للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مصطفى عبد الرازق


ذكرى رينان في الجامعة المصرية
محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني
(٢)

كلمة المنار في المحاضرة [*]
تفصيل لرأي السيد جمال الدين في أن الحضارة والحكمة منوطتان بالدين:
تقدم أن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق قد استنبط مما فهمه من كلام السيد
الذي خلص إليه من ثلاث ترجمات أنه بعد وصوله إلى باريس في سنة ١٨٨٣ دخل
طورًا جديدًا تغير فيه اعتقاده ورأيه في الإسلام، وكونه منشأ العلم والحكمة
والعمران، وبيَّنا أن ما نقله إلينا من الترجمة الثالثة لكلام السيد فيه ما يدل على
خلاف ذلك، وأن فهمنا مُؤَيَّد بما نقله لنا عنه من عاشروه قبل سنة ١٨٨٣ وبعدها
وبآثاره بعدها، وأهمها جريدة (العروة الوثقى) التي أنشأها بباريس في أوائل سنة
١٨٨٤ عقب رده على رينان، وشهادة هذا له بالفلسفة والعرفان، لظنه أنه (آريّ)
من عنصر الأفغان.
نسبة هذه الجريدة إلى السيد جمال الدين متواترة؛ لأن ألوفًا من النُّسَخ كانت
تُوَزَّع منها في عهده في أقطار الأرض كلها، ولا يزال في الناس من يحفظ نسخها
الأصلية، ومَن نَسَخَها عنها مثلنا، على أنها طبعت بعد ذلك برمتها. وقد صرح
في فاتحة العدد الأول منها بأنه هو المنشئ لها والمدير لسياستها، والشيخ محمد
عبده وإن كان رئيس تحريرها، لم يكن يخرج فيها عن رأيه بل كان يعبر عنه،
وكثيرًا ما كان يتلقاه منه، وكان الغرض منها معالجة ما طرأ من الضعف على
المسلمين وإرشادهم إلى الوسائل التي يستعيدون بها قوتهم ومجدهم وحضارتهم
وإنقاذ بلادهم من الأجانب، ووقاية دينهم مما يهدده من النوائب، وقد اعتمد في ذلك
كله على إرشاد القرآن وهدايته، والرجوع في فهمه والعمل به إلى منهج الخلفاء
الراشدين وسائر السلف الصالح.
ومن المعلوم بالضرورة أن هذا الغرض لا يتم في هذا العصر إلا بالعلوم
والفنون الرائجة في أوروبة وأمريكة والتي هي منشأ قوتها وحضارتها.
أفرأيت لو كان السيد جمال الدين رجع بباريس سنة ١٨٨٣ عن رأيه في كون
الدين ولا سيما الإسلامي لا يتفق مع العلم والحكمة، أكان يبني سياسته في إعادة مجد
المسلمين على هذه الدعوة؟ كلا إنه لو دخل في الطور الذي استنبطه صاحب تلك
المحاضرة، لجعل دعوته فلسفية محضة مشوبة بفصل الدين من السياسة، وبالتشكيك
في الدين أو الصد عنه، كما فعل النصارى في أوروبة من قبل، وكما يفعل مقلدتهم
من متفرنجة المصريين والترك والفرس.
لكنه لم يفعل ذلك بل جعل دعوة الإصلاح كلها قائمة على إحياء هداية القرآن
وصحيح السنة، وسيرة السلف الصالح من الأمة، وهذه حجتنا الناهضة على أن ما
سلم به لرينان من اضطهاد بعض المسلمين للعلم إنما كان بسوء فهمهم للإسلام،
وأن الإسلام المشوب بالبدع والأهواء هو الذي يناهض الحكمة والعلم لا إسلام
القرآن الذي كان المسلمون يفهمونه في إبان سلطان الدولة العربية قبل تغلب العجم
عليهم وتحكمهم في دينهم ودنياهم، كما نقلنا التصريح بذلك عن الأستاذ الإمام
بالإجمال، وأحلنا على كتابه (الإسلام والنصرانية) لمن يريد التفصيل، وننقل هنا
بعض الشواهد على ذلك من أشهر مقالات (العروة الوثقى) التي لا انفصام لها.
(الشاهد الأول)
من العدد الثاني الذي صدر بباريس في ٢٠ مارس سنة ١٨٨٤.
جاء في أواخر مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) من هذا العدد ما نصه:
(ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية وثابر
على رعايتها، وأخذ الدهماء بحدودها، وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع
لها، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز بسطة في
الملك وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة
بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابًا ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير
الجيوش ولا مظاهرة الدول العظيمة، ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية
ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين والرجوع إلى الأصول
الأولى من الديانة الإسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة، وتتجدد لوازم
المنعة.
أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة
سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم
وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة وهو المعبر عنه في الاصطلاح
الشرعي بسعادة الدارين) ... إلخ.
ثم ختم المقالة بهذه الجملة (فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد
شرعهم وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم الله
بسطة في الملك وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة هذا الدين، وفقنا الله للسداد،
وهدانا سبيل الرشاد) .
(الشاهد الثاني)
من العدد ٣ المؤرخ في ٢٧ مارس سنة ١٨٨٤.
في هذا العدد مقال طويل جعلنا عنوانه في تاريخ الأستاذ الإمام (ماضي الأمة
وحاضرها، وعلاج عللها) ذكر فيه خلاصة آراء أهل العصر في ترقية الأمم من
نشر الجرائد وإنشاء المدارس، وتعميم المعارف، وبيَّن أن هذا العلاج في
المصريين والعثمانيين لم يأت بالمطلوب من الحرية والعزة والاعتصام من استذلال
الأجانب إذ كان تقليدًا لم تكن له غاية إلا نسف ثروتهم، وأن المتشدقين منهم بألفاظ
الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها يصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا
تعرف غايتها، ولا تدرك بدايتها، وإن المقلدين من كل أمة المنتحلين لأطوار
غيرهم يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط
الوساوس، ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين
قلدوهم، واحتقار مَن لم يكن على مثالهم، شؤمًا على أبناء أمتهم، يذلونهم
ويحقرون أمرهم، ويستهينون بجميع أعمالهم. إلى أن قال: ولهذا لو طرق
الأجانب أرضًا لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم، ويعرضون
أنفسهم لخدمتهم إلخ (ثم بين رأيه بما نصه) : (لا أطيل عليك بحثًا، ولا
أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني أستلفت نظرك إلى سبب يجمع
الأسباب، ووسيلة تحيط بالوسائل: أرسل طرفك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد
النباهة وضعفت بعد القوة، واسترقت بعد السيادة، وضيمت بعد المنعة، وتبين
أسباب نهوضها الأول حتى تتبين مضارب الخلل، وجراثيم العلل، فقد يكون ما
جمع كلمتها، وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة
تشرف منها على رءوس الأمم وتسوسهم وهى في مقامها بدقيق حكمتها - إنما هو
دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة، داع إلى
المحبة، مُزَكٍّ للنفوس مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، مُنَوِّر للعقول بإشراق
الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات
البشرية وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية. فإن كانت
هذه شرعتها، ولها وردت، وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها
وهبوطها عن مكانتها إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا، وحدوث بدع
ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد
إليه الدين، وعمَّا أتى لأجله، وما أعدته الحكمة الإلهية له، حتى لم يبق منه إلا أسماء
تذكر وعبارات تقرأ. فتكون هذه الحادثات حجابًا بين الأمة وبين الحق الذي تشعر
بندائه أحيانًا بين جوانحها ...) .
(فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما
كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق،
وإيقاد نيران الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح لشرف الأمة؛ ولأن جرثومة الدين
متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها
نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها
في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا لشؤونهم، ووضعوا أقدامهم على طريق
نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نُصْبَ أعينهم، فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا
بسيرهم منتهى الكمال الإنساني ...)
(ومن طلب إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها
شططًا وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود فينعكس
عليه القصد ولا يزيد الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا) .
(هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن
محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة
الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل، وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى
أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد. هل نسيت تاريخ
الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات، وإتيان الدنايا
والمنكرات حتى إذا جاءها الدين فوحدها وقوَّاهَا وهَذَّبَهَا، ونَوَّرَ عقولها وقَوَّم أخلاقها
وسدَّد أحكامها، فسادت على العالم، وساست من تولته سياسة العدل والإنصاف،
وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها
وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى بلادهم طب بقراط
وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا
قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها
ومدنيتها في التمسك بأصول دينها ...) .
(تنبيه) إن هذه الجملة وحدها نص صريح في الرد على مزاعم رينان في
الإسلام على القاعدة التي بيَّناها. وعلى خطأ الأستاذ الشيخ مصطفي عبد الرازق
فيما فهمه من الترجمة الثالثة من رده.
(الشاهد الثالث)
من العدد الرابع المؤرخ في ٣ إبريل ١٨٨٤.
المقالة الاجتماعية لهذا العدد في المقابلة بين الإسلام والنصرانية وأتباعهما في
فنون الحرب، وكيف انحصرت في اتباع دين الزهد والسلم، وبعد أن بيَّن سبب
عناية الشعوب الأوربية في القتال وفنونه وآلاته خلافًا لتعاليم دينهم، قال: (أما
المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا وأخذوا من كل كمال حربي حظًّا،
وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المُقَارَعَة،
وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه وخلطوا بأصوله
ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها
وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة
فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر الوجود
وعدُّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من
الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها في الكتب
وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم
وفتورًا في العزائم.
وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره
عن العامة خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم والتقصير في إرشاد الكافة إلى
أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة
الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة معينة. لعل
هذا هو العلة في وقوفهم بل المُوجِب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما
نسأل الله السلامة منه) .
(إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن
رعايته وإن كان حجابها كثيفًا لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها
بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين
المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم،
ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة، فلا بد يومًا أن
يسطع ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتْلَى بين المسلمين وهو
كتابهم المنزل، وإمامهم الحق، وهو القائم بأمرهم، بحماية حوزتهم، والدفاع عن
ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المَنَعَة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا
يخصص لها طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى
مقاضاة الزمان ما سلب منهم فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة
والمصاولة، حفظًا لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم عن الذل، وملتهم عن الضياع، وإلى الله
تصير الأمور) .
(الشاهد الرابع)
من العدد الخامس المؤرخ في ١٠ إبريل ١٨٨٤.
المقالة الاجتماعية لهذا العدد في الاعتصام وجمع كلمة المسلمين بيّن فيها هدي
الدين الإسلامي في الموضوع وأثره في سلف المسلمين وخلفهم، وشكا مما ألم بهم
من التفرق والانفصام بعد الوحدة والالتئام، وبيَّن سبب ذلك وبدأه بقوله: (بدأ
هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن
رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم
والتفقه في الدين والاجتهاد أصوله وفروعه كما كان الراشدون رضي الله عنهم) .
(كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حدٍّ
لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى خلافة
عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس.
تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك،
فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل
القوة والشوكة، ولا يرعون جانب الخلافة) .
(وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده،
وتيمورلنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً، حتى أذهلوهم عن أنفسهم
فتفرق الشمل بالكلية، وانفصمت عُرَى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا ... إلخ) .
إلى أن قال: (وكان الواجب على العلماء - قيامًا بحق الوراثة النبوية التي
شرفوا بها على لسان الشارع - أن ينهضوا لأحياء الرابطة الدينية ويتداركوا
الاختلاف الذي وقع في الملك ... إلخ)
(تنبيه) السيد جمال الدين يحقق أن السبب الأول لضعف المسلمين هو
انتقال الخلافة إلى غير العلماء المجتهدين في الدين خلافًا لرينان الذي يزعم أن
سبب ضعف المسلمين هو دينهم حتى إنه زعم أن العلماء الكبار من خلفاء العباسيين
كالمنصور والرشيد والمأمون كانوا مرتدين عن الإسلام في باطنهم الذي زعم أنه
اكتشفه هو بعد زهاء ألف سنة! !
(الشاهد الخامس)
من العدد السادس المؤرخ في ٢٤ إبريل.
المقالة الاجتماعية لهذا العدد موضوعها (التعصب) بيَّن فيها حقيقة التعصب،
وهو القيام بالعصبية لحماية من تجمعهم رابطة نسب أو جنس أو وطن أو دين
بحماية أنفسهم من عدوان المخالفين لهم، وتعاونهم على القيام بمصالحهم ومنافعهم،
وبيَّن أنه وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا تفريط وإفراط، وأن
الاعتدال فيه من أسمى الفضائل، كما أن الخروج عنه من أضر الرذائل، ثم قال ما
نصه وهو محل الشاهد:
(ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني
وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم، وتضافرهم لدفع ما يَلُمُّ
بدينهم من غاشية الوهن والضعف - هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية
ويحجبهم عن نور العلم والمعرفة ويرمي بهم في ظلمات الجهل ويحملهم على الجور
والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم. ومن رأي أولئك المتفقين أن لا سبيل
لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبة الدينية ومحو أثرها وتخليص
العقول من سلطة العقائد، وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي ويخوضون في
نسبة مذام التعصب إليهم) .
(كذب الخراصون ‍! إن الدين أول معلم، وأرشد أستاذ، وأهدى قائد للأنفس
إلى اكتساب العلوم والتوسع في المعارف، وأرحم مؤدب، وأبصر مروض يطبع
الأرواح على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة، ويقيمها على جادة العدل، وينبه
فيها حاسة الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من
أعرق الأمم في التوحش والقسوة والخشونة، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة
والمدنية في أقرب مدة، وهي الأمة العربية) اهـ.
(تنبيه) هذا نص صريح في الرد على رينان أثبت فيه أن العرب بلغوا
أرقى مراقي الحكمة (الفلسفة) والمدنية بدينهم، ودليل على أن السيد جمال الدين
لم يتغير رأيه في الدين بباريس سنة ١٨٨٣.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))