل ما ورد في السنة على ذلك. وزاد عليها الزنادقة والمنحرفون
أحاديث وضعوها وافتروها لمآرب، فكان للباطنية وأضرابهم من المبتدعة فيها
ملاعب، وفي التوسع بالتأويل مشارب، وفي انفصام عرى الوحدة بالتفرق في
الدين مذاهب.
لنمسك عنان القلم عن الجري في هذا المضمار الآن، ولنأخذ من التاريخ قبسًا
نستضيء به في بحثنا عن إضلال رؤسائنا لنا وانحرافهم بنا عن جادة السعادة إلى
تيه الشقاء والخزي. مالوا مع الهَوَى، فطرحونا في الهُوَى (بضم الهاء ج هوة)
وانتهى بهم الاستبداد إلى توهين قوى الأفراد، وان شئت قلت: إلى اضمحلال الأمة
وإعدامها، إذ ليست قوة مجموع الأمة إلا قوة الأفراد بعينها.
رؤساؤنا هم الأمراء الذين تولوا أمر الأحكام، والعلماء الذين بيدهم أزِمَّة العلم
والتعليم، والمرشدون الذين تصدوا للتربية والإرشاد. وإننا نكتب مقالات نبين فيها
كيف كان إضلالهم لنا، حتى انتهينا إلى هنا، ونبدأ بالكلام في الخلافة والخلفاء
والسلاطين والأمراء. فانتظر الأعداد التالية.
((يتبع بمقال تالٍ))