ودعاؤه لأهل الحرم بالرزق وما للمسلمين وعليهم من ذلك في هذا العهد
قضت حكمة الله تعالى أن يجعل الركن الاجتماعي العام لدينه الإسلام في بقعة من الأرض ليس للناس هوى فيها لذاتها، فهي لا تُقصد لاعتدال هوائها، ولا لعذوبة مائها، ولا لبهجة رياضها وجنى جناتها، حتى يكون الباعث على قصدها لأداء المناسك هو التعبد المحض والإخلاص لله تعالى فيه. وكان من شرع الله في هذه المناسك إهداء الأنعام لبيت الله تعالى، وإيجاب الفدية على من أخل بشيء من واجبات الإحرام عنده، وعلى من تمتع بالعمرة إلى الحج فيه؛ لأجل توسعة الرزق على سكان حرم الله تعالى. قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: ٢٦-٢٨) . بل كان من عناية الله بأهل حرمه وجيران بيته أن أنطق خليله إبراهيم بالدعاء لهم أن يجذب إليهم قلوب الناس، وأن يرزقهم من الثمرات، وهي غاية نعمة الرزق والرفاهة، قال تعالى:] وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [قال - أي الله تعالى - {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ} (البقرة: ١٢٦) فوعد تعالى بأن يرزق من كفر منهم وجحد نعمه بالرزق من الثمرات في الدنيا؛ وإنما يكون جزاؤه على الكفر في الآخرة لا بحرمان الرزق في الدنيا، وقال تعالى فيما قصه علينا من دعائه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: ٣٧) . استجاب الله تعالى دعاء خليله لأهل حرمه في كل زمان، فسخَّر لهم القلوب تهوي إليهم من كل مكان، وتتقرب إليه تعالى بإدرار الرزق عليهم، أجورًا لدورهم، وجزاء على خدمتهم، وصدقة على فقرائهم، وهدايا لأغنيائهم، إذ علموا أن هذه التوسعة عليهم من متممات نسكهم، وموجبات رضوان ربهم، حتى أن الله تعالى سخَّر لهم في عهد الحرب العامة دولتي إنكلترة وفرنسة تحمل الحجاج إليهم من المشرق والمغرب مع الإنفاق على هؤلاء الحجاج، وسخَّر الأولى لحمل الأرزاق لهم من الهند. وقد وفَّق الله تعالى أغنياء هذه الأمة المحمدية فوقفوا على حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى من الأطيان والبساتين والعقار في جميع الأقطار، مما لو حفظ كله أو جله وصرف ريعه في عمران المسجدين وما جعله الشرع حرمًا لكل منهما، وفي التوسعة على سكانهما - لكان الحَرَمان الشريفان أعظم بلاد الله تعالى عمرانًا، ولكان أهلهما أوسع عباد الله تعالى رزقًا وأبسطهم عيشًا، بحيث لا تنال منهم أمثال العسرة العالمية الحاضرة شيئًا. ولكن الفاسقين من الأفراد والظالمين من الحكام قد جعلوا كثيرًا من تلك الأوقاف ملكًا، وطمسوا معالمها طمسًا، على أن ما بقي منها معروفًا إلى الآن كافٍ لعمران الحجاز كله، وترفيه معيشة أهله، بل إن المعروف من أوقاف الحرمين في وزارة الأوقاف المصرية وحدها يفي بذلك، وإننا لا نجد لحكومة مصر عذرًا شرعيًّا في منع الحرمين الشريفين حقهما من أوقافهما والتصرف فيها بغير ما وقفت عليه. هل يصح أن يكون منع ملك الحجاز استمرار بدعة المحمل المنكرة الخرافية سببًا شرعيًّا لحرمان الحرمين وسكانهما من ريع هذه الأوقاف؟ هذا ما لا يقول به مسلم يعرف الإسلام، ولو لم يكن المحمل بدعة مشتملة على كثير من المنكرات الشرعية التي صرَّح الفقهاء بتحريم الاحتفال به، والتفرج بالنظر إليه - فكيف يكون التعبد والتبرك به وجعله من قبيل مناسك الحج؟ هل يصح أن يكون عدم اعتراف الحكومة المصرية بحكومة الحجاز الحاضرة عذرًا شرعيًّا لهذا المنع والحرمان؟ كلا إن هذا ذنب وذلك ذنب؛ ولكن بعض رجال الحكومة المصرية يلبسون الشرع بالسياسة كما اعتذر المرحوم عبد الخالق ثروت باشا عن عدم إرسال كسوة الكعبة المشرفة باحتمال رد الوهابية لها بادعاء أنها بدعة كالمحمل، قال هذا في جواب البرلمان وقبله منه البرلمان مع علمه وعلم أعضاء البرلمان أن الملك ابن السعود قبل الكسوة السابقة ووعد بقبول اللاحقة التي لم تُرسل، ومع علم الجميع بأن المحمل بدعة ابتدعته شجرة الدر، وأن كسوة الكعبة مشروعة مجمع عليها بين المسلمين، وقد صنعها ابن السعود بعد منع مصر لها، فاستأثر بهذا الشرف من دونها. وقد بلغنا عن بعض رجال الحكومة أنهم يعتذرون عن منع مخصصات الحجاز السنوية من مال وغلال وهي دون حق الحجاز أن ناظر أوقاف مصر لا يأمن حكومة الحجاز على وضعها في مواضعها، ويتعذر على وزارة الأوقاف توليها لتوزيعها وإشرافها عليه ومراقبتها له، وهذه التعليلات غير صحيحة، ولو صحت لما صلحت أن تكون سببًا لمنع هذه الحقوق أهلها، فحكومة الحجاز أمينة ويمكنها إثبات توزيع ما يُرسل إليها على مستحقيه، وهي لا تمنع عمال وزارة الأوقاف عن توزيع ما تشاء من المال إذا لم يكن بصفة تتضمن الطعن بأمانتها، ولو فرضنا أن الذين يتولون توزيعها يخونون بأكل شيء منها لما كان هذا مبيحًا لمنعها كلها عن جميع مستحقيها، وقد يكون هؤلاء الخونة المفروض وجودهم منهم. ما لنا وللأعذار السياسية، والسياسة ما زالت تُلبس الحق بالباطل، وتكتم الحق الصريح على علم بأنه الحق، نحن الآن أمام خطب عظيم يجب فيه تحكيم الرحمة التي هي فوق الحقوق الرسمية، والمماراة السياسية. إن جيران الله وجيران رسوله محتاجون، وقد تكون العسرة العامة أشد عليهم من غيرهم، وإن حقوقهم على المسلمين كافة أكبر من حقوق غيرهم من إخوانهم في الدين، فعلى المسلمين في جملتهم أن يتقربوا إلى الله تعالى بتوفير ما امتن به على سكان حرمه من إغداق الرزق عليهم حتى احتج على المشركين منهم بقوله: {أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} (القصص: ٥٧) . وعلى المسلمين أن يتقربوا إليه عز وجل بأن يكونوا مظهرًا محققًا لدعاء خليله إبراهيم بسعة هذا الرزق عليهم، ولدعاء محمد رسول الله وخاتم النبيين بالدعاء لأهل حرمه أيضًا. والذي أقترحه على خيار المسلمين في هذه العسرة أن يقبل المستطيعون على الحج، ويكون الذين يوفقهم الله تعالى لأدائه أسخياء، يبسطون أيديهم بالعطاء للمطوفين والمزورين والخدم، وبالصدقات على الفقراء؛ فإن ثواب المناسك في هذا العام مضاعف، وثواب جميع النفقات في الحرمين مضاعف، وليذكروا فيه حجة الوداع لمن هداهم الله تعالى إلى هذه السعادة برسالته، وشرَّفهم بجعلهم من أمته، صلى الله عليه وآله وصحابته، وأنه أهدى في حجته هذه إلى بيت الله تعالى مائة بدنة (جمل) نحر بيده الشريفة منها في منى ثلاثًا وستين (وهي عدد سني عمره الشريف) وأمر ربيبه عليًّا كرم الله وجهه فنحر الباقي. وليحذر كل مسلم من فتنة بعض المضلين والملحدين الذين يصدونهم عن التوسع في النفقة في الحرمين الشريفين ويغرونهم بالمشاحة والمماكسة فيها، ويصفون جيران الله ورسوله بالطمع في أموال الحجاج، حتى صار المفتونون بأقوالهم يعدون كل ما يقرِّب إلى الله تعالى من النفقة هنالك مغرمًا من المغارم، وإن كانوا يسرفون في سائر النفقات حتى المكروهة والمحرَّمة منها في بلادهم ولا سيما أماكن اللهو والفسق الخاصة بالأجانب، دع إسراف الفساق في بلاد الإفرنج، وإني لأخشى على صاحب هذا الشعور أن يكون حجه غير مبرور، وسعيه غير مشكور وأن يكون بهذا مأزورًا غير مأجور. بل أحدث أعداء الإسلام من الأجانب ومن ملاحدة أهل دينه دعاية أخرى شرًّا من هذه وهي ترك الحج لما فيه من إضاعة ثروة الوطن في بلاد العرب، وهذا ضرب من الدعاية إلى ترك الإسلام من أهله؛ وإنما المسلم من يفضل النفقة في الحرمين الشريفين على النفقة في وطنه تقربًا إلى الله تعالى، وقد صار أكثر الحجاج من الفقراء الذين يزاحمون أهل الحرمين في رزقهم. أخبرني الشيخ الرحالة عبد الرشيد إبراهيم أنه رأى مرة في البيت الحرام رجلاً من حجاج بلخ فسأله عن فائدة حجه، فأجابه بأن الله تعالى جعل بيته في هذه البقعة الجرداء، وسخَّر لأهله الناس لأجل أن يمونوهم ويدروا عليهم الأرزاق، ففائدتي أنني ممن سخَّرهم الله تعالى لما يحبه من ذلك، فهذا البلخي الأعجمي قد فهم من هذه الحكمة من حكم الحج ما لم تفهمه الألوف الكثيرة من المسلمين. وأختم هذه الذكرى بمخاطبة مولانا صاحب الجلالة ملك مصر بسم الله وبما تقدم من آيات كتابه وسنة خليله إبراهيم، وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليهما، أن يصدر أمره لوزارة الأوقاف بإرسال جميع مخصصات الحرمين المتأخرة إليهما في هذا العام؛ فإنه يكون بحسن النية أكبر أجرًا من جميع الحجاج فيما ينفقون فيه، وإن لم يبذل من ماله الخاص شيئًا، ويكون له أعلى الذكر وأرفع الشرف والحمد في جميع العالم، وترفع في بيت الله ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر مشاعر الحج أصوات البائسين وغيرهم بالدعاء المرجو الإجابة له ولولي عهده و {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (التوبة: ١٢٠) .