للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي


الباطنية وغلاة المتصوفة..
بدعهم وتأويلاتهم
من فصول كتاب الاعتصام
للإمام الشاطبي

فصل
(ومنها) بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل - يدّعون
فيها أنها هي المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي - مسندة عندهم إلى أصل لا
يعقل. وذلك أنهم - فيما ذكر العلماء - قوم أرادوا إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً،
وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحًا،
فيرد ذلك في وجوههم، وتمتد إليهم أيدي الحكام، فصرفوا أعناقهم إلى التحلل على ما
قصدوا بأنواع من الحيل، من جملتها صرف الهمم من الظواهر إحالةً على أن لها
بواطن هي المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة. فقالوا: كل ما ورد في الشرع من
الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة رموز إلي بواطن.
فمما زعموا في الشرعيات: أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سرٍّ
إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق، ومعنى الغسل: تجديد العهد على من فعل ذلك،
ومعنى مجامعة البهيمة: مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئًا من صدقة
النجوى؛ وهي مائة وتسعة عشر درهمًا عندهم. قالوا: فلذلك أوجب الشرع القتل
على الفاعل والمفعول به، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها؟
والاحتلام: أن يسبق لسانه إلى إفشاء السرّ في غير محله؛ فعليه الغسل، أي
تجديد المعاهدة. والطهر: هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام.
والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام. والصيام: هو
الإمساك عن كشف السر.
ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية وأمور التكليف وأمور الآخرة، وكله
حَوْم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية
منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة بل هم منكرون
للربوبية. وهم المسمون بـ الباطنية [١] .
وربما تمسكوا بالحروف والأعداد: بأن الثقب في رأس الآدمي سبع، والكواكب
السيارة سبع، وأيام الأسبوع سبع، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة، وبه يتمّ.
وأن الطبائع أربع، وفصول السنة أربع، فدل على أن أصول الأربعة هي السابق
والتالي الإلهان - عندهم - والناطق والأساس - وهما الإمامان. والبروج اثنا
عشر، يدل على أن الحجج اثنا عشر، وهم الدعاة. إلى أنواع من هذا القبيل،
وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء، ربما
يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم. أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان الربقة،
وصاروا عرضة لِلَّمْزِ، وضحكة للعالمين. وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام
المعصوم الذي زعموه، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين ولكن لا بدّ من نكتة
مختصرة في الرد عليه.
فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم ما من جهة دعوى بالضرورة وهو محال؛ لأن
الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علمًا وإدراكًا، وهذا ليس كذلك.
أمّا من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات. فنقول لِمَن زعم
ذلك: ما الذي دعاك إلى تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى المعجزة؟
وليس لإمامك معجزة، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره، لا ما زعمت، فإن قال:
ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها
منه. قيل لهم: مِن أي جهة تعلمتموها منه؟ أبمشاهدة قلبه بالعين؟ أو بسماع منه؟
ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن. فيقال: فلعلّ لفظه ظاهر له باطن لم
تفهمه، ولم يُطْلِعْكَ عليه، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه، فإن قال: صرّح
بالمعنى، وقال: ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه، أو: والمراد ظاهره. قيل له:
وبماذا عرفت قوله إنه ظاهر لا رمز فيه؛ بل إنه كما قال؟ إذ يمكن أن يكون له
باطن لم تفهمه أيضًا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر؛
لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر، فإن قال: ذلك
يؤدي إلى حسم باب التفهيم - قيل له: فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية، والجنة والنار، والحشر والنشر،
والأنبياء، والوحي، والملائكة، مؤكدًا ذلك كله بالقسم. وأنتم تقولون: إن ظاهره
غير مراد وأن تحته رمزًا. فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
لمصلحة وسرّ له في الرمز - جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم
خلاف ما يضمره لمصلحة وسرّ له فيه، وهذا لا محيص لهم عنه.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه
الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال؛ إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها
بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية؛ إذ مذهبها إبطال النظر، وتغيير
الألفاظ عن موضعها بدعوى الرمز. وكل ما يتصوّر أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر
أو نقل. أمّا النظر فقد أبطلوه، وأمّا النقل فقد جوّزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه،
فلا يبقى لهم معتصم. والتوفيق بيد الله.
وذكر ابن العربي في العواصم مأخذاً آخر في الردّ عليهم أسهل من هذا وقال:
إنهم لا قِبَل لهم به - وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال (بكم) خاصة،
فكل مَن وجهت عليه منهم سقط في يده. وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها
هاهنا، وتصور المذهب كافٍ في ظهور بطلانِه، إلا أنه مع ظهور فسادِه وبُعده
عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعًا فاحشةً، منها مذهب المهدي المغربي؛
فإنه عدّ نفسه الإمام المنتظر، وإنه معصوم حتى إن مَن شك في عصمته أو في أنه
المهدي المنتظر فهو كافر.
وقد زعم ذَووه أنه ألف في الإمامة كتابًا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحًا
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام، وإن مدة الخلافة ثلاثون سنة،
وبعد ذلك فرق وأهواء وشحٌّ مطاع، وهوًى متّبع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه،
فلم يزل الأمر على ذلك، والباطل ظاهر والحق كامن، والعلم مرفوع - كما أخبر
عليه الصلاة والسلام - والجهل ظاهر، ولم يبقَ من الدين إلا اسمه، ولا من القرآن
إلا رسمه، حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين - كما قال عليه الصلاة والسلام:
(بدئ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ فطوبى للغرباء) ، وقال: إن طائفته هم
الغرباء، زعمًا من غير برهانٍ زائد على الدعوى. وقال في ذلك الكتاب: جاء الله
بالهدى، وطاعته صافية نقية، لم يرَ مثلها قبل ولا بعد، وإن به قامت السموات،
والأرض به تقوم، ولا ضدّ له، ولا مِثل، ولا نِدّ. وكَذَبَ، تعالى الله عن قوله.
وهذا كما نزّل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو
بلا شك.
وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبًا فقال: الحمد لله الفعال لما يريد،
القاضي لما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، وصلى الله على النبي
المبشر بالمهدي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلئت ظلمًا وجورًا، يبعثه الله إذا
نُسخ الحق بالباطل، وأُزيل العدل بالجور، مكانه بالمغرب الأقصى، وزمانه آخر
الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبه نسب النبي عليه الصلاة
والسلام، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان،
والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل. يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي.
فلما فرغ بادَر إليه من أصحابه عشرة. فقالوا: هذه الصفة لا توجد إلا فيك،
فأنت المهدي. فبايعوه على ذلك. وأحدث في دين الله أحداثًا كثيرة زيادة إلى
الإقرار بأنه المهدي المعلوم، والتخصيص بالعصمة. ثُم وضع ذلك في الخطب،
وضرب في السكك، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة. فمَن لم يؤمن بها أو
شكّ فيها، فهو كافر كسائر الكفار.
وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها. وهي نحو من ثمانية عشر
موضعًا. كترك امتثال أمر مَن يستمع أمره، وترك حضور مواعظه ثلاث مرّات،
والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل، وأشياء كثيرة.
وكان مذهبه البدعة الظاهرية، ومع ذلك فابتدع أشياء، كوجوه من التثويب؛
إذ كانوا ينادون عند الصلاة (بتاصاليت الإسلام) و (بقيام تا صاليت)
و (سوردين) و (باردي) و (وأصبح ولله الحمد) وغيره. فجرى العمل بجميعها في
زمان الموحدين. وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في
جامع غِرْنَاطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم (المهدي المعلوم) ، إلى أن
أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت.
وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن
علي - منهم. ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات. فأمر - حين استقرّ
بمراكش - خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر
فيها بتغيير تلك السنة، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد
نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة
أزالها، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته.
وذكر أن أباه المنصور همّ بأن يصدع بما به صدع , وأن يرفع الحرف الذي
رفع، فلم يساعده الأجل لذلك. ثُم لمّا مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد
الملقب بالرشيد، وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين، ففتلوا
منه في الذروة والغارب، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته، والوقوف
على قدم الخدمة بين يديه، والمدافعة عنه بما استطاعوا، لكن على شرط ذكر
المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات، ونقش اسمه الخاص في
السكك، وإعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها (بتاصاليت الإسلام) عند كمال
الآذان و (بتقام تاصاليت) ؛ وهي إقامة الصلاة، وما أشبه ذلك من (سودرين)
و (وقادري) و (أصبح ولله الحمد) وغير ذلك.
وقد كان الرشيد استمرّ على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله، فلمّا انتدب
الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك، فأسعفوا فيه. فلما احتلوا منازلهم
أيامًا ولم يعد شيء من تلك العوائد، ساءت ظنونهم، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم
في دينهم، وبلغ ذلك الرشيد، فجدد تأنيسهم بإعادتها.
قال المؤرخ: فيا للهِ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع
تلك الأمور، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأفراح
فيهم الكبير والصغير. وهذا شأن صاحب البدعة، فلن يسرّ بأعظم من انتشار
بدعته وإظهارها؛ {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة:
٤١) ، وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة.
***
فصل
(ومنها) رأي قوم التغالي في تعظيم شيوخهم، حتى ألحقوهم بما لا
يستحقونه، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا باب
الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور. وهو باطل محض، وبدعة فاحشة، لأنه
لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدًا مبالغ المتقدمين. فخير القرون الذين رأوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، ثُم الذين يلونهم، وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى
قيام الساعة. فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في
أول الإسلام، ثُم لا زال ينقص شيئًا فشيئًا إلى آخر الدنيا. لكن لا يذهب الحق
جملة؛ بل لا بد من طائفةٍ تقوم به وتعتقده، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم،
لا ما كان عليه الأولون مِن كل وجه، لأنه لو أنفق أَحد من المتأخرين وزن أُحد
ذهبًا ما بلغ مُدّ أَحَد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نَصِيفه. فخير
القرون: الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثم الذين يلونهم،
وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى قيام الساعة، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم
وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام. ثم لا زال ينقض شيئًا فشيئًا إلى آخر
الدنيا.
وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان، بشهادة التجربة العادية.
ولمّا تقدّم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصليٌّ لا شك فيه.
وهو عند أهل السنة والجماعة. فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض؟
وليس في الأمة ولي غيره؟ لكن الجهل الغالب، والغلو في التعظيم، والتعصب
للنِّحَل، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه.
والمتوسط يزعم أنه مساوٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يأتيه الوحي؛
بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم، الحاملين لطريقتهم في زعمهم، نظير
ما ادّعاه بعض تلامذة الحلاّج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه، والغالي [٢] يزعم
فيه أشنع مِن هذا، كما ادّعى أصحاب الحلاّج في الحلاّج.
وقد حدّثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال: أقمت زمانًا
في بعض القرى البادية، وفيها مِن هذه الطائفة المشار إليها كثير، قال: فخرجت
يومًا مِن منزلي لبعضِ شأني فرأيت رجلين منهم قاعدين، فاتهمت أنهما يتحدثان في
بعض فروع طريقتهم، فقربت منهما على استخفاء لأسمع مِن كلامهم - إذ من
شأنهم الاستخفاء بأسرارهم - فتحدثا في شيخهم وعِظَم منزلته، وأنه لا أحد في
الدنيا مثله، وطَرِبَا لهذه المقابلة طَرَبًا عظيمًا، ثُم قال أحدهما للآخر: أتحب الحق؟ -
هو النبي - قال: نعم هذا هو الحق. قال المخبر: فقمت مِن ذلك المكان فارًّا أن
يصيبني معهم قارعة.
وهذا نمط الشيعة الإمامية. ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب،
والتهالك في محبة المبتدع، لَمَا وسع ذلك عقل أحد، ولكن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ) الحديث.
فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام؛ حيث قالوا: إن الله هو
المسيح، فقال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة:
٧٧) وفي الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ولكن
قولوا: عبد الله ورسوله) .
ومَن تأمّل هذه الأصناف وجد لها مِن البدع في فروع الشريعة كثيرًا لأنّ
البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع.
***
فصل
وأضعف هؤلاء احتجاجًا: قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا
وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح فقال لنا: اتركوا كذا
واعملوا كذا. ويتفق مثل هذا كثيرًا للمتمرسين [٣] برسم التصوّف، وربّما قال
بعضهم: رأيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال لي كذا وأمرني
بكذا، فيعمل بها ويترك بها معرضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ:
لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال إلا أن تعرض على ما
في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها، وإلا وجب تركُها
والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأمّا استفادة الأحكام فلا.
كما يحكى عن الكتاني - رحمه الله - قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي. فقال: (قل كل يوم أربعين: مرة يا حيّ
يا قيّوم، لا إله إلا أنت) ، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته، وكون الذكر يحيي
القلب صحيح شرعًا. وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير، وهو مِن ناحية البشارة.
وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام.
وعن أبي يزيد البسطامي - رحمه الله - قال: رأيت ربي في المنام، فقلت:
كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعالَ. وشأن هذا الكلام من الشرع موجود،
فالعمل بمقتضاه صحيح؛ لأنه كالتنبيه لموضع الدليل؛ لأن ترك النفس معناه ترك
هواها بإطلاق، والوقف على قدم العبودية.
والآيات تدلّ على هذا المعنى، كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} (النازعات: ٤٠-٤١) ، وما
أشبه ذلك. فلو رأى في النوم قائلاً يقول: إن فلانًا سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله،
أو اعمل بما يقول لك، أو فلان زنى فحدَّه، وما أشبه ذلك، لم يصح له العمل حتى
يقوم له الشاهد في اليقظة، وإلا كان عاملاً بغير شريعةٍ، إذ ليس بعد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وحيٌ.
ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل. وأيضًا إن
المخبِر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد قال: (مَن رآني في
النوم فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمثل بي) ، وإذا كان ... فإخباره في النوم
كإخباره في اليقظة؛ لأنّا نقول: إن كانت الرؤيا مِن أجزاء النبوة فليست إلينا من
كمال الوحي؛ بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه؛
بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة، وفيها
كاف [٤] .
وأيضًا فإن الرؤيا التي هي جزء مِن أجزاء النبوة مِن شرطها أن تكون
صالحة من الرجل الصالح، وحصول الشروط مما ينظر فيه، فقد تتوفر، وقد لا
تتوفر.
وأيضًا فهي منقسمة إلى الحلم، وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد
تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير
الصالحة؟
ويلزم أيضًا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى الله عليه
وسلم، وهو منهي عنه بالإجماع.
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي، فلما رآه قال: عليَّ
بالسيف والنطع. قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ
بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على مَن عَبَرَها، فقال لي: يظهر لك
طاعة ويضمر معصية، فقال له شريك: واللهِ ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه
السلام، ولا معبرك بيوسف الصديق عليه السلام، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق
المؤمنين؟ فاستحيى المهدي، وقال: اخرج عني. ثُم صرفه وأبعده.
وحكى الغزالي عن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق
القرآن، فروجع فيه، فاستدل بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة
ولَمْ يدخلها فقيل: هل دخلتها؟ فقال: أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن،
فقام ذلك الرجل فقال: لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في
فتواه؟ فقالوا: لا، فقال: قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة.
وأمّا الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائي بالحكم فلا
بد من النظر فيها أيضًا، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالحكم بما استقرّ،
وإن أخبر بمخالفٍ، فمحال، لأنه صلّى الله عليه وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته
المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المَرَائي
النومية، لأن ذلك باطل بالإجماع، فمَن رأى شيئًا مِن ذلك فلا عمل عليه، وعند
ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة. إذ لو رآه حقًّا لم يخبره بما يخالف الشرع.
لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من رآني في النوم
فقد رآني) ، وفيه تأويلان:
أحدهما: ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة
في قضية، فلمّا نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما
تحكم بهذه الشهادة؟ فإنها باطلة. فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك
الشهادة، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد،
إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحيٌ، ومَن سواهم إنّما
رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.
ثم قال: وليس معنى قوله: (مَن رآني فقد رآني حقًّا) ، إن كل مَن رأى في
منامه أنه رآه فقد رآه حقيقةً. بدليل أن الرائي قد يراه مرّات على صورٍ مختلفة،
ويراه الرائي على صفةٍ، وغيره على صفةٍ أخرى ولا يجوز أن تختلف صور
النبي صلى الله عليه ولا صفاته. وإنّما معنى الحديث: مَن رآني على صورتي
التي خلقت عليها. فقد رآني، إذ لا يتمثل الشيطان بي؛ إذ لم يقل: مَن رأى أنه
رآني، فقد رآني.
وإنّما قال: مَن رآني فقد رآني وإني لهذا الرائي الذي أرى أنه رآه على
صورته أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته
بعينها، وهذا ما لا طريق لأحدٍ إلى معرفته.
فهذا ما نُقل عن ابنِ رشد. وحاصله يرجع إلى أنّ المرئي قد يكون غير النبي
صلى الله عليه وسلم، إن اعتقد الرائي أنه هو.
والتأويل الثاني: يقوله علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورةٍ ما
مِن معارف الرائي وغيرهم، فيشير له إلى رجلٍ آخر: هذا فلان النبي، وهذا
الملك الفلاني؛ أو من أشبه هؤلاء مِمّن لا يتمثل الشيطان به فيوقع اللبس على
الرائي بذلك وله علامة عندهم، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلّمه المشار إليه بالأمر
والنهي غير الموافقين للشرع، فيظن الرائي أنه مِن قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا يكون كذلك، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى.
وما أحرى [٥] هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفًا لكمال الأول،
حقيقٌ بأن يكون فيه موافقًا، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال، نعم لا يحكم
بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر، وعلى
الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنّة. نعم يأتي المرئيَّ تأنيسًا
وبشارةً ونذارةً خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكمًا، ولا يبنون عليها أصلاً،
وهو الاعتدال في أخذه، حسبما فُهِمَ مِن الشرع فيها، والله أعلم.
***
فصل
وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملةً من الاستدلالات المتقدمة،
وغيرها في معناها، وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى، فهو مِمَّا يُحتاج إليه
بحسب الوقت والحال، وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى.
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء، يزعمون أنهم سلكوا طريق
الصوفية، فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت
واحدة، ثم في الغناء والرقص، إلى آخر الليل، ويحضر معهم بعض المتسمين
بالفقهاء، يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق: هل هذا العلم
صحيح في الشرع أم لا؟
فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات، المخالفة طريقة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان، فنفع الله بذلك مَن
شاء مِن خلقه.
ثُم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان، فقامت القيامة على العاملين بتلك
البدع، وخافوا اندراس طريقتهم، وانقطاع أكلهم بها، فأرادوا الانتصار لأنفسهم،
بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم، واشتهرت
في الانقطاع إلى الله، والعمل بالسنة طريقتهم، فلم يستقرّ لهم الاستدلال؛ لكونهم
على ضدّ ما كان عليه القوم، في الأخلاق والأفعال، وأكل الحلال، وإخلاص النية
في جميع الأعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول، فلا يمكنهم الدخول تحت
ترجمتهم.
وكان مِن قدَر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه
هذه، لكن حسّن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل. فأجاب عفا
الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرّض إلى ما هم عليه من البدع
والضلالات، ولمّا سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدةٍ أخرى، فأتى به
فرحل إلى غير بلده، وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة، وأنه
طالب للمناظرة فيها، فدعي لذلك فلمْ يقم فيه ولا قعد؛ غير أنه قال: (إن هذه
حُجتي) وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب، وكان هو ومجيبه [٦] وأشياعه يطيرون
بها فرحًا، فوصلت المسألة إلى غرناطة، وطلب من الجميع النظر فيها. فلم يسع
أحد له قوة على النظر فيها الأول [٧] أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به
لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم والصراط المستقيم.
ونص خلاصة السؤال: ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين
يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة، يقرؤون جزءًا من القرآن،
ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت، ويذكرون الله بأنواع
التهليل والتسبيح والتقديس، ثم يقوم من بينهم قوّال يذكر شيئًا في مدح النبي صلى
الله عليه وسلم، ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات
الصالحين، وذكر آلاء الله ونعمائه، ويشوّقهم بذكر المنازل الحجازية، والمعاهد
النبوية فيتواجدون اشتياقًا لذلك، ثم يأكلون ما حضر مِن الطعام، ويحمدون الله
تعالى، ويرددون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويبتهلون بالأدعية إلى
الله في صلاح أمورهم، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون.
فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر؟ أم يمنعون وينكر عليهم؟ ومن دعاهم من
المحبين إلى منزله بقصد التبرك، هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه
المذكور أم لا؟
فأجاب بما محصوله: مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي أيضًا الجنة. ثُم أتى
بالشواهد على طلب ذكر الله. وأمّا الإنشادات الشعرية. فإنما الشعر كلام حسنه
حسن وقبيحه قبيح، وفي القرآن في شعراء الإسلام: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: ٢٢٧) ، وذلك أن حسان بن ثابت
وعبد الله بن رواحه وكعبًا لمّا سمعوا قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ} (الشعراء: ٢٢٤) ، الآيات بكوا عند سماعهما فنزل الاستثناء، وقد أُنشد الشعر بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات
أخت النضر، لِمَا طبع عليه من الرأفة والرحمة.
وأما التواجد عند السماع، فهو في الأصل رقة النفس واضطراب القلب،
فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: ٢) ، أي اضطربت رَغَبًا أو رَهَبًا، وعن اضطراب القلب يحصل
اضطراب الجسم، قال الله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} (الكهف: ١٨) ، الآية. وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: ٥٠) ، فإنما
التواجد رقةٌ نفسيةٌ، وهِزّةٌ قلبيةٌ، ونهضةٌ روحانيةٌ وهذا هو التواجد عن وجد، ولا
يسمع فيه نكير من الشرع.
وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع،
وهي: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} (الكهف: ١٤) الآية.
وكان يقول: إن القلوب مربوطة بالملكوت، حركتها أنوار الأذكار، وما يرد
عليها من فنون السماع.
ووراء هذا تواجد لا عن وجدٍ، فهو مناط الذّم، لمخالفة ما ظهر لِمَا بطن وقد
يغرب [٨] فيه الأمر عند القصد لاستنهاض العزائم، وأعمال الحركة في يقظة القلب
النائم (يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا) [٩] ولكن شتّان ما بينهما.
وأمّا مَن دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته، وله في ذلك قصده ونيته. فهذا
ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر، واللهُ يتولى السرائر، وإنّما الأعمال بالنيّات،
انتهى ما قيده.
فكان ممّا ظهر لي في هذا الجواب: أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا
كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح، فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس
القرآن فيما بينهم، حتى يتعلم بعضهم مِن بعض، ويأخذ بعضهم مِن بعض، فهو
مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ مِن بيوت الله يتلون
كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفّت بهم
الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ، وهو الذي فهمه الصحابة - رضي الله تعالى
عنهم - مِنَ الاجتماع على تلاوة كلام الله.
وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماعٌ على ذكر الله. ففي رواية أخرى أنه
قال (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة) الحديث المذكور؛ لا الاجتماع
للذكر على صوتٍ واحد، وإذا اجتمع القوم على التذكر لنِعَم الله، أو التذاكر في
العلم إن كانوا علماء، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون، أو اجتمعوا يذكّر
بعضهم بعضًا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته وما أشبه ذلك ممّا كان يعمل به
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، وعمل به الصحابة والتابعون
فهذه المجالس كلها مجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء.
كما يحكى عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن القصص. فقال: أدركت أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم يجلسون ويحدّث هذا بما سمع وهذا بما سمع - فأمّا أن
يجلسوا خطيبًا فلا - وكان كالذي نراه معمولاً به في المساجد من اجتماع الطلبة على
معلمٍ يقرئهم في القرآن أو علمًا مِن العلوم الشرعية. أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم
أمر دينهم، ويذكرهم بأسه، ويبيّن لهم سنّة نبيهم ليعلموا بها، ويبيّن لهم المُحدَثات
التي هي ضلالةٌ ليحذروا منها، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها.
فهذه مجالس الذكر على الحقيقة، وهي التي حرَمَها اللهُ أهل البدع من هؤلاء
الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقَلَّ ما تجد منهم مَن يحسن قراءة
الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن، فضلاً عن غيرها، ولا يعرف كيف يتعبد، ولا
كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة. وكيف يعلمون ذلك وهم حرموا
مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة، وتنزل فيها السكينة، وتحف بها الملائكة؟ !
فبانطماس هذا النور عنهم ضلّوا، فاقتدوا بجهّال أمثالهم، وأخذوا يقرؤون الأحاديث
النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم، لا على ما قال أهل العلم فيها؛
فخرجوا عن الصراط المستقيم، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئًا من القرآن يكون
حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم، ثم يقولون
تعالوا نذكر الله، فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة - طائفة في جهة،
وطائفة في جهةٍ أخرى - على صوتٍ واحدٍ يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من
مجالس الذكر المندوب إليها، وكذَبوا. فإنه لو كان حقًّا لكان السلف الصالح أولى
بإدراكه وفهمه والعمل به، وإلا فأين في الكتاب أو في السنة الاجتماع للذكر على
صوتٍ واحدٍ جهرًا عاليًا؟ وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: ٥٥) ، والمعتدون في التفسير هم الرّافعون أصواتهم
بالدعاء. ...
وعن أبي موسى قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ
فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على
أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم) ،
وهذا الحديث مِن تمام تفسير الآية، ولم يكونوا - رضي الله عنهم - يكبّرون على
صوتٍ واحدٍ، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا للآية ممتلئين وقد جاء عن
السلف أيضًا النهي عن الاجتماع على الذكر، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها
هؤلاء المبتدعون.
وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك، وهي الربط التي سموها بالصفة؛
ذكر من ذلك ابن وهبٍ وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لِمَن وفّقه الله.
فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنه فيما هم عليه مصيبون، وأساؤوا
الظن بالسلف الصالح أهل العلم الراجح الصريح، وأهل الدين الصحيح. ثُم لمّا
طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجبب وهم لا يعلمون، وقوّلوه ما لا
يرضى به العلماء، وقد بيّن ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا،
فأجاب بـ: إن مجالس الذكر المذكورة في الأحاديث؛ إنها هي التي يتلى [١٠] فيها
القرآن، والتي يُتعلم فيها العلم والدين، والتي تعمُر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة
والنار. كمجالس سفيان الثوري والحسن وابن سيرين، وأضرابهم.
أمّا مجالس الذكر اللساني فقد صرّح بها في حديث الملائكة السياحين، لكن لمْ
يذكر فيه جهرًا بالكلمات، ولا رفع أصوات، وكذلك غيره. لكن الأصل المشروع
إعلان الفرائض وإخفاء النوافل. وأتى بالآية، وبقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء
خَفِيًّا} (مريم: ٣) ، وبحديث: (أربعوا على أنفسكم) - قال -: وفقراء الوقت
قد تخيّروا بآيات، وتميّزوا بأصواتٍ، هي إلى الاعتداء، أقرب منها إلى الاقتداء،
وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة، أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة.
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد. وهي دليلٌ على أن فتواه المحتج بها
ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة. فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت، فأجاب
بذمّهم، وأن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتناول عملهم. وفي الأولى
إنما سئل عن قومٍ يجتمعون لقراءة القرآن، أو لذكر الله. وهذا السؤال يصدق عن
قوم يجتمعون مثلاً في المسجد فيذكرون الله، كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن
نفسه، كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم التنبيهُ
عليه، فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه، فلما
سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بيّن ما ينبغي أن يعتمد على الموفق، ولا
توفيق إلا بالله العلي العظيم. اهـ المراد منه.
((يتبع بمقال تالٍ))