للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إيمان المسلمين وأعمالهم

جاء في الجزء ٨ من مجلة بشائر السلام نبذة تحت هذا العنوان ملخصها أنه
يجوز على مذهب أهل السنة (أن يؤمن أحد بالإسلام إيمانًا حقيقيًّا وتبقى أعماله
شريرة) واعترض الكاتب على هذا اعتراضين؛ أحدهما: أن الإيمان الذي لا
ينشئ في صاحبه توبة وعملاً صالحًا بل يتركه وسيئاته تفوق حسناته ومضاره تزيد
عن منافعه.. . فهو إيمان باطل عديم النفع يحط من كرامة الخلق ويزيد في شقاوة
المخلوق. ثانيهما: عجز الإيمان المحمدي عن الخلاص التام.
وقد أورد الكاتب بعد الاعتراض الأول كلمات من كتب العهدين تدل على أنه
يطلب من الإنسان أن يكون كاملاً، ولكنها لا تدل على أن المؤمن يكون معصومًا من
الذنوب، وأورد بعد الثاني كلمات تدل على أن الإيمان بالمسيح كافٍ للخلاص ولكن
لم يشترط مع الإيمان عملاً صالحًا.
لو كان هؤلاء المعترضون يعتقدون بما يقولون لكانت هدايتهم قريبة وإقناعهم
أقرب ولكنهم يلوكون الكلام ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليفتنوا به عامة المسلمين
الجهلاء ولا يبالون إن كان الكلام حجة عليهم، عهدهم الجديد ناطق بأن البر والعمل
بالناموس الإلهي لا يغنيان عن الإنسان شيئًا وإنما يغني عنه الإيمان بالمسيح فقط
وبذلك ينجو ويرث الملكوت وإن كان شر الأشرار وأفجر الفجار والقرآن لا يكاد
يذكر الإيمان إلا مقرونًا بذكر العمل الصالح، وورد في السنة الصحيحة أن الإيمان
قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وهذه السنة مؤيدة بخمس وسبعين آية
من القرآن، وهذا ما عدا الآيات التي ذكر فيها العمل الصالح بدون ذكر الإيمان قال
تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: ٨٢) وقال
عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ
لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: ١٢٣-١٢٤) وقال جل
ذكره: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ *
أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاّ} (الأنفال: ٢-٤) وقال تقدست أسماؤه: {وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: ١-٣) ، فهذه السورة القصيرة أجمع للفضائل،
وأبلغ في الهداية من جميع الكتب التي في العالم سماوية كانت أو غير سماية، وهي
كافية لأن تكون دينًا مستقلاً لقوم يتدبرون.
إن الشبكة التي يصيد بها الجاهلين هذا الكاتبُ وأمثاله إلى المسيحية هي أن
خلاص الإنسان محصور في أن يؤمن - أي: يقول وإن لم يعقل - أن الإله مركب
من ثلاثة أصول كل واحد منها عين الآخرين، فالثلاثة واحد، وأن أحد الثلاثة وهو
الابن حل في جسم إنسان بواسطة آخر وهو روح القدس فصار هذا الإنسان الإله
وابن الإله وإنسانًا وابن الإنسان وصار هو الله ثم إنه سلط أعداءه على نفسه
فصلبوه واحتمل الألم واللعنة الإلهية لأجل خلاص الناس من ذنب أبيهم آدم؛ لأنه لم
يجد غير هذه الطريقة لخلاص عباده.
لا يطلب هذا الكاتب وأمثاله ممن يدعوهم إلى دينه إلا هذا القول الذي لا يعقل
ولا يحمل النفس على عمل صالح بل يجرِّئها على جميع المعاصي، والجاهل يحب
أن تباح له المعاصي ويكون ناجيًا بكلمة يقولها، فإذا كان دعاة النصرانية قد بدا لهم
أن يشترطوا مع هذه الكلمة التي يسمونها إيمانًا ترك المعاصي والأعمال الصالحة
فأية مزية لدينهم غير تلك الكلمة التي لا تعقل ولا تفهم؟ ألا يعلم أنه إذا دعا مسلمًا
إلى دينه وطالبه بترك المعاصي وبعمل الصالحات فإنه لا يستطيع أن يصيده مهما
كان جاهلاً؛ لأنه يقول: إن هذا يكلفني بمثل ما يكلفني به ديني ويزيد علي ثقلاً
آخر وهو الإيمان بما لا أعقله ولا أفهمه وهو أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن الله
عجز عن إنجاء الناس بدون أن يهين ذاته العلية بالحلول في أحدهم وبالتألم وبلعن
نفسه.
المسلمون يعتقدون أن الإيمان يهذب الأخلاق ويصلح الأعمال، وأنه يجوز مع
ذلك أن تغلب على شهوته أو غضبه فيعمل شرًّا لا سيما إذا لم يترب على أعمال
الإيمان من النشأة الأولى ولكنه يرجع ويتوب عن قريب قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: ٢٠١)
وقال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: ١٧) ومن التوبة أن يعمل صالحًا
يكفر سيئته {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} (هود: ١١٤) فإذا قصر فهو تحت
مشيئة الله.
فتبين مما ذكرنا بالاختصار أن الإيمان عند المسلمين يثمر الأعمال الصالحة
وأن العمل لا قيمة له في إيمان النصارى، أما قول مجلة بشائر السلام في نتيجة
الاعتراض الأول: (وبناءً على ما تقدم كل إيمان لا يكون الكمال غايته والتقوى
ثمرته فهو إما إيمان كاذب بالإله الحق كإيمان النصارى بالاسم واليهود بالاسم أو
إيمان صادق لكنه بإله باطل خيالي قائم على الأوهام) فهو مسلم ولقد أنصفت فيما
كتبت عن إيمان النصارى ولم يكن من شأنها ذلك فإن إيمانهم ليس إلا أسماء سموها
وأقوالاً لا تعدو الفم؛ لأن العقل ينكرها، ولا يستطيع أن يتصورها.
وأما قولها بعد ذلك: (وأظنك لم تنس ذكر القوم الذين هم على الإسلام بالإجماع
وهم مع ذلك من أهل العصيان والفجور بحيث يحكم عليهم بالسجن في جهنم مدة لا
تنقص عن تسعمائة سنة ولا تزيد عن سبعة آلاف) إلخ، فهذا التحديد فيه لم يصح
في كتاب ولا سنة فهو لا يعتد به عند المسلمين، وإن ذكر في بعض الكتب فكم في
الكتب من أحاديث موضوعة وأقوال مكذوبة، ولا حجة علينا إلا في القرآن
الكريم والأحاديث الصحيحة، وأما كلام المؤلفين في أمور الآخرة فلا يعتد به ما لم
يكن منقولاً على أنه لا يجب الإيمان فيما يتعلق بعالم الغيب كأحوال الآخرة إلا
بالقرآن والأحاديث المتواترة وهي قليلة جدًّا، وهذا الذي قلناه هو الأصل المعمول عليه عند المسلمين.
وأما قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: ٧١) فليس خطابًا
للمسلمين كما زعم الكاتب؛ لأن الآيات التي قبلها كلها في الكفار فقيل: إن الخطاب
لهم خاصة. وقيل: إنه عام. والمراد بورود المؤمنين حينئذ المرور عليها والجثو
عندها قبل دخول الجنة وبذلك يعرفون مقدار نعمة الله تعالى عليهم بدخول الجنة.
(كلمتان) أختم هذا الرد بكلمتين أولاهما للسلمين الذين يرسلون إلينا هذه الجرائد لنرد عليها: لا يحزنكم أيها المسلمون هذا الاعتداء الذي لم تعتادوه، ولا تعدوه من سيئات حرية المطبوعات فهو من حسناتها؛ لأن هذا الاعتداء على الطعن بدينكم هو الذي يوقظكم من نومكم ويبعث فيكم شعور البحث والاستدلال
ويحيي فيكم روح الغيرة الملية والمباراة القومية حتى تعرفوا حقائق دينكم
بالبراهين والدلائل، والبحث لا يزيد الحق إلا ظهورًا.
والكلمة الثانية للنصارى المعترضين، الذين يسمون أنفسهم مبشرين , وهي:
إننا نعتقد أنكم تطعنون بدين الإسلام الذي لولاه لا يثبت دين في هذا العصر المنير
مأجورين لا معتقدين بما تقولون وما تكتبون، ولذلك يترك أحدكم التبشير إذا عزل
من الجمعية ومنع عنه الراتب الذي كان له، ولو كنتم تعتقدون بالدين لعلمتم أن دين
الله واحد وهو تنزيه الباري وتوحيده والإخلاص في عبادته وترك الشرور وعمل
البر ونفع العباد، وكنتم ترون أن الإسلام قد خدم العالم الإنساني بهذا الإصلاح
المنقح وأنه هو دين الأنبياء أجمعين ظهر في أكمل ارتقاء وأخرج أهل الكتاب من
الخلاف والمشكلات ولكن الهوى يصدكم عن هذا فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون،
وانتظروا إنا منتظرون.