للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


لائحة التعليم الديني للمملكة العثمانية

هي إحدى اللوائح الإصلاحية الدينية منقولة من فصل (لوائح الإصلاح
والتعليم الديني) من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام الذي يطبع الآن وهي
بحروفها:
(اللائحة الأولى)
كتبها في منفاه ببيروت ووقع عليها مع بعض وجهاء المسلمين وأرسلها إلى
سماحة شيخ الإسلام بالآستانة وذلك في ٢٦ جمادَى الثانية سنة ١٣٠٤ ومنها يعلم
أنه لم يألُ جهدًا في النصح للدولة وأنها لو عملت بإرشاده وصدقت أمله ورجاءه
الحسن فيها لأحيت الإسلام وجددت مجده، وكانت بذلك ذات سيادة إسلامية حقيقية.
وهذا نص ما كتبه، رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة وصلى الله على نبيه وآله
وصحبه. وبعد:
فقد رأينا وسررنا كما سر المسلمون كافة بما نشر في جريدة الطريق من أنه
صدرت الإرادة السنية إلى حضرة صاحب السماحة مولانا شيخ الإسلام بأن تؤلف
تحت رياسته العلمية لجنة أعضاؤها حضرات صاحبي السماحة نوري أفندي أمين
الفتوى، وحسني أفندي رئيس مجلس المعارف، وصاحب العطوفة عبد النافع
أفندي، وصاحب الفضيلة خوجة إسحاق أفندي، وأن يناط بهذه اللجنة إصلاح
جداول الدروس في المكاتب الإسلامية [١] وتقويمها حتى تكون كافلة بجميع الوسائل
الصحية لتعليم أولاد المسلمين وتلقينهم ضروريات الدين الإسلامي وتربيتهم بالآداب
والأخلاق الإسلامية على وفق الحق المطلوب.
وإن حضرة مولانا شيخ الإسلام وحضرات أعضاء اللجنة الكرام وإن كانوا
في غِنًى بآرائهم القويمة ومعارفهم الواسعة عن أن يتقدم إليهم أمثالنا بالمشورة ولكنها
الحمية للدين تبعثنا على بسط ما يلوح بخواطرنا إلى أولياء أمورنا مع الاعتراف
بالعجز والإقرار بالقصور عملاً بقول سيدنا علي - كرم الله وجهه -: (من واجب
حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم، وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق
منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - يفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه، ولا
امرؤ - وإن صغرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يعان
عليه) .
إن مَن له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية
العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين،
الكافلة ببقاء حوزته، وليس للدين سلطان في سواها، وإنا والحمد لله على هذه
العقيدة عليها نحيا وعليها نموت.
إن للخلافة الإسلامية حصونًا وأسوارًا، وإن أحكم أسوارها ما استحكم في
قلوب المؤمنين من الثقة بها، والحمية للدفاع عنها، ولا معقد للثقة ولا موقد للحمية
في قلوب المسلمين إلا ما أتاهم من قبل الدين ومن ظن أن اسم الوطن ومصلحة
البلاد ومشاكل ذلك من الألفاظ الطنانة يقوم مقام الدين في إنهاض الهمم وسوقها إلى
الغايات المطلوبة منها - فقد ضل سواء السبيل.
المسلمون قد تحيف الدهر نفوسهم، وأنحت الأيام على معاقد إيمانهم، ووهت
عرى يقينهم، بما غشيهم من ظلمات الجهل بأصول دينهم، وقد تبع الضعف فساد
الأخلاق، وانتكاس في الطبائع وانحطاط في الأنفس، حتى أصبح الجمهور الأغلب
منهم أشبه بالحيوانات الرتع غاية همهم أن يعيشوا إلى منقطع أجيالهم يأكلون
ويشربون ويتناسلون ويتنافسون في اللذات البهيمية وسواء عليهم بعد ذلك أكانت
العزة لله ورسوله وخليفته أو كانت العزة لسائد عليهم من غيرهم. وهؤلاء الهنديون
وسكان ما وراء النهر وقبائل التركمان وأشباههم يمثلون هذه الرزية أظهر تمثيل،
ولم تكن هذه المحنة خاصة بقوم من المسلمين دون قوم ولكن عمت بها البلية حتى
خشي على قلوب كثير من العثمانيين أن يمسها هذا المرض الخبيث لولا أن تدركها
قوة مولانا أمير المؤمنين - خلد الله ظله -.
هذا الضعف الديني قد نهج لشياطين الأجانب سبل الدخول إلى قلوب كثير من
المسلمين واستمالة أهوائهم إلى الأخذ بدسائسهم والإصاخة إلى وساوسهم فخلبوا
عقول عدد غير قليل، ثم انبثت دعاتهم في أطراف البلاد الإسلامية حتى العثمانية
لتضليل المسلمين، فلا نرى بقعة من البقاع إلا فيها مدرسة للأمريكانيين أو
اليسوعيين أو العزارية أو الفرير أو لجمعية أخرى من الجمعيات الدينية الأوربية
والمسلمون لا يستنكفون من إرسال أولادهم إلى تلك المدارس طمعًا في تعليمهم
بعض العلوم المظنون نفعها في معيشتهم أو تحصيلهم بعض اللغات الأوربية التي
يحسبونها ضرورية لسعادتهم في مستقبل حياتهم. ولم يختص هذا التساهل المحزن
بالعامة والجهال، بل تعدى إلى المعروفين بالتعصب في دينهم بل لبعض ذوي
المناصب الدينية الإسلامية. وأولئك الضعفاء أولاد المسلمين يدخلون إلى تلك
المدارس الأجنبية في سن السذاجة وغرارة الصبا والحداثة ولا يسمعون إلا ما
يناقض عقائد الدين الإسلامي ولا يرون إلا ما يخالف أحكام الشرع المحمدي، بل لا
يطرق أسماعهم إلا ما يزري على دينهم وعقائد آبائهم ويعيب عليهم التمسك بعُرى
الطاعة لأوليائهم ويقع ذلك في نفوسهم موقع القبول؛ لأنه من أساتذتهم القُوَّام على
تربيتهم بإذن آبائهم، ولا نطيل القول فيما يتلقونه من العقائد الفاسدة والآراء الباطلة،
فذلك أمر أعرف من أن يبين.
فلا تنقضي سِنو تعليمهم إلا وقد خوت قلوبهم من كل عقد إسلامي وأصبحوا
كفارًا تحت حجاب اسم الإسلام، ولا يقف الأمر عند ذلك بل تعقد قلوبهم على محبة
الأجانب وتنجذب أهواؤهم إلى مجاراتهم ويكونون طوعًا لهم فيما يريدونه منهم ثم
ينفثون ما تدنست به نفوسهم بين العامة بالقول والعمل، فيصيرون بذلك ويلاً على
الأمة، ورزية على الدولة، نعوذ بالله.
ولو فقه المسلمون لبذلوا من أموالهم ما يجيدون به تربية أبنائهم مع استبقائهم
مسلمين في العقيدة، عثمانيين في النزعة، هذا ما جلبه الجهل على الأمة الإسلامية
وإن غائلته لمن أشد الغوائل، وقد كنا نخاف أن تحل بوائقها لو لم تدفعها عزيمة
مولانا أمير المؤمنين.
أما المكاتب والمدارس الإسلامية فقد كانت إما خالية من التعليم الديني جملة،
وإما مشتملة على شيء قليل منه لا يتجاوز أحكام العبادات على وجه مختصر
وطريق صوري لا يعدو حفظ العبارات مع الجهل بالمدلولات، ولهذا رأينا كثيرًا
ممن قرؤوا العلوم في المدارس العسكرية وغيرها خلوًّا من الدين وجهالاً بعقائده
منكبين على الشهوات وسفساف الملذات لا يخشون الله في سر ولا جهر، ولا
يراعون له حكمًا في خير ولا شر وانحط بهم ذلك إلى الكلب في الكسب والانصباب
على طلب التوسعة في العيش، لا يلاحظون فيه حلالاً أو حرامًا ولا طيبًا أو خبيثًا،
فإذا دُعوا إلى الدفاع عن الملة والدولة ركنوا إلى الراحة ومالوا إلى الخيانة وطلبوا
لأنفسهم الخلاص بأية وسيلة.
وبالجملة، فإن ضعف العقيدة والجهل بالدين قد شمل المسلمين على اختلاف
طبقاتهم إلا من عصم الله وهم قليلون، ولهذا تراهم يفرون من الخدمة العسكرية
ويطلبون للتخلص منها أية حيلة وهي من أهم الفروض الدينية المطلوبة منهم ونرى
غيرهم من الأمم يتسابقون إلى الانتظام في سلك جنديتهم مع أنها غير معروفة في
دينهم، بل مضادة لصريح نصوصه ونرى المسلمين يبخلون بأموالهم إذا دعت
الأحوال إلى مساعدة الدولة والإنفاق على مصالح الأمة ولا يبخلون بذاك على
شهواتهم بعكس ما نرى في سائر الأمم. هكذا انطفأ من المسلمين مصباح العقل فلا
يعرفون لهم رابطة يرتبطون بها ولا يهتدون إلى جامعة يلجأون إليها وتقطع ما بينهم
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: ١٤) ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
هذه أحوال نذكر منها القليل والله يعلم أن الواقع منها أكثر من الكثير نذكرها
مقرونة بأنفاس الأسف وصعداء الحزن لما نعلم أن الأجانب قد أرسلوا ذئابهم
يتخطفون شاذتهم وأغلبهم شاذة ويفترسون نادتهم وجمهورهم نادة ومسارعة الفساد
فيهم مشهورة يحس بازديادها كل سنة عما قبلها وإن عواقب ذلك لتخشى ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
وإذا استقرينا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب هذا الخذلان لا نجد إلا سببًا
واحدًا وهو القصور في التعليم الديني إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد وإما
بالسلوك إليه من غير طريقه القويمة كما في بعض آخر أما الذين أهمل فيهم التعليم
الديني فجمهور العامة في كل ناحية لم يبقَ عندهم من الدين إلا أسماء يذكرونها ولا
يعتبرونها، فإن كانت لهم عقائد فهي بقايا من عقائد الجبرية والمرجئة من نحو أنه
لا اختيار للعبد فيما يفعله وإنما هو مجبور فيما يصدر منه جبرًا محضًا، فلهذا لا
يؤاخذ على ترك الفرائض ولا اجترام السيئات ومثل أن رحمة الله لا تدع ذنبًا حتى
تشمله بالغفران قطعًا لا احتمال معه للعقاب فليفعل الإنسان ما يفعل من الموبقات
وليهمل ما يهمل من المفروضات فلا عقاب عليه وما شاكل ذلك مما أدى إلى هدم
أركان الدين من نفوسهم واستل الحمية من قلوبهم، ولا منشأ لهم إلا عدم تعليمهم
عقائد دينهم وغفلتهم عما أودع في كتاب الله وسنة رسوله، وأما الذين أصابوا شيئًا
من العلم الديني فمنهم من كان همهم علم أحكام الطهارة والنجاسة وفرائض الصلاة
والصيام وظنوا أن الدين منحصر في ذلك ومتى أدوا هاتين العبادتين على ما نص
في كتب الفقه فقد أقاموا الدين وإن هدموا كل ركن سواهما ويشتركون مع الأولين
في تلك العقائد الفاسدة. ومنهم من زاد على ذلك علم الفروع في أبواب من
المعاملات متخذًا ذلك آلة للكسب وصنعة من الصنائع العادية وأولئك الأغلب من
طلاب الإفتاء والقضاء ووظائف التدريس وما شاكل ذلك لا ينظرون من الدين إلا
من وجه ما يجلب إليهم المعيشة، فإن مال بهم طلب العيش إلى مخالفته لم يبالوا
بذلك معتقدين على مثل عقائد الجهلة مما قدمنا وهؤلاء لا تختص مفاسد أعمالهم
بذواتهم، ولكنها تتعدى إلى أخلاق العامة وأطوارهم، فهذا القسم أعظم الأقسام
خطرًا وأشدها ضررًا في العامة والخاصة وما أفراده بقليل.
نعم لا ينكر أن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه يوجد في هذه
الطبقة رجال وقفوا عند ما حد الكتاب واستمسكوا في الدين بالعروة الوثقى وأضرم
الدين في قلوبهم نار الحمية، واستفز اليقين هممهم للنصرة الملية، إلا أنهم قليل
والموجود منهم قد يكون خامل الذكر، أو قاصر الاقتدار عما تطالبه به الشريعة في
إرشاد الأمة، وبالجملة فوجود أمثالهم لم يكن كافيًا في دفع الشرور الوافدة من
غيرهم ولولا ما لطف الله بهذه الأمة بسر توجه مولانا الخليفة الأعظم لعجل لها من
الوبال ما استحقته لسوء أعمالها ونبذها أحكام الله وراء ظهرها وانحراف قلوبها عن
مقاصد ولاة أمورها الصادقين. وقد نظر مولانا - أعزه الله ونصره - إلى عظم
هذا الأمر وهول عواقبه فأصدر إرادته السامية بالنظر في وجوه تداركه.
فيا للنعمة العظمى ويا للمرحمة الكبرى، هشت لها قلوب المؤمنين، وبشت
لورود بشراها وجوه الصادقين، وارتفعت أصوات التضرع إلى الله بتأييد شوكة
مولانا أمير المؤمنين، وتأييد دولته وإعلاء كلمته.
وإنه بعد التأمل في الأحوال المتقدمة وهي ظاهرة مشهورة، والوقوف على
سببها الذي أشرنا إليه وهو غير خفي على مدارك مولانا شيخ الإسلام وأعضاء
اللجنة الكرام نعلم أن أمير المؤمنين لم يرد من إصلاح الجداول أن يدرج في فنون
المدارس الإسلامية بعضها الكتب الفقهية مع بقاء التعليم على طرقه المعهودة في
المساجد وفي دروس بعض العلماء، فإن العلوم العملية إذا لم تُبنَ على عقائد
صحيحة وإيمان صادق لا تلبث أن تضمحل، ولئن ثبتت فإنما تسوق إلى أعمال
خالية عن النيات وخاوية من سر الإخلاص فتكون أشبه شيء بالباطلة في عدم
ترتب الأثر المطلوب عليها كما قدمناه، فلابد أن يكون مولانا الخليفة -أعز الله
نصره - قد أراد أن يوجه النظر إلى فن تقوى به العقيدة ويستحكم سلطانها على
العقول، ثم إلى تربية تذكر بما تنال النفس من ذلك الفن فيكون التذكار مستحفظًا لما
يصل إليها منه، ثم إلى فن الفقه الباطني وهو ما تعرف به أحوال النفس وأخلاقها
والمهلك منها كالكذب والخيانة والنميمة والحسد والجبن وسائر الرذائل والمنجي
كالصدق والأمانة والرضَا والشجاعة وسائر الفضائل ويضم إلى ذلك باقي علم
الحلال والحرام على ما هو مذكور في الكتاب والسنة ومتفق عليه بين أئمة الملة
الإسلامية، ثم إلى تربية تحفظ ذلك وتروض النفس على العمل بما تعلم منه، ثم
يكون التعليم في هذه الفنون المذكورة والتربية على وفق قواعدها مستندين إلى
الشرع الشريف بحيث تذكر مآخذها من القرآن والسنة الصحيحة وما صح أثره من
أقوال الصحابة وعلماء السلف الأول ومن حذا حذوهم كحجة الإسلام الغزالي وأمثاله
فالمقصد بالذات علمان وهما أصلان ومجموعهما ركن من الإصلاح والركن الآخر
التربية بما يهديان إليه حتى تصير العلوم ملكة راسخة تصدر عنها الأفعال بلا تعمل،
ثم يتبعهما فن آخر يقوى على الغرض منهما وهو فن التاريخ الديني خصوصًا
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه والخلفاء الراشدين ومن تأثرهم من
الخلفاء العثمانيين.
هذا إجمال ما إليه الحاجة من العلوم الدينية إلا أن كل واحد منها مقول على
المبدأ والتوسط والنهاية وكل منها غذاء لطبقة من الناس لا قوام لحياتها الدينية
والسياسية إلا به.
فلهذا نقسم طبقات الناس إلى ثلاث ونعين لكل واحدة منها حدًّا من هذه الفنون:
فالطبقة الأولى العامة من أهل الصناعة والتجارة والزراعة ومن يتبعهم ,
والثانية طبقة الساسة ممن يتعاطى العمل للدولة في تدبير أمر الرعية وحماتها من
ضباط العسكر وأعضاء المحاكم ورؤسائها ومن يتعلق بهم ومأموري الإدارة على
اختلاف مراتبهم , والطبقة الثالثة طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية ولا نريد
بهذا التقسيم منع الآحاد من كل طبقة أن يطلبوا الكمال الذي خص به من فوقهم ,
ولكن الغرض تحديد ما يلزم لكل واحدة ثم إن الله لا يضيع أجر العاملين.
***
التعليم الديني الابتدائي لطبقة العامة المسلمين
(الطبقة الأولي) هم أولاد المسلمين الذين يوقف بهم عند مبادئ الكتابة
والقراءة وشيء من الحساب يعلّمون ذلك إلى درجة محدودة ينتفعون بها في
معاملاتهم، ثم ينصرفون إلى أعمالهم الصناعية والتجارية والزراعية وما يشبهها
وأولئك كتلامذة المكاتب الرشيدية والعسكرية والملكية والمكاتب الخيرية الأهلية
فهؤلاء يهم الدولة منهم أن يكونوا في قياد الطاعة إن جاذبتهم أرواحهم سلموها وإن
استقرضتهم أموالهم بذلوها محتسبين ذلك في سبيل الله غير ساخطين ولا متكرهين
ثم لا يكون لوسوسة أجنبي منفذ إلى قلوبهم , فيجب أن يودع في أفئدتهم لبدايات
تعليمهم مواقد الحمية ومعاصم الأنفة الملية كما كان ذلك في نشأة الإسلام وبداءة
الخلافة العثمانية وكما هو معروف الآن عند الأمم الأورباوية مما تعلَّموه من أسلافنا
ولا تدرك هذه الغاية من أبنائنا إلا بعقيدة صادقة واستقامة ثابتة ومحبة خالصة ولهذا
ينبغي أن توضع لهم كتب التعليم الديني على الوجه الآتي:
أولاً: كتاب مختصر في العقائد الإسلامية المتفق عليها عند أهل السنة بلا
تعرض للخلاف بين الطوائف الإسلامية مطلقًا مع الاستدلال عليها بالأدلة الإقناعية
القريبة المنال والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة، ومع الإلمام بشيء
من الخلاف بيننا وبين النصارى وبيان شُبههم في معتقداتهم لتكون الخواطر في
استعداد لدفع ما يرد عليها من وساوس دعاة الإنجيل المنبثّين في كل قطر.
ثانيًا: كتاب مختصر في الحلال والحرام من الأعمال، وبيان الأخلاق
الخبيثة والصفات الطيبة والتنبيه على البدع المستحدثة التي لم يرد في الكتاب
فرضها ولا في السنة أثرها، وظهر في العامة ضررها مستدلاًّ فيه بآيات الكتاب
وأحاديث السنة مؤيدًا بأعمال الصدّيقين من سلف الأمة، ولابد أن يكون مدار
الكتاب تقرير أن الإنسان إنما خُلق ليكون عبدًا لله، فكل شيء دون الله ورسوله
مبذول.
ثالثًا: كتاب في التاريخ مختصر يحتوي على مجمل سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرة أصحابه من وجه ما يتعلق بالأخلاق الكريمة والأعمال العظيمة
وفداء الدين بالأرواح والأموال مع الإلمام بالسبب في تسلط الإسلام على الأمم في
وقت قصير مع قلة أهله وكثرة معارضيه وقوتهم وإثبات أن ذلك بسبب الصدق في
المكافحة والاتحاد في المجاهدة، ثم يتبع ذلك بتاريخ الخلفاء العثمانيين، كل ذلك
على وجه مختصر سهل التناول.
ثم هذه الكتب تكون للعثمانيين من العرب عربية ومن الترك ومن غيرهم
بلسانهم إن وجدوا وما يذكر فيها من آية وحديث يفسر باللغة الموضوعة فيها.
***
التعليم الديني الوسط للطبقة المرشحة للوظائف
(الطبقة الثانية) هم أبناء المسلمين الذين ينتظمون في المدارس السلطانية
والشرعية والملكية والعسكرية والطبية وما يتلوها، والذي يهم الدولة منهم أن
يكونوا أمناء لها حفاظًا لما استحفظوا عليه من شؤونها: الجندي منهم حامل لنفسه
على ذباب سيفه حتى ينتصر أو يموت، والمحكم منهم بفصل المخاصمات قابض
على ميزان العدالة ناظر إلى كفف النظام يرجح ما رجح فيه ويسقط ما سقط منه
فهو يتحرى الحق ويحكم به أو يموت، والمولى منهم آمرًا في إدارة أمور الرعية
آخذًا لمنظار الحذق والدراية؛ ليستبين ما يخفى من مصالح وما يدق من مسالك
أهوائها ليضبط الأعمال ويلزم الحدود ويوفر وسائل العمران، فهو يقيم للدولة ما
قامت به مصالح رعاياها إلا أن يحول دون ذلك الموت فيموت.
فهذه الطبقة بعد أن تشارك الطبقة السابقة في مبدأ التعليم الديني يزاد لها - بعد
ما تَقَدم - كتب أعلى من تلك الفنون نفسها فتوضع لهم في المدارس العالية والإعدادية
على الوجه الآتي:
أولاً: كتاب يكون مقدمة للعلوم يحتوي على المهم في فن المنطق وأصول
النظر وشيء من آداب الجدل.
ثانيًا: كتاب في العقائد يوضع على قواعد البرهان العقلي والدليل القطعي مع
التزام التوسط وإتيان الطريق الأقرب ومجانبة الخلاف بين المذاهب الإسلامية أيضًا
إلا أن يتوسع فيما بيننا وبين النصارى لإيضاح ما تستلزمه عقائدهم بوجه أجلى
وأوضح وتفصيل شيء من فوائد العقائد الإسلامية في تقويم المعيشة المدنية فضلاً
عن غاية السعادة الأخروية.
ثالثًا: كتاب يفصل فيه الحلال والحرام وأبواب الفضائل والرذائل ببيان أكمل
مما في البداية وتوضيح لأسباب الأخلاق وعللها وآثارها على وجه يقنع به العقل
وتطمئن به النفس، ثم بيان الحكم لبعض الأحكام الدينية وفوائدها في الحياة البشرية
مع الاستناد في هذا وفي سابقه إلى نصوص الدين وسير السلف الصالح كما تقدم،
ويكون مدار الكلام في الكتابين على ما يضرم الحمية في القلوب ويرفع النفوس إلى
مقام لا تطلب فيه إلا معالي الأمور.
رابعًا: كتاب تاريخ ديني يحتوي على تفصيل سيرة النبي صلى الله عليه
وسلم وسيرة أصحابه والفتوحات الإسلامية العظيمة في القرون المختلفة وما جاء به
الخلفاء العثمانيون من ذلك والإتيان على كل هذا من وجه ديني محض، فإن ذكرت
فيه الوجوه السياسية كانت تابعة للغرض الديني ويبين في هذا الكتاب ما كانت
تنبسط إليه سيادة الإسلام من أقطار الأرض ويودع فيه من العبارات ما يحرك
القلوب إلى طلب المفقود فضلاً عن حفظ الموجود، ثم تبسط فيه أسباب التقدم
الإسلامي بأدق مما كان في السابق.
وأبناء هذه الطبقة كالسابقين من إخوانهم يكفيهم أن يتعلموا هذه الكتب بألسنة
آبائهم، وما يذكر من النصوص العربية يفسر لغير العرب كما سبق ولا يلزم
لتربيتهم الدينية أن يتعلموا اللسان العربي إلا ما يفرض عليهم في العبادات وما
يتلونه من ذلك فلابد من إيقافهم على حقيقة معناه بالتفسير حتى يكون كل قائل عارفًا
بمدلول ما ينطق به ليترك الذكر أثرًا في الفكر كما هو مطلوب الشارع.
وقد يندرج في هذه الطبقة بعض من يناط بهم أمر التعليم في المدارس
والمكاتب الابتدائية إذا وجدت فيهم الأوصاف التي تؤهلهم لذلك من الحمية والعفة
ومحبة الدولة والوقوف عند أحكام الشرع الشريف مع التبصر في الممنوعات
والمطلوبات وتمييز ما هو من الدين عما ليس منه وإن خالف أوهام العامة.
***
التعليم الديني العالي لطبقة المعلمين والمرشدين
(الطبقة الثالثة) هم أبناء المسلمين الذين عقلوا ما تقدم من كتب الطبقتين
السابقتين وكشف الامتحان امتيازهم في فهمها وتخلقهم بالصفات المقصودة بوضعها،
فانتخبوا لذلك على أن يرقى بهم الدرجة العليا من العلم والعمل حتى يكونوا عرفاء
الأمة وهداة الملة، فيناط بهم التعليم الديني في المدارس العالية والإعدادية بل
والابتدائية إذا كثر عددهم وبهم يناط التعليم لأهل طبقتهم، فهؤلاء لا يكفي لإبلاغهم
الغاية المطلوبة للدولة فهم دراسة ثلاثة أو أربعة من الكتب الدينية، بل يجب أن
يزاد لهم على ما تقدم كتب كثيرة يزدادون بدراستها بصيرة في دينهم ويستوسعون
بها القدرة في البيان لإفادة غيرهم، فمن المعلوم أنه لا يكفي المرشد ما يكفي
للمسترشد، ولأجل هذا نقتصر في بيان ما يحتاجون إليه على ذكر الفنون دون
التعرض لأعيان الكتب إلا قليلاً، فلتكن الفنون على الوجه الآتي إن شاء الله:
أولاً: فن تفسير القرآن وهو أهم ما يحتاج إليه ليقرأ القرآن تفهمًا وتطلبًا لما
أودع الله فيه من الأسرار والحكمة، فالقرآن سر نجاح المسلمين ولا حيلة في تلافي
أمرهم إلا إرجاعهم إليه، وما لم تقرع صيحته أعماق قلوبهم وتزلزل هزته رواسي
طباعهم، فالأمل مقطوع من هبوبهم من نومهم، ولابد أن يؤخذ القرآن من أقرب
وجوهه على ما ترشد إليه أساليب اللغة العربية ليستجاب لدعوته كما استجاب لها
رعاة البقر وساقة الإبل ممن أنزل القرآن بلغتهم والقرآن قريب لطالبه متى كان
عارفًا باللغة العربية ومذاهب العرب في الكلام وتاريخهم وعوائدهم أيام الوحي فعلم
ذلك من أجود الوسائل لفهمه , فإن احتيج إلى وسيلة أخرى فأولاها مطالعة كتب
التفسير الذاهبة مذهب تطبيق مفاهيم الكتاب على المعروف عند العرب كتفسير
الكشاف وتفسير القمي النيسابوري ومن أخذ طريقهما.
ثانيًا: فنون اللغة العربية من نحو وصرف ومعانٍ وبيان وتاريخ جاهلي وما
يتبع ذلك ليتمكن بها من فهم القرآن والحديث.
ثالثًا: فن الحديث على شرط أن يؤخذ مفسرًا للقرآن مبينًا له مع اطراح ما
يخالف نصه من الأحاديث الضعيفة والاجتهاد لإرجاع الأحاديث الصحيحة إليه إن
كان ظاهرها يوهم المخالفة.
رابعًا: فن الأخلاق والآداب الدينية بتفصيل تام وإحاطة كاملة على نحو ما
سلك الإمام الغزالي في الإحياء مع تطبيق تلك القواعد الأدبية الشرعية على
الأصول المشهورة.
خامسًا: فن أصول الفقه من وجه ما يمكن من صحة الاستدلال بالنصوص
الشرعية ويوقف على كليات الشريعة ليستأنس بها في فهم الأحكام، ونرى أفضل
كتاب يفيد لهذا المقصد كتاب الموافقات للشيخ الشاطبي المطبوع في تونس.
سادسًا: فن التاريخ القديم والحديث، ويدخل في ذلك سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم بالتفصيل وسير أصحابه وتاريخ الانقلابات التي عرضت في الممالك
الإسلامية الأولى وتاريخ الدولة العثمانية، وما كان منها في إنهاض الإسلام من
كبوته التي كباها في القرون الوسطى بعد الحروب الصليبية مع التوفيق في أسباب
ما وصلت إليه الملة في هذه الأيام ليتبين أنه لا سبب لذلك إلا الجهل بالدين
والانحراف عن أحكامه وانشقاق عصا الأمة بالخلاف الذي لا طائل له.
سابعًا: فن الإقناع والخطابة وأصول الجدل لغرض التمكن من تقرير المعاني
في الأذهان وتثبيت العقائد في النفوس وإلزامها الأخذ بمكارم الأخلاق وفضائل
الأعمال والارتفاع بها عن دنايا الصفات وسفساف الأمور.
ثامنًا: فن الكلام والنظر في العقائد واختلاف المذاهب والبحث في أدلة كلٍّ،
لا لتحصيل العقيدة ولكن لزيادة البسطة في الفكر والسعة في الرأي ولا بأس بقراءة
بعض الكتب الحكمية الإسلامية لتكميل الإحاطة بوجوه المسائل العقلية.
فهذا جملة ما يلزم لتحلية نفوس هذه الطبقة بفضيلتي العلم والعمل ولم نتعرض
لفن الفقه في العبادات والمعاملات لأنه في العبادات سهل التناول من أفواه الطلبة وفي
المعاملات يشترك في طلبه المسلم والذمي والأجنبي إذ يضطر إليه كل ساكن في
الممالك العثمانية ليعرف كيف يطالب بحقه أو يدافع عنه.
أما سائر العلوم من اللغات والرياضيات والطبيعيات والنظامات وكل ما حددته
نظارة المعارف العثمانية فهي على رسمها كل مدرسة تتبع قانونها لا يضر شيء
منها بالدين، بل الدين يقويها كما أنها تقويه.
هذه الطبقة الأخيرة ينبغي أن تكون تحت نظر مولانا شيخ الإسلام خاصة،
وتكون إدارتها تحت عنايته في سلك مخصوص. ويدعى لها بالمدرسين المتبصرين
من أي أرض يوجدون بها وينتخب طلبة العلوم لها من أقوى الناس إدراكًا وأذكاهم
أخلاقًا ويراعى في الانتخاب كمال الدقة في الامتحان.
ثم لا يعطى الطالب منها شهادة ببلوغه الغاية من علومها وتأهله للتدريس إلا
بعد الامتحان الشديد في العلوم المتقدمة والبحث الكامل عن سيرته في أحواله
وأعماله والتحقق من تقدمه في الفضيلتين العلم والعمل.
التدريس في جميع تلك الدرجات إنما يقصد منه إشراب القلوب حب الدين
وتوقيره وجعله الغاية المطلوبة من كل عمل حتى تكون للملة وجهة واحدة يقصدونها
بأعمالهم فتلتئم قواها الروحية والمادية لخدمة الدين وتأييد حافظه الأعظم المدافع عن
بيضته حضرة مولانا أمير المؤمنين، فتكون الملة ملة مهيبة يخشى بأسها وتخاف
بوائق غضبها ويؤول بالدولة إلى علو الكلمة في سياستها الخارجية بعدما عادت
بركاته على المسلمين في راحتهم الداخلية.
وبالجملة فالقصد من إصلاح الجداول إنما هو إلى إحياء الملة، وقد كانت
كادت تموت والعياذ بالله.
ولهذا يجب أن يكون التدريس في أغلب العلوم المتقدمة خصوصًا في الأخلاق
والآداب أشبه شيء بالخطابة ترسل في المعاني إلى القلوب لتهزها وتستفزها من
مقارّ الخمول والغفلة إلى مقامات التنبه والبصيرة، ثم يتبع الدرس رعاية لأحوال
المعلمين وأعمالهم ومؤاخذة لهم إذا خالفوا حكمًا من أحكام ما تعلموه، أو قصروا في
عمل من لوازم ما اعتقدوه، وتذكيرهم في ذلك يوُثر في قلوبهم ويحرك الساكن من
خواطرهم.
ومن ثمة يجب أن يكون القائمون بالتعليم على أكمل الصفات العقلية وأفضل
الأعمال النفسية يراعى فيهم ذلك بقدر الإمكان.
وإن ثقتنا بوعد الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: ٦٩) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} (النحل: ١٢٨) وقوله:
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣٣) واعتبارنا بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وخبرتنا بأحوال
الأمم الأوربية والأسباب التي وصلت بهم إلى ما نراهم عليه في القوة والدراية، كل
ذلك يوجب لنا اليقين القطعي بأن إصلاح التعليم الديني على الوجه المتقدم يكون
نشأة حياة جديدة تسري في جميع أرواح المسلمين العثمانيين بل هو الذي سيفضي
في أسرع وقت إلى توحيد كلمة الإسلام وجمع أطرافه تحت كنف الدولة العلية
العثمانية رغمًا عن أنف كل مخاصم ومنه رأي هؤلاء العاجزين أن لا حافظ للدولة
ولا واقي للملة سواه، وأن جميع ما صرف في سبيله من المتاعب والنفقات فهو
أعود بالفائدة مما يصرف لأي عمل سياسي خارجي أو داخلي.
فإنه لا سياسة إلا بالقوة، ولا قوة إلا بالنجدة، ولا نجدة إلا بالوحدة، ولا
وحدة إلا بالطاعة، ولا حقيقة للطاعة إلا بالعقيدة الحسنة، ولا عقيدة إلا بحياة الدين،
ولا حياة للدين إلا بالتعليم حتى يجري على أحكام التجربة وليس ذلك إلا ما
عرضناه.
وإن جمهور المسلمين ممن يعرف أفكارهم في الأقطار العثمانية بل وفي
غيرها لا يرون دواءً لدائهم إلا رجوعهم لأصول دينهم في أخلاقهم وأعمالهم وإن
يكونوا يجهلون الوسائل إلى ذلك.
فالحمد لله الذي وفق الدولة - حرسها الله - لتقريب مرغوبهم وتحقيق أمانيهم.
هذا ما نرفعه إلى مقام شيخ الإسلام، فإن صادف قبولاً فذلك ما نؤمل ويؤمل
المسلمون وإن كانت الأخرى فقد أدينا ما حضر لنا على حسب عجزنا.
ونسأل الله أن يوفق مولانا أمير المؤمنين وأركان دولته إلى تقرير ما هو
أعلى من أفكارنا وأنجح منها في إصلاحنا، وإنا في جميع الأحوال نوالي الدعوات
الصالحات بنصر مولانا الخليفة الأعظم وتأييده وبقائه ظلاًّ لله ورحمة لعبيده، آمين.
***
كلام في الدعاة والمرشدين
وبقي في موضوع الإصلاح الديني كلام هو كالتتمة له فنتقدم لعرضه، وهو أن
المكاتب والمدارس المنشأة في الممالك العثمانية إن لم تكن قليلة بالنسبة للرعايا
العثمانيين، فالداخل إليها قليل بالنسبة إلى عدد الأهالي، فإن الجمهور الأعظم من
سكان القرى والأعراب المتنقلين في أكناف المملكة وأشباههم لا يرون ضرورة
لتعليم أولادهم ولا يقدِّرون التربية الحسنة حق قدرها، فإصلاح جداول التعليم في
المدارس لا تصيبهم فائدته بل يحرمون منها كما يحرم الكبار من العامة الذين
جاوزوا سن التعليم وهؤلاء وأولئك من جسم الدولة ولهم وظائف من الأعمال
يطالبون بأدائها والحال فيهم من الجهل ما وصفنا والمضرة اللاحقة بالدولة من
جهلهم هي كما بينا، فمن الواجب الالتفات إليهم بإصلاح أرواحهم لتستفيد الدولة
منهم فائدتها من سواهم.
وذلك لا يكون إلا بترتيب دعوة تنبههم إلى الواجب عليهم من تعليم أبنائهم
وتحْملهم على السعي في تربيتهم وتهذيبهم ثم تخدعهم عن أطباعهم وتلين من قساوة
قلوبهم، ثم إنهم لو رغبوا في التعليم وكلفت الدولة بإنشاء مكاتب لتربية أبنائهم
والإنفاق عليها لزادت عليها النفقات مع كثرة ما يلزمها من المصاريف في إدارة
شؤون المملكة فلابد أن يكون من وظائف الدعاة تحريض الموسرين والأغنياء أن
يبذلوا من فضلات أموالهم ما ينفق على إنشاء المكاتب وعمل التعليم فيها ويؤلفوا
لذلك لجانًا وجماعات في كل بلد وبقعة لتدبيره والقيام عليه تحت مراقبة من يقوم
بالدعوة فيهم، ثم يكون من وظائف الدعاة إلقاء الوعظ العام في المساجد والمجامع
ليذكروا الناس ما نسوا من دينهم ويعرفوهم ما جهلوا منه ويُشربوا قلوبهم حب الدولة
ويقرروا في نفوسهم بلطف البيان أن أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين
أولى بهم من أنفسهم وعلى ذلك يجب أن يكون لأهل الدين دعاة مرشدون ينبثون
بين العامة ليقفوهم على أمور دينهم ويبادروهم بالدواء قبل استفحال الداء.
وهؤلاء المرشدون يجب أن يكونوا على الأوصاف التي شرطناها في أهل
الطبقة الثالثة علمًا وعملاً، وبالجملة فلابد أن يكونوا من أطول الناس باعًا في
الفنون الأدبية الشرعية وأوسعهم علمًا بعلل الأخلاق وأمراض النفوس وأقدرهم على
التماس منافذ القلوب للدخول إليها بما يصلحها، ثم يكونوا أقوم الناس سيرة لا
يخالف عملهم قولهم فيكونون مثالاً للناس يحتذونه وقدوة لهم يتبعونها ثم لابد أن
يكون في كل قوم بلغتهم بل يجب أن يكونوا ممتازين بفصاحة اللسان وجودة المنطق
بين القوم الذين يرشدونهم ليقبلوا عليهم بالاستماع.
ومن هذا تلزم المبادرة إلى إصلاح الخطبة في مساجد الجمعة وتوليتها قومًا
يحسنونها ويدرجون فيها ما يمس أحوال العامة في تصرفاتهم المشهودة ويبينون لهم
مضار الفساد ويهدونهم إلى سبل الرشاد كما هو مقصود الشارع من فرض الخطبة
في الجمعة وهذا باب عظيم من الإصلاح إذا وجهت العناية إليه رجونا منه النفع
الكثير والخير الغزير.
فإن سأل سائل: أين الكتب التي توضع للطبقة الأولى والثانية من
المتعلمين؟ وأين الرجال الذين يصلحون للتعليم والتربية وأين الذين يقومون
بتربية الطبقة الثالثة وتهذيبها؟ وأين الذين يمكن للدولة أن تعتمد عليهم في إرشاد
العامة وتبثهم دعاة؟ ثم من أين توجد مصاريف هذه الأعمال، ثم كيف شرطت في
أهل الطبقة الثالثة أن يحصلوا تلك العلوم مع الإيغال فيها والوصول إلى حقائقها
وذلك يستدعي زمنًا طويلاً.
فالجواب: أما وضع الكتب للطبقتين فسهل جدًّا لو كلف أحدنا بوضعها لتيسر
له ذلك بمعونة الله - عز وجل - في أقرب وقت يمكن متى صدر الأمر بذلك تحت
نظر مولانا شيخ الإسلام.
وأما الرجال الذين يعلّمون في الطبقتين الأوليين وفي الثالثة أيضًا والذين
يليقون لوظيفة الإرشاد فهم إن تعسَّر وجودهم في بلد واحد أو مدينة واحدة فالبحث
عنهم في أطراف بلاد المسلمين يهدي إلى الكفاية منهم لبداية المشروع متى صدقت
النية وخلصت الوجهة لله وللحق في البحث والاختيار وأمثال أولئك الرجال أهل
الدين والاستقامة قلما يقفون بأبواب الأمراء أو يتطلبون المناصب إلا إذا رأوا في
ذلك مصلحة لدينهم فهؤلاء لا يُعرفون إلا بعد التفتيش عليهم ثم إذا حسنت البداية
وتبعها الاجتهاد مع الإخلاص في العمل وصل الأمر بتوفيق الله إلى الكمال
المطلوب.
وأما طول الزمان في التعليم على أهل الطبقة الثالثة فقد علمنا أن الرؤساء
الروحانيين من الطائفة النصرانية يقيمون في تعلم لاهوتهم خاصة خمس عشرة سنة
بل وعشرين زيادة على الزمن الذي صرفوه في سائر العلوم، ومن المقرر عندنا أن
ما يشتغلون به هو الباطل فليس من المنكر ولا الغريب أن يطول على طلاب الحق
زمن البحث للإحاطة بأطرافه حتى يتمكنوا من نصره وتأييده.
وأما المصاريف، فإنه متى وجد ولو قليل من الرجال العارفين الصادقين
(وهم موجودون في زوايا الخفاء يظهرهم البحث الصحيح والطلب الدقيق) وقاموا
في الناس بالنصيحة من قبل الدولة وظهر من حسن تصرفهم واستقامتهم ما أكد ثقة
الناس بهم، فلا تقصر أيديهم عن تخليص الأموال الوافرة من أيدي المترفين من
أهالي المملكة العثمانية لتصرف في هذا السبيل وأقل تجربة تحقق هذا الذي نقوله
متى فوض الأمر لأهله فإننا لم نأتِ بشيء من الكلام في هذا الباب إلا عن خبرة
بأحوال إخواننا المسلمين وطول ممارسة لأخلاقهم.
والصادقون في خدمة الدين لا يدركهم اليأس من إصلاحه فإنه لا ييأس من
رَوْح الله إلا القوم الكافرون.
هذا مجمل ما حضر لخواطر العاجزين وفي التفاصيل ما يطول به القول
أضعافًا مضاعفة فإن دعينا إليه لم نتأخر عن بثه.
والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
... ... ... ... ... ... ... جمادى الثانية سنة ١٣٠٤
يقول جامع الكتاب: هذه نصيحة الرجل الذي كان يشي به أهل الفساد في
مصر للسلطان بأنه يبغض الدولة فليأتِنا أحد بمثل نصحه للدولة في هذه اللائحة
وفي اللائحة التالية لها.
وأزيد في المنار أن ما حمل المرحوم على هذه الكتابة يحدث مثله كثير،
فما زلنا منذ عقلنا نقرأ في الجرائد العثمانية أنباء صدور الإرادات السلطانية بالعناية
بتعليم الدين، وبث الإرشاد في نفوس المسلمين، فيستبشر المغرورون ثم يمضي
الزمان ولا تزيد الدولة إلا إهمالاً للدين في مدارسها، فيعلم العاقل السر في الإخبار
بتلك الإرادات السنية. وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه، فافهم!